(الصويري- لبنان): بالكاد يتبقى لها مكان فارغ في صفحات دفترها البالي، لكنّ الصغيرة أسيل تصر على الاستمرار في الكتابة بالعناد المميز لسنواتها العشر. عند انتباهها لنظرة الصحفية تقطع والدتها، أم محمد، روايتها عن هروبها وعن الحرب والموت لتغيير المحادثة. “هل رأيتِ؟ تمضي اليوم كله في الكتابة. في البداية، بما أنه لم يكن لدينا ورق، كانت تحتفظ حتى بعلب الجبن والشاي لفتحها والكتابة داخلها”. الصغيرة، ذات العينين الواسعتين والفضوليتين والشعر الطويل المضموم على هيئة ذيل حصان، تتقلب في مقعدها كما لو أنها تسعى للعودة إلى التخفي. “عندما وصلنا، أمضت الشهرين الأولين متشبثة بوالدتها. كانت الأكثر انعزالاً من بين الأشقاء الثلاثة”، تشرح خالتها أحلام. “ستبقى منغلقة على نفسها، إلى أن يصل أطفال آخرون”.
لكنّ الأطفال الثمانية الذين يقيمون مع أم محمد وشقيقتيها لا يخرجون إلى الشارع للعب مثل أطفال آخرين. يمضون القسم الأكبر من الوقت بين جدران الزنزانة رقم 3 في السجن الفلسطيني في الصويري، البلدة الحدودية اللبنانية، حيث يقيمون منذ أن نجحوا قبل بضعة شهور في الهروب من مسقط رأسهم في سـوريا بعد شهور من الحصار العسكري والقصف. المكان الوحيد الذي وجدوا فيه ملاذاً كان السجن القديم المهجور، الذي استعملته القوات الفلسطينية خلال المرحلة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية كمركز توقيف واستجواب وحوَّله القرويون إلى إسطبل عندما تحسنت الأحوال. منشأة قذرة، باردة وغير صحية حيث مائة وخمسون شخصاً -قسم كبير منهم، أطفال بأعمار صغيرة يتكاثرون في الممرات- يتكدسون -إلى ثلاث وأربع أُسر في الزنزانة، في الحالات الأسوأ- فيما يشكل تناقضاً ظاهرياً: مكان كان ينبغي أن يكون مرهوباً يتحول إلى الأمل الوحيد لمدنيين مثل أم محمد ومَن معها.
“عندما وصلنا، قبل أربعة أشهر ونصف، أحضَرنَا السائق الذي عبرنا معه الحدود مباشرة إلى هنا، لأنه كان يقول إنها البناء الوحيد الذي يوجد فيه مكان شاغر في المنطقة”، كما توضح. “هي كانت تعلم تماماً إلى أين كانت ذاهبة، ذلك أن شقيقتها أحلام وصلت قبل سبعة أشهر، الأمر الذي يجعلها واحدة من المقيمات الأكثر قدماً في السجن المعاد تحويله إلى مركز للاجئين. زنزاناته الأربع عشرة، التي يقطنها ثلاثون أسرة، مضى على إشغالها من قِبَل سوريين ما يقرب من عام في مثال بيِّن على الحالة اليائسة التي يعيشها لبنان، البلد ذو الأربعة ملايين نسمة حيث تسبّب وصول أكثر من أربعمائة ألف لاجىء سوري مُسَجَّل في أزمةَ إنسانية لا تعلم الحكومة، المأزومة دائماً، أو لا تريد، أو لا تستطيع، مواجهتها. وإذا أضفنا إلى هذا الرقم ستمائة ألف سوري يعملون في لبنان من قبل الحرب ولا يستطيعون العودة الآن، فإن الأمر يصبح متعلقاً بمليون من الأشخاص: عامل زعزعة لاستقرار بلد ذي جروح طائفية عميقة.
قبل عام، لم يتجاوز عدد اللاجئين المسجلين لدى هيئة الأمم المتحدة عشرة آلاف. أجبر عدم وجود المخيمات المدنيين اللبنانيين على تحمل مسؤولية إيواء اللاجئين، في حال لا يمكن تحملها. المدنيون القادمون من سوريا اعتادوا على الشكوى من أنه لم تبق غرفة شاغرة في بلد الأرز، سواء أكانت للإيواء أو للاستئجار، حتى الأراضي القفر أجِّرَت ليقيم الأكثر فقراً خيمهم فيها.
المساعدات الدولية، المسؤول عنها المنظمات غير الحكومة وACNUR (وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة)، تعاني بشكل متزايد من الاقتطاعات المالية أمام نقص الالتزام الخارجي وتوجد حالياً في وضع مأساوي، استناداً إلى تصريحات نينيت كيلي، ممثلة الوكالة في لبنان: “خطط المساعدة تم إعدادها، فريق العمل جاهز، لكن التمويل ينفد. الوكالات ترى نفسها مضطرة إلى الاختيار بين مشاريع متساوية في ضرورتها. وهكذا، فإن تمويل مشاريع حيوية تؤمن الغذاء، الماء الصالح للشرب، تعليم الأطفال، المساعدة الصحية والملجأ للقادمين الجدد هي أمور مستحيلة ببساطة”.
سجن الصويري هو مثال جيد على التكدس والعوز الشديد الذي يحياه اللاجئون السوريون في لبنان. “لا شيء أسوأ من هذا”، يصيح رجل عند مدخل الزنزاية رقم 3. إنه أحمد، شقيق أم محمد، والرجل الوحيد المسؤول عن 25 عضواً في العائلة: بالإضافة إلى الأحد عشر الشاغلين لهذه الغرفة، فإن أحمد وزوجته وأولاده وشقيقة زوجته مع عائلتها يقيمون في زنزانة أخرى واقعة في الطبقة العليا. “مضى عليَّ سبعة شهور هنا، ولم أستطع العثور على عمل بعد”، يقول شاكياً.
قدمت العائلة من المعضمية، إحدى ضواحي دمشق الواقعة قريباً من داريا، التي عانت كثيراً مثل الأخيرة بسبب القمع. “عمليات القصف بدأت مع بداية المظاهرات، لكن منذ بضعة أشهر أصبح الوضع شديد الصعوبة”، تقول أم محمد. “الحصار العسكري يمنع دخول الأغذية، الأطفال صاروا يعانون من الجوع. لم تكن هناك كهرباء ولا ماء. كثير من الأصدقاء بقوا هنالك محاصرين، ولا يستطيعون الخروج”. زوجها، مثل رجال آخرين من العائلات التي تشغل هذا السجن، بقي في المعضمية “مدافعاً عن البيت”.
أبو سعيد وأبو ربيع، العم وابن أخيه رغم فارق السنوات القليلة بينهما، اتخذا القرار فعلاً بمغادرة المعضمية مع عائلتيهما. “في الحالة المعاكسة، كان أولادنا سيموتون من الجوع”، يقولان ذلك جالسَين في الزنزانة التي يشغلها الأول، غرفة ذات جدران متهالكة مع بقع كبيرة بسبب الرطوبة حيث تُعلق بعض الأغطية على حبل لترسم الحدود بين فراغ تم تحويله إلى مخزن والمطبخ: الباقي يتألف من فُرُش ممددة على الأرض ومدفأة منحتهم إياها “التعاون” النرويجية. عبَر هذا الخياطان الحدود -الواقعة على بعد أربعة كيلومترات بالكاد من هذا السجن- قبل شهر ونصف، بعد تعرض بيت أبو ربيع للقصف بينما كانت العائلة بداخله. “في البداية، لم نكن مع الثورة، وخاصة مع وسائلها، ليس من المنطقي مواجهة سلاح النظام بشكل سلمي. وهكذا، كنا نقوم بعملنا فقط. رد فعل النظام دفعنا إلى الالتحاق بالثورة”، يقول أبو سعيد بينما يداعب رأس ابنه الصغير، ذي العامين من العمر والابتسامة الصافية.
“ذلك هو ما دفعنا إلى المساعدة وحتى إلى الانضمام إلى الجيش السوري الحر. مات أخونا شهيداً وهو يقاتل. لكن لو لم تتعرض زوجتي للإصابة، لما كنا غادرنا”، يواصل أبو ربيع كلامه قبل أن يمشي الخطوات القليلة التي تفصل الزنزانة عن الزنزانة الواسعة التي تشغلها زوجته ووالدته وأولاده واثنان من أشقائه مع عائلتيهما: في المجمل ثلاثة عشر شخصاً. كومة من الفُرُش تشي بالعدد الكبير لشاغلي الزنزانة. في إحدى الزوايا، عدة أسطوانات غاز تستخدم كمطبخ، لكن ليس هناك أغذية على ما يُشَاهد. والدة أبو ربيع تأخذ بزمام الحديث بشكل سريع.
“القذيفة ضربت جدار الغرفة. الجدار وقع فوقنا”، تشرح مضطربةً أم حسان، خمسة وخمسون عاماً. حسبما تتذكر، كان يوماً رهيباً من القصف. “سُوِّي بناءان بالأرض بسبب القذائف خلال ساعتين. في حيِّنا مات أربعون شخصاً، خمسة عشر منهم معروفون، خلال هاتين الساعتين فقط”. “كلنا تعرضنا لإصابات كبيرة أو صغيرة: أصيب الأطفال بخدوش، لكن زوجة ابني تلقت ضربة في الرأس”، تواصل. عـدم وجود مستشفيات في المعضميـة -في المشفى الميداني استطاعوا فقط التحقق من خطورة الإصابة بواسطة التصوير الشعاعي- جعل العائلة تتخذ قراراً بالهروب.
“سحبناها بين أربعة أشخاص”، يشدد أبو ربيع مداعباً ركبة زوجته، أم محمد، الشابة الواهنة المستلقية على الأرض. الجزء الأيسر من جسمها يُظهر أعراض شلل واضحة. تبلغ ثمانية عشر عاماً من العمر فقط وهي تتحمل مسؤولية ولدين صغيرين. توضح حماتها أنها تزوجت في سن الثالثة عشرة. “أمضيتُ خمسة عشر يوماً بدون أن أستطيع الحركة”، تبين الفتاة. “لو أنهم لم يصلوا إلينا بالقذائف، لما كنا غادرنا منزلنا أبدا”، كما تقول.
في الزنزانة رقم 3، الواقعة في الطبقة السفلى من السجن، تروي هناء الحازمة والمتيقظة قصة الحادث الذي أفقد عائلتها الصبر وحملهم على الهرب من المعضمية. “كان ذلك في أيلول/سبتمبر الماضي، كنا في الصف عندما قصفوا المدرسة. خَبَّأنَا المدرسون إلى أن جاء الجيش السوري الحر لنجدتنا”، تشرح الطفلة، مشيرة إلى الفصيل الثائر الذي رفع السلاح ضد النظام. “شقيقتي كانت في المدرسة المجاورة، ولم أكن أعلم إن كانت حية أو ميتة. كنتُ مرعوبة” تقول مشيرة إلى أسيل، التي تحول بصرها لوهلة عن الدفتر للاستماع إلى هناء. والدتها، الجالسة إلى جانبها، امتقع وجهها فجأةً عند تذكِّر اليوم الذي جعلهم يغادرون الوطن.
“الطفلة تستيقظ أثناء الليل على الكوابيس. ترى القصف في أحلامها”، تتمتم الوالدة قبل أن تعود أسيل إلى الانخراط في الكتابة. مشكلة تعليم الأطفال الذين أضاعوا عاماً مدرسياً آخر في سوريا تتحول إلى حاجة ملحة بين الأسوار الباردة والرطبة للسجن. لا توجد ألعاب أطفال، لا يوجد بسكويت، لا توجد كتب ولا أقلام. لا يوجد شيء يمكن أن يسلي الأطفال، باستثناء سلاح بلاستيكي يتنافس عليه الأطفال الأكبر سناً عند المدخل. “حاولتُ تسجيلهم في المدرسة المحلية عندما وصلت. في البداية قالوا لي إن ذلك غير ممكن لأن العام الدراسي قد قطع شوطاً كبيراً . فيما بعد، قالوا إنهم لا يعلمون إن كان سيتوفر مكان لهم في العام القادم”، تقول أم محمد. ولهذا بدأتْ شقيقتها أحلام، الطالبة في إدارة الأعمال، بإعطاء دروس للأطفال اللاجئين في مسجد صويري. في الشهور السبعة الأخيرة، لم تستطع هذه المرأة أن تجد عملاً في لبنان.
الأطفال، يتأسف الكبار، هم مرتع للحشرات في هذا المكان، الأمر الذي يؤكد مخاوف وزارة الشؤون الاجتماعية، التي أبلغت عن وجود وبائي الجرب والقمل بين اللاجئين. ونظراً للظروف غير الصحية للحياة، فمن المنتظر أن تتكاثر المشكلات الصحية. في الطابق العلوي، يُظهر أبو سعيد ندبة في لوح الكتف ناتجة، كما يشرح، عن لسعة عقرب. الأمراض تبدو أمراً لا يمكن تفاديه بين أسوار السجن. “بقينا عشرة أيام و نحن ننظف روث الحيوانات” تقول هناء، شقيقة أسيل الكبرى، مع التعبير عن الاشمئزاز بينما ترفع يدها اليمنى نصف متر: حسب الطفلة، كان هذا حجم الفضلات الواجب تنظيفها. “كان هناك خفافيش حتى، والرائحة كانت لا تُحتمل”، تعقِّب والدتها، مشيرة إلى نافذة صغيرة بقضبان، مغطاة حالياً بالبلاسيتك، تمثل التهوية الوحيدة للزنزانة. استغرق الأمر شهراً لنتخلص من الرائحة”، تضيف مع إيماءة بأنفها. لم يتمكنوا من ذلك: نتن المواسير والروث يسود في كل غرف السجن المهجور.
“ليس هناك خصوصية، ولا يعجبنا الاختلاط برجال ليسوا من عائلتنا”، تأسف أم محمد. “ونحن محظوظون، لأن زنازين هذه الطبقة لها حمام خاص: في القسم العلوي، الجميع يشتركون في المرحاض نفسه”، تقول مشيرة إلى فتحة في الجدار تقود إلى مرحاض مثير للغثيان حيث، إضافة إلى ذلك، وُضعت أسطوانة غاز صغيرة تقوم مقام المطبخ.
في كل مرة يمرض فيها أحد الأطفال في سجن الصويري، وهو اتجاه يتنامى باطراد بالنظر إلى شروط الحياة غير الصحية، يقوم والداه بدفع 25 ألف ليرة لبنانية، حوالي 12 يورو، من أجل الوصول بسيارة إلى المستشفى الأقرب، الواقع في منطقة التنايل. لا أحد يغطي نفقات الاستشفاء لأنهم ليسوا مسجلين كلاجئين، وفعل ذلك يكلف المزيد من المال. “سافرتُ مرتين إلى زحلة من أجل التسجيل لدى وكالة غوث اللاجئين ACNUR”، تشرح أم محمد. “في المرتين دونوا أسماءنا وقالوا لي إنهم سيخطرونني من أجل إضفاء الطابع الرسمي على الأوراق، لكن حتى الآن لم يفعلوا ذلك. لديهم ما يفوق طاقتهم. وأنا لا أستطيع إنفاق المزيد من المال على التنقل”.
الحياة في سجن مهجور لا تعني أنه ليس هناك نفقات. اللاجئون يدفعون نفقات توريد الكهرباء -الخاص، نظراً للمشكلات اللبنانية (في هذا القطاع)- وخزّان المياه الصالحة للشرب، الأمر الذي يتطلب 5 يورو شهرياً من كل عائلة. المنظمات غير الحكومية، كما يشتكي اللاجئون، مرت بهم “مرتين خلال أربعة شهور، والأغذية التي يحضرونها لا تكفينا حتى لأسبوع واحد”. عائلة أم محمد تفصل ما هي احتياجاتها. “نحن هنا ثلاثة عشر شخصاً، نحتاج خمسة أكياس من الخبز كل يوم. لا يصلنا إلا الخبز والرز، وهذا نأكله مطبوخاً، ولا شيء غير ذلك. مضت علينا شهور لم نأكل فيها لا الفواكه ولا المنتجات الطازجة”.
المال القليل الذي أحضروه معهم كان يُستهلك خلال هذه الشهور. “هناك من يُضطر للعودة إلى سـوريا لأنه لا يملك المال من أجل البقاء هنا”، تؤكد أحلام، لافتة النظر إلى ظاهرة جديدة: العودة إلى الحرب مكرهين بسبب البؤس. أسألهم إلى أين يذهبون. “إلى أي مكان”. “كل شي مدمر. ليس هناك مكان في سـوريا لم يتعرض للقصف”، تؤكد أم حسان في الزنزانة الأخرى.
الذين قابلناهم يقولون إنهم هنا، في السجن الفلسطيني، أفضل مما لو كانوا في مخيم للاجئين. “أتينا بحثاً عن الحرية، وليس لكي يحبسوننا. لهذا ثُرنا، من أجل الحرية. وسوف ننتصر، إن شاء الله”، تقول أم محمد. “الثمن باهظ جداً، لكننا لا نندم. نندم فقط على الأرواح المفقودة، على شهدائنا، أما عن كل ما تبقى، فلا. النظام يقتلنا مثل الحيوانات”، تقول أم حسان مع موافقة عموم أقربائها. “أبناؤنا شاهدوا عنفاً غير معقول لا أحد كان ينبغي أن يراه. يحكموننا كما لو أننا من الماشية. لهذا علينا أن نحرر سـوريا من هذا النظام”، يقول أبو ربيع. فقط زوجته، أم محمد، شاحبة الوجه، شبه المشلولة في فراشها، لا تُظهر تصميماً كهذا. “في البداية كان التمرد ضرورياً، لكن مات أناس كثيرون”، تقول قبل أن تسكتها حماتها المصممة. “قولي للقادة الدوليين إننا لا نريد طعاماً ولا دواء. لا نريد مساعدة إنسانية، ما نريده هو التخلص من بشار الأسـد”.
ترجمة: الحدرامي الأميني
موقع: بريوديسمو أومانو
http://periodismohumano.com/en-conflicto/refugiados-en-la-celda-numero-3.html