(الصورة: تمثال”الساعات” للفرنسي “سيزار” أمام “محطة الشمال” في باريس)
*
يتساءل الصديق العزيز الأستاذ “بيارعقل” صاحب موقع “شفاف الشرق الأوسط” الإلكتروني عن السر الكامن وراء لجؤ الجهات الرسمية وغير الرسمية في منطقة الخليج إلى تقديم ساعات المعصم – حصريا ودون غيرها – كجوائز ومكافآت لمن يريدون تكريمهم والإحتفاء بهم. ويضيف قائلا: هل يتعلق الأمر يا ترى بتقدير تلك الجهات لقيمة الوقت؟ أو يتعلق بإرسال رسالة حول ضرورة عدم إهداره، وإستغلاله إستغلالا أمثل؟
وإجابتي المبدئية هي “لاهذا ولا ذاك!”. فالوقت في عالمنا العربي بصفة عامة ضائع ومهدر بوحشية، ولاقيمة له سواء عند العامل او رب العمل او المسئول أو الطالب أو الأستاذ، وسواء في الشارع أو المنزل أو الجامعة أو مواقع العمل الرسمية والخاصة، لأننا لم نربي أجيالنا منذ الصغر على “الوقت” كقيمة من قيم التقدم والإرتقاء مثلما يفعل الغربيون واليابانيون وسائر الشعوب الآسيوية مثلا. وعليه فلا الموظف يلتزم عندنا بمواعيد الحضور والإنصراف، ولا الطالب يستغل وقته جيدا في مذاكرته لدروسه وإنجازه لواجباته المدرسية، ولا المثقف يحرص على حضور الفعاليات الثقافية في المواعيد المعلن عنها مسبقا، ولا الإنسان العادي يكترث بتنظيم مواعيد نومه وإستيقاظه وترفيهه وتناوله لوجباته، ولا المبدع يضع جدولا يوميا منظما للقراءة والكتابة والتأليف وغيره (إلا فيما ندر).
وليسمح لي الصديق العزيز بيار أن ألتقط الخيط من تساؤلاته لأستعرض شيئا مما تحتويه الذاكرة عن شئون ساعة المعصم وشجونها في منطقة الخليج تحديدا، في زمن جيلنا الخمسيني.
حينما كنا صغارا كان الواحد منا يبذل أقصى ما يستطيع للتفوق والنجاح في صفه المدرسي، على أمل أن يشفع له ذلك بوضع إسمه في قائمة المكرمين ولوحات الشرف، مع حصوله على جائزة تقديرية من مدرسته، لم تكن وقتها لتتجاوز كراسة جديدة من فئة الستين صفحة، أو في أفضل الأحوال قلم حبر من نوع “باركر” أو “شيفرز” أو علبة كاملة من أقلام الرصاص الملونة. وكان هناك منا من يجتهد على أمل أن يحصل من والده على مكافأة في صورة ساعة معصمية، كي يتباهى بها أمام سكان الحي (ولاسيما الفتيات منهم) عن طريق رفع أكمام قميصه أو ثوبه قليلا كي تظهر الساعة وهي تتدلى من معصمه الصغير.
ذلك أن ساعة المعصم وقتذاك كانت دليل وجاهة وترف، وأيضا إشارة إلى أن مالكها صاحب وظيفة حكومية أو عمل خاص، ويقرأ ويكتب، وبالتالي يستطيع فك اسرار الأرقام والعقارب التي تحتويها تلك السلعة المعقدة القادمة من وراء البحار.
ولأن مجتمعاتنا الخليجية كانت حينذاك في بدايات نموها وتطورها، وكان السواد الأعظم من أبنائها فقراء وبالكاد يستطيعون توفير مستلزمات أسرهم الضرورية، فإن الساعات التي كان الآباء يهدونها إلى أبنائهم المتفوقين لتحفيزهم على المزيد من الدراسة والتعلم كانت من النوعيات الرديئة قليلة الثمن.
وأتذكر أن المحظوظ منا كان ذلك الذي يكافأه والده بساعة معصم من نوع “ويستند” السويسري الأثير ذات المينا السوداء والأرقام والعقارب الخضراء التي كانت تضيء اوتوماتيكيا في الليل. وهذه، التي إرتبط إسمها بوكيل حصري في كل الخليج هو “يعقوب يوسف بهبهاني” كانت، خلافا لغيرها من الساعات، تتميز بسيرها المعدني المذهب او الفضي القابل للشد والاقفال بحسب قطر معصم اليد. أما الحصول على ساعات فاخرة من نوعي “رولكس” و “أوميغا” فكان حلما من الأحلام البعيدة المؤجلة. وإنضمت إلى النوعين الأخيرين من الساعات في بداية الستينات، ساعة لم تكن في قائمة أحلامنا هي “إترناماتيك”، لكن دعايات المجلات المصرية جعلتنا نحلم بها. إذ كانت هذه المجلات ، وتحديدا “المصور”، تفرد في كل عدد من أعدادها صفحة كاملة للحديث عن مزاياها. فكانت تقول لنا: “إنها تعمل بدرجة الكمال سنة بعد سنة .. إنها لا تتأثر بالعوامل الخارجية.. إنها تمنح المواطن المصري والعربي الأمان التام بإعطائه البيان الدقيق للوقت .. إنها في منتهى الرقة.. إنها تعطيك تاريخ اليوم اوتوماتيكيا .. إنها تباع في شرق السعودية لدى عبدالله علي خاجة، وفي البحرين لدى يوسف أحمد الساعي، وفي قطر لدى قاسم وعبدالله درويش فخرو، وفي الكويت لدى عبدالحميد بهبهاني.
وأتذكر أن أول ساعة إشتراها لي والدي كمكافأة لنجاحي وتفوقي في نهاية المرحلة الإبتدائية كانت من نوع “فافرلوبا” السويسري. حينها لم يفته أن يلقي علي محاضرة حول ضرورة الإعتناء بها، وشحنها يدويا في مواقيت معلومة، وعدم تعريضها للمياه، كي لا تعبط وتخسر العائلة ثروة كبيرة، مضيفا أنه إشتراها بـ “الشيء الفلاني من متجر صديقه يوسف بن أحمد الساعي” الذي كان وكيلا حصريا لساعات “فافرلوبا” في البحرين وشرق السعودية. أما الساعة الثانية التي أهديت لي بعد إتمامي للمرحلة الإعدادية فكانت من نوع “جوفيال” الفرنسي، وقد خسرتها في عراك يدوي مع أحد الزملاء المشاغبين. في كلتا الحالتين لم اكن سعيدا بالساعتين لسبب بسيط هو أن سيرهما كان جلديا وليس معدنيا.
ومما أتذكره أيضا أن الكثيرين من أقراني ممن حالفهم الحظ بإمتلاك ساعة معصمية كانوا لا يستطيعون الإجابة بدقة إذا ما سألهم شخص ما عن التوقيت، لأن مقرراتنا المدرسية وقتذاك لم تكن حريصة على تدريس الوقت وكيفية إستثماره إستثمارا أمثل، ولا كانت مهتمة بتدريب الطلبة على إجابات تتعلق بالتوقيت، وإنما كانت تكتفي بتعليمنا نشيدا يقول مطلعه “أبي إشترى لي ساعة …فلم أنم من الفرح”. كان هذا، بطبيعة الحال، في الماضي أي قبل أن يطرح اليابانيون في الأسواق الساعات الرقمية من تلك التي تخبرك شاشتها دون عناء عن التوقيت، بالساعة والدقيقة والثانية!
وفي اعتقادي ان حرص الحكومات والشركات والمؤسسات الخليجية على تكريم موظفيها وكبار زوارها والمتعاملين معها بإهدائهم ساعات المعصم الفاخرة حصريا هو تقليد ترسخ في مجتمعاتنا، حتى صارت ظاهرة خليجية بإمتياز بتأثير مما دأبت على فعله شركات النفط الأجنبية (مثل بابكو في البحرين، وأرامكو في السعودية) وغيرهما من تلك التي اكتشفت النفط في بلادنا وصدرته، وبنت منشآته، ودربت العاملين فيه.
فتلك الشركات كانت تحرص، أثناء إقامتها لحفلات تكريم موظفيها، أن تهدي لهم ساعات تحمل شعارها كمكافأة لهم على إتمام سنوات معينة من العمل معها، أو إتمامهم لساعات طويلة من العمل دون التسبب في حوادث واصابات. ولأنها كانت تدرب موظفيها وعمالها المحليين على إحترام الوقت، وتغرسه في وجدانهم كقيمة وأسلوب حياة من أجل الارتقاء والنهوض، إلى الدرجة التي صاروا معها مميزين عن غيرهم لجهة أوقات إستيقاظهم وكيفية استغلال اوقات فراغهم وعطلاتهم. فإن ساعة المعصم كانت مكافأة في مكانها وتحمل رسالة هادفة تتسق مع ما غــُرس فيهم.
elmadani@batelco.com.bh
البحرين