أحمل العلم الفلسطيني من الورق الصغير الرقيق، وألوّح به من نافذة سيارة تقودها هبة. اليوم، التظاهرة دعماً لانتفاضة الأقصى ليست كغيرها. التظاهرات السابقة، على باب جامعة القاهرة أو أمام مدخل مسجد السيدة زينب أو بالقرب من ضريح سعد، كلها ضيقة، محصورة ببضعة أمتار يرسمها «كوردون» من الصفوف المتراصة لجنود الأمن المركزي. والمتظاهر بداخلها مثل المتسمّر بالنقطة المسموح له إحتلالها. صوته وحده يتظاهر، وجسمه ثابت حتى لحظة الانفضاض.
اليوم التظاهرة مختلفة. في باحة جامعة الأزهر؛ هي أيضا مقّيدة بأسوارها العالية وبحشود الجنود أنفسهم الملتفين على مداخلها ومخارجها، بشريطَين أو ثلاثة من «الكوردونات». ولكن هذه الجامعة لها باحة «بَراح»، مساحة أوسع لحركة الأجسام المتظاهرة. أضع الحجاب على رأسي قبل الدخول الى الباحة، بحماسة حذرة. لا أستمع مطوّلا الى المقارنات التي يقيمها الكهول من المتظاهرين بين «الأمس واليوم»: بين معارضة يسارية ومعارضة إسلامية. انها أشبه بالتفجّع، تضعف الجهد الذي أبذله من أجل تلْطيف غربتي وعبثية مشاركتي.
فقط أدخل الى الأزهر ويوصلني سَيل من النساء الى المسجد المخصّص لهن، حيث يُفترض بنا ان نصلّي جماعةً قبل القيام بالتظاهر. أثناء الصلاة ألاحظ الفرق بين النساء المتجاورات. الأقلية النادرة جداً، مثلي، محجّبة حجاباً «ظرفيا»: منديل ملفوف حول الرقبة ومربوط بعقدة رخْوة تحتاج بين الفينة والأخرى الى إعادة «ضبط». ومحجبة «أصلية»، مثل هبة، حجابها مثبّت على رأسها، لا يهزّه ريح ولا حركة، ويمتدّ حتى ثلاثة أرباع جسمها. ثم فئة النساء المنقّبات؛ ويقتصر المكشوف منهن على قماش وقفازات سود، وعيون تبرز أو تختفي خلف قماش من «الشاش» الرقيق، بحسب درجة تشدّد صاحبته. والأكثرية الساحقة موزّعة بين محجبة «أصلية» ومنقّبة نقابا «متحررا» أو «متشددا».
الصلاة تطول، ربما أشعر بذلك لأنني لا أشارك بها. أترقّب لحظة الخروج للتظاهر في الباحة الخارجية. ولكنني مع ذلك أؤخذ على حين غرّة: فما إن تبلغ الصلاة نهايتها حتى يصرخ صوت أنثوي جهور من باب المسجد بأمر الخروج للتظاهر وبالشعارات المعادية للصهيونية والامبريالية. من هي صاحبة هذا الصوت؟ الآذان والأنظار تلتفت كلها الى الباب، مطيعة، خاشعة ربما. فالمرأة صاحبة الصوت الآمر منقّبة نقابا «متشدّداً»، عيناها خلف «الشاش»، والباقي كتلة سوداء تنتهي بقفازات سود أيضاً. فقط النوع الصناعي للقماش يشي بنْبتها الاجتماعي المتواضع. من هي تلك المرأة؟ هل يمكن أن تكون غير إسلامية؟ هل هي مجرد «ناشطة» أم قائدة ؟ إخوانية؟ سلفية؟ بأية أوامر تأمر؟ ما اسمها؟ ما هي ملامح وجهها؟ من أي حيّ أتت؟ من أي نوع من المجتمعات المتواضعة؟ حيّ شعبي أم «عشوائي»؟ لا أحد يعلم، أو ربما هناك من يعلم. وإن علم، فهل يفهم تلك الطاعة التي حوّلت الحشد النسائي الى نهر متدفّق يتجه نحوها، ويأتمر بشعاراتها وينْقاد الى الدائرة المخصّصة للنساء في الباحة المكشوفة من أجل التظاهر؟ القائدة ذات الهوية السرية لن أعرف يوما من هي. سريتها تستفزّني وتجرّني الى تصوّر ملامحها، أو ملامح أية امرأة منقّبة أصادفها في أي مكان من الأمكنة العامة.
والصدفة بعد ذلك تأتي لوحدها. انها مناسبة «ثقافية ـ فكرية»: ندوة عربية عن تلك القضايا المعروفة على الساحة، «مجتمع مدني» على الأرجح. أنا السافرة الوحيدة بين النساء القليلات المشاركات. ومنقّبة واحدة، من اليمن، حضرت لعرض تجربتها النقابية. في صوتها ثقة وروايتها المثيرة لهذه التجربة بين المعلمين اليمنيين تبعث على المزيد من الاستغراب. اسمها ابتسام. أثناء الاستراحة القصيرة أطرح عليها أسئلة عن اليمن وعن النقابات. أستمع اليها ولا أفهم شيئاً. أستمع اليها وأنظر الى «وجهها». شيء غريب يحصل: لأول مرة أتكلم مع منقبة وجها لوجه. نظري غير مستقر. أضع بصري بعينيها، وحدهما ظاهران. ينشغل خيالي بتصور ملامح وجهها، بعمرها، بلون بشرتها. أشرد قليلا، فتزْغل عيوني. أشعر كأنني أقْترف عيبا، أتصرّف مثل الدخلاء الذين يقتحمون عوالم حميمة. أحاول تصحيح نظري، لعلّني أفهم شيئا مما تقول. ولكن ماذا هناك خارج هاتين غير السواد؟ هل أحدّق في مساحة السواد، هكذا… كالبلهاء؟ أم أحملق بأحد المؤتمرين الواقفين بالقرب منا، وهي تكلمني، وكأنني حولاء؟ المهم ان كلام ابتسام يذهب سدى: هي منقّبة وأنا ذهني مشتّت.
أثناء فترة الغداء الطويلة أقترح على ابتسام ان نجلس سوياً. نأخذ جانباً منزوياً تعطي هي فيه ظهرها للباقين، كأنها تشجّعني بذلك ان أدعوها الى الكشف عن وجهها. الآن أرتاح، وأتخفّف من سطْوة الغموض واستطراداته. ها هي إبتسام أمامي: وجه مشرق مليح مثل وجوه بنات المكلاّ الذائعة بنحاسيتها اللامعة. الحجاب فهمنا… ولكن النقاب؟ لماذا النقاب يا ابتسام؟ تكشف إبتسام عن وجهها، فيتغير صوتها وتنطلق… تحكي ثم تحكي.
من دون النقاب يا عزيزتي، لا مكان لي ولأية امرأة يمنية في النضال النقابي أو العمل الخيري، أو أي سبب آخر من أسباب الخروج من المنزل والاهتمام بشؤون الناس. ولا مكانة، ولا سمع ولا طاعة، فوق ذلك، لأية نقابية أو ناشطة أخرى وسط الناس من دون هذا النقاب. أتعرفن بعضكن بعضاً في الشارع؟، أسأل، أو في الاجتماع، أو أي لقاء من خلال النقاب؟ هل تقترع منقّبة لمنقّبة أو يقترع رجل لمنقّبة مثلا؟ هل تكشفن عن وجوهكن اثناء الاجتماع؟ ما الذي يسهّل التعرف على بعضكن البعض من خلال النقاب؟ حسناً. والرجال؟ كيف تلتقون بالنقابيين منهم؟ كيف تنسّقون؟ كيف يعرفونك مثلا من بين جمع من المنقبات؟ وإجاباتها مندفعة متعجّلة، مثل أسئلتي: لا ضرورة ان يعرفونا، تجيب. ولم يعرفوننا؟ ننسق في النقابة في مشاورات سريعة، والقرابات العائلية أحيانا تسعفنا. أما النساء من بيننا فقد اعتدْن على التعرّف إلى بعضهن من خلال الصوت والمشية والحركة، وأحيانا الرائحة. أي كل ما يمكن ان ينضح من النقاب. والمهم ان هذا يكفينا الآن، مع تعقّد أوضاعنا.
لهجة ابتسام غير مفتعلة. أصدّق ما تقول، أطرح المزيد من الأسئلة. ولكن ابتسام عائدة الى صنعاء بعد ساعتين، والاجابات مؤجّلة.
مسجد الريان، ويقع بين الجزء «الراقي» والجزء «الشعبي» من حي المعادي. راج خبرٌ عنه في الصحافة وبين الناس. يفيد بأن هذا المسجد ذا الطابقين والمدخلَين يستقبل بانتظام المصلين من الرجال في الطابق الأرضي، والنساء في الأعلى. النساء تشرف عليهن «داعية»، حاملة شهادة ماجستير من الازهر في العلوم الدينية؛ تبرزها عند الحاجة، خاصة أمام من تشعر انهن غريبات عن المسجد. و«الداعية» تنظم الصلاة، ومن بعدها تجمع المصليات حولها بنصف دائرة. وبعد «الفتاوى»، تأتيها وريقات يرسلها شيخ المسجد كتبَ عليها اسم «العريس»، مع مواصفاته المهنية والاجتماعية، وطلبه لعروس بمواصفات أيضا، عامة أو محدّدة. (واحد من مرسلي الوريقات ينبّه مثلا الى انه سوف يسكن مع أمه بعد توفقّه بعروس مؤمنة منقبّة). تقرأ «الداعية» الوريقات على النساء أثناء تجمّعهن حولها. تجيب الواحدة عن أخرى تعرفها، أو تجيب الثانية عن نفسها.
زرتُ هذا المسجد برفقة أسيل بعدما ارتدينا كلانا اللباس المناسب للمكان: حجابٌ على الرأس وثياب فضْفاضة تغطّي الجسم كله. المنقّبات هن العدد الغالب بين المصليات. لا تستطيع ان تعرف ذلك الا اذا وقفتَ على الباب المخصّص للنساء في المسجد قبل ان تشرع في الدخول اليه.
نصعد الى الطابق الأعلى. نشارك في الصلاة، ونقعد في نصف الدائري حول «الداعية». أسئلة إرشاد ديني واجتماعي تجيب عنها «الداعية» بلهجة الفتاوى ذات الوقعْ الخاص. أحدهما لامرأة منقّبة تريد ان تعرف ما اذا كان يجوز لها شرعاً الاستمتاع بالشاطئ مع ابنائها، أثناء قيامهم برياضة السباحة في البحر. تتوسّل «فتوى» رحيمة، إذ تصف الضجر الذي ينتابها وهي جالسة في البيت، لا تغادره إلا للضرورات. تفْتي «الداعية» بعدم جواز ذهابها الى البحر. حتى وأنا منقّبة؟ تلحّ السيدة. حتى وأنت منقّبة، تجيب «الداعية» بحسم. وتوضح بأن البحر ربما يكون فيه نساء ورجال «عراة» لا يرتدون الا المايوه؛ وهذا مبْعث فتنة، والفتنة من الشيطان… وبعد الفتاوى، تأتي جولة «العريس» والعروس»…
الحلقة نصف الدائرية هذه مثل المجتمع الصغير المغلق. تكشف فيه النسوة عن وجوههن، من غير نزع حجابهن. انها أضيق من الشارع أو أي مكان عام آخر، مثل المول أو المطار؛ لكنها أوسع من المنزل حيث يُكشف عن الشعر، وحيث لا يمكن جمع كل هذا العدد من النساء. انه المكان البين بين: بين المكان الخاص والمكان العام. بين البيت وخارجه. انه مثل الجيرة، منطقة وسطى مؤطّرة، لها المسجد وللجيرة العمارة أو «الحتّة» أو الحيّ. ولا تختلف عنها الا بقداستها. فيها تأخذ الوجوه منحى خاصاً، يقع هو ايضا في المنطقة الوسط: لا هي وجوه مكشوفة، سافرة، كما في البيت؛ ولا هي محجوبة كما في خارجه. كيف تتحرّك تقاسيم الوجوه الواقعة في هذه المنطقة؟ بمزيج من الحيوية والجمود: حيوية العيون والنظرات وجمود الخدّين والذقن. فهل يكون النقاب، أي إخفاء الوجه خارج البيت، مدعاة لحالة من الكسل التعبيري؟ كَسَلٌ لا ينال من العيون، فيجعلها أكثر «نمواً» من ملكات الوجه الأخرى؟ عيون المرأة التي اعتادت ارتداء النقاب تمرّست على قول الأشياء؟ فيما بقية الوجه اعتاد على الاسترخاء؟
تلك هي المنطقة الوسطية، الما بيْن بيْن، التي أستطيع في داخلها التعرّف على منقّبات. هناك أمكنة أخرى، الأمكنة العامة أقصد، حيث يأخذ النقاب مداه. فالشارع وحده يعطي للنقاب المعنى الذي يفصح عنه. خارجه، اي داخل البيوت، لا معنى له، لا وجود له. الشارع هو الناطق باسم النقاب، فيه ينتشر، ويسود لأن النساء ازدَْدن عدداً، مثل الرجال؛ وأيضا لأن خروجهن الى الشارع باتَ كثيفاً، خلافا لما كنّ عليه في السابق: قابعات في البيوت، قلمّا يخرجن منها. الشارع هو اذن واجهة النقاب. فما الذي تعرضه هذه الواجهة؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل