ما زلنا في رحلة العماد ميشال عون الى سوريا، وما زالت طبيعة هذه الرحلة محيرة، فهي سياسية مسيحية لاهوتية مارونية مشرقية معاً. في كل الأحوال كان العماد في هذه الرحلة »سوبر« بطريرك كما قال إدمون صعب، ولكن ايضا »سوبر« لبناني و»سوبر« عربي و»سوبر« مشرقي. كان مسيحياً للبنانيين والسوريين ولمسيحيي المشرق ايضا، ولبنانياً يجدد العروبة والمشرقية والمسألة الفلسطينية.
لا نعرف كيف حملت زيارة زعيم لبناني الى بلد شائك العلاقة بلبنان عنواناً مسيحياً، وكيف غدت قريبة من زيارة بابا روما. بل إن أحد مرافقي عون في الزيارة لم يستطع أن يمنع نفسه من المقارنة بين مرور البابا في سيارة ونزول عون على قدميه في زيارتي الأول والثاني. خلال الزيارة كان عون بشارة للمسيحيين، وكانت له عظات لا ندري اذا ذكرت بالمسيح. في النهاية تتوجت الزيارة المسيحية بحج الى قبر مار مارون المهمل الذي كان ينتظر زيارة البطريرك التي لم تتم، بحسب تحقيق سابق على الزيارة العونية في جريدة »النهار«، وها عون يحل محل البطريرك، ويحظى هو بتقدمة الرئيس السوري أرضاً يمكن أن تقام عليها كاتدرائية باسم القديس المؤسس للطائفة.
ليست سوريا القدس ولا هي روما، فهي بلد تطغى عليه أكثرية مسلمة وسنية أيضا، ونظامه، لاعتبارات شتى، بالغ الحساسية تجاه أي إشارة الى النسيج الطائفي للبلاد، ولا يرضى بأي تكتل طائفي أو أي مطالبة طائفية أو أي تظاهر تحت اسم الطائفة أو باسمها. مع ذلك رضي النظام لميشال عون بما يحاذره ويخشاه. أخرج له المسيحيين وأتاح له أن يكلمهم كمسيحي وأن يخاطبوه كمسيحي، ونظم له استعراضاً مسيحياً حافلاً. ليست سوريا روما ولا القدس والمسيحيون فيها أقلية، ومن الغرابة بمكان أن تكون محل زيارة ذات عنوان مسيحي. ثم ان سوريا تحاذر بالخصوص مسألة الأقليات، إلا أنها تغلبت على حذرها هذه المرة وسمحت لميشال عون بما اعتقلت من أجله ميشال كيلو الذي حمّلت كلامه عن الأقليات المسؤولية عن إثارة الحساسيات الطائفية.
نظم النظام السوري لميشال عون زيارة مسيحية، وهذا أمر غريب بالنظر إلى طبيعة الزيارة وحجم الإشكالات العالقة بين لبنان وسوريا وطبيعة النظام السوري ايضا. أمر غريب أن يتعهد النظام السوري زيارة مسيحية لزعيم لبناني، فهذا ليس شأن النظام ولا شأن الزيارة ولا شأن الزائر، فالنظام علماني والزيارة سياسية والزائر زعيم سياسي. الزعيم المسيحي السياسي اللبناني ليس البطريرك ولا البابا لتكون له ولاية على مسيحيي سوريا، ولا يفهم كيف تنازل له النظام السوري عن ولاية كهذه وأعطاه مجد مسيحيي سوريا والمشرق. هذه سابقة لا تخلو من مخاطرة، فهي أشبه بأن تمنح لجنبلاط مثلا ولاية على دروز سوريا ما دامت مسيحية عون ليست أكثر رسوخاً من درزية جنبلاط أو أن تمنح لسعد الحريري ولاية على السّنة. ماذا لو طالبت الأقليات لنفسها بمثل ما أعطي للمسيحيين، بل ماذا لو طلبت الأكثرية نفسها مثل ذلك، لقد أحدث النظام السوري بهذا الاستقبال بدعة لم تكن من قبل، وتنازل للعماد تنازلا لم يُسبق لسوري أو لعربي.
لم يكن تتويج ميشال عون المسيحي سورياً بالطبع شأناً مسيحياً سورياً. انه إيعاز بالمحاكاة لمسيحيي لبنان. من أعطي مجد مسيحيي سوريا والشرق ينبغي أن يكون له ايضا مجد لبنان. لقد جال كالبابا ووعظ كالمسيح وأسس على قبر المؤسس الأول كاتدرائية، فأشبه أن يكون المؤسس الثاني. منحه النظام العلماني في البلد المسلم كل هذه المفاتيح ولن يعود الى لبنان كما ذهب، لقد ذهب زعيماً مسيحياً وعاد كلي الطوبى. لم يضعه على عرش لبنان فحسب ولكن ايضا على كرسي مار مارون.
لكم كان النظام السوري حساساً لما يخامر بال ميشال عون، لقد أصاخ أبعد ما ينبغي الى هواجسه ونواياه ومخيلته. دبر له تلك التظاهرة التي تنصّب فيها قطبا وراعيا روحيا ورئيسا. جسّد له في سوريا ما يحلم بأن يكونه في لبنان. بدا الاحتفال به تتويجا ومبايعة مطلقة، وكان فيه الأب والقائد التاريخي والملهم والزعيم. كان الاحتفال يخاطبه من وراء التاريخ ومن وراء العصور وينصّبه روحاً ومنارة. أي كل ما يراه العماد في نفسه وما يحب أن يراه الآخرون عليه. كان هذا بالطبع باهراً بدون شك، وخاصة عند قبر مار مارون، حيث بدا أنه المؤسس الثاني للمارونية. كان باهراً لولا أننا لا ننسى أن هذا من تدبير النظام، وأن الاستنفار الكبير كان بقوة أجهزته، وأن كل ما جرى بإرادته وخطته. وإذا كان طابق مخيلة الجنرال وتطلباته، فإن ذلك يشهد للنظام وأجهزته بقوة الخيال والحدس ومعرفة بواطن الجنرال وأمانيه، لقد صنع للجنرال ما يحلم به الجنرال. وحقق في سوريا »البروفة« الأولية لما يتمناه الجنرال لنفسه في لبنان.
مسرح
إنها لحظة تاريخية لولا أنها مدبرة ومفبركة ودبرتها أجهزة لا يعصى عليها أن تقوم بأكبر منها ساعة تشاء. مع ذلك تبقى تظاهرة مسيحية في سوريا أمراً مبتكراً وجديداً، وعلينا أن نشهد للأجهزة بذلك. لقد طوبت سوريا ميشال عون بغية أن ينتقل هذا بالعدوى والتقليد الى لبنان ومسيحيي لبنان. لا أعرف اذا كانت الأجهزة ذات علم بالانتروبولوجيا ونظرية رنيه جيرار في التقليد والمحاكاة، لكن هذا ما حدث. لقد نصب مسرح في سوريا ودارت عليه مسرحية مطابقة تماماً لما يشتهي العماد أن تكون عليه الحال في لبنان. أن يكون قطبا روحيا ودينيا ولاهوتيا وسياسيا، أن يعطى مجد لبنان بكليته. لا شك بأن لبنان يستحق هذا القداس، يستحق تنازلاً مؤقتاً سيطوى بعد رحيل الجنرال. يستحق لبنان أن تلعب سوريا لعبة الأقلية المسيحية المعاكسة لنظامها وعلاقاته وبيانه الايديولوجي.
لم يعط النظام السوري لرئيس الجمهورية اللبنانية ورجال الدولة ما أعطاه للرجل الذي تكفل بتحطيم صخرة الممانعة التاريخية ضد سوريا في لبنان. لقد أعطاه ولاية (عابرة) على مسيحيي سوريا والمشرق، على أمل أن يتعظ بذلك مسيحيو لبنان. كل هذا يدل الى أن لبنان ما زال يعني لسوريا ما عناه دائما، كما يدل الى أن تحطيم صخرة الممانعة المسيحية هو فرصتها التاريخية لتعيده تحت جناحها. كان المسرح في سوريا لكن الفرجة في لبنان، والنداء في سوريا لكن المخاطب في لبنان. بل إن الأمر كله كان مسرحا بمسرح، فرجة عظيمة إلا أن الأمر ينتهي في الفرجة، فرجة ويؤمل منها أن تعم وأن تعدي بفخامتها وسحرها الخاص.
ما حظي به الجنرال كان هذا التتويج والمبايعة المسيحيين، الأمر الذي استحق أن يُنسى وتُنسى معه الطبيعة السياسية للزيارة. مشى على درب البابا، واستقبل في القصر كرئيس، وفي غمرة هذه الغبطة تفهم العماد استنكاف السوريين عن ترسيم الحدود حتى زوال احتلال شبعا. واستغرق في مديح التسامح والمحبة، لكنه أغرق خصومه اللبنانيين (وخصوم سوريا ايضا) بالتهم والتشهير، وطلب منهم فوق ذلك أن يعتذروا هم عن فترة الوصاية السورية، إذ وجد أن صداقة بعضهم في يوم مع الحكم السوري وحدها جديرة بالاعتذار عن أنفسهم وعن السوريين طبعا. وحين عاوده حلم الرئاسة أعلن أن المعارضة لدى فوزها بالأكثرية ستعدل الطائف من جهة صلاحيات رئيس الجمهورية ومنعاً لاستئثار السنة بالحكم.
أقذع الجنرال، من سوريا، في وصف خصومه وخصوم سوريا، لكن أياً من المسائل الشائكة بين سوريا ولبنان لم تجد حلاً. لا ذكر للمعسكرات الفلسطينية التابعة لسوريا ولا للمعتقلين اللبنانيين في سوريا. ساعدت البلاغة الوزير المقداد على القول إنه سيقلب كل حجر بحثاً عن المفقودين، لكن البلاغة تنقلب أحيانا على صاحبها. هكذا نفهم أن المعتقلين باتوا مفقودين، وأنهم صاروا تحت »الأحجار«. لم يفهم العماد أن عرشه الجديد قد يكون على أحجار كهذه.
تكفلت شائعة بالقول إن الجنرال جلب معه عدداً بالعشرات من المعتقلين. قالت الشائعة ما لم يقله أحد ولم يتضمنه بيان. ركز في أذهان الناس والمعلقين أن هذا هو معيار الزيارة وأن الحكم السوري سيمنح عون ما لم يمنحه لرئيس الجمهورية، عدداً من المعتقلين في السجون السورية، أكد هذا قريبون من عون وبينهم سليمان فرنجية. لكن بيان الرئيسين الأسد وسليمان تكلم عن مفقودين، هذه هي الآن التسمية الجديدة للمخطوفين. لقد تبرأ الحكم السوري من المسألة ووضعها على عاتق اللبنانيين، وعليهم الآن أن يجدوا »مفقوديهم« بأنفسهم، ولن يطول وقت حتى يرفع حلفاء سوريا التهمة ويضيفوها الى ذنوب خصومهم، قال وئام وهاب إن القوات والاشتراكيين ذبحوا الناس واختطفوهم باسم سوريا، ولا نعرف متى يتبنى الحلفاء الجدد التهمة نفسها.
كنا أمام مشهد لا غير. السير على درب البابا والمراسم الرئاسية والمحاضرات والعظات جعلت المسائل السياسية في مؤخرة الزيارة. قدمت الأجهزة للجنرال ما تحسنه تماما، الاستنفار والحشود والأبهة والتتويج، ولم يكن كل ذلك مصطنعاً، لا بد أن المسيحيين رغبوا بهذه التظاهرة ولا بد أنهم رحبوا بالجنرال. لم يكن كل ذلك مصطنعاً، فقد غمروا الجنرال بعاطفة أفعمته وجعلت مرافقيه يذرفون الدموع. كان الجنرال في قلب الغبطة فلم يجد أمامه سوى أمثولة الحب والتآلف. في لحظة كهذه اختفى كل شقاق ولو كان بحجم معسكرات الفلسطينيين السورية أو مئات المعتقلين أو… أو… شبهات الاغتيال أو… أو… لقد مُنح في لحظةٍ الأوحدية والتعالي والطوبى، ومن هذا الموقع كبر قلبه على المجدفين والمنكرين ورشقهم من علياء عظمته بالحرم والتدنيس، لكن هذا كان مشهداً لا غير. لا أريد أن أستعير ديبور وبودريار، لكن ما حدث، كان مظهراً أجوف وفرجة تنتهي في ذاتها، أنهى كل شقاق ومسح كل غيم وغردت المحبة والوداد. هكذا زال في حفلة واحدة كل أذى ولو كان يعادل مئات المعتقلين والقتلى وجلهم من المسيحيين.
لم يكن الثمن غاليا ولو بدا كذلك، ما رتبه النظام للجنرال ولو بدا سخياً كان في معظمه صناعة كل يوم للأجهزة القادرة على تحريك مئات الآلاف بحركة إصبع. لقد صنعت مسرحية كاذبة وصادقة في آن معا ليراها اللبنانيون. صادقة أو كاذبة تتساويان هنا، لأن اهتمامها ليس الحقيقة، يقول فالزر على لسان غوته »ليست كاذبة لكنها غير مهتمة بالحقيقة«. لم تصنع شيئا للمسيحيين السوريين ولم تكن من أجلهم أصلا. وحتى تنظيف مرقد مار مارون وإقامة كاتدرائية حوله كان فقط ليراهما اللبنانيون.
لا أعرف اذا كان الجنرال نسق هذا مع مضيفيه قبل وصوله… لا أعرف اذا شارك في ترتيبه، إذ انه مطابق للجنرال وعلى قدر أحلامه وصورته عن نفسه. فالجنرال يظهر كل يوم تقريبا ليؤكد انه الأقوى وأنه الأنظف والأنزه والأصدق، ومن علياء سخطه وغضبه يرمي باحتقار خصومه اللصوص والفاسدين. هذه الصورة هي رأسماله الأكبر وهو يدبر كل يوم شجاراً ليؤكدها ويثبتها. والواضح أن عنفه هو في سبيل جعل خطابه سوياً ومتعالياً، مما يطمس تناقضاته الظاهرة. الأرجح أنه في غبطته وتسامحه في سوريا لم ينس هذا الرأسمال الغضبي. رهانه هو أن إيمانه بنفسه يمكن أن يعدي غيره.
المسيحيون
منذ أن استقر العماد في دعاوته على المسألة المسيحية اختص بها وغدت هذه تقريبا سياسته الوحيدة. إنه المجال الذي يلعب فيه ويعينه على ذلك حلفاؤه، بل حليفه الرئيسي حزب الله. عدا الدائرة المسيحية لا سياسة لعون سوى تلك التي تجمعه بحزب الله: المقاومة، العداء لأميركا والسعودية ومصر، وقد زاد في محاضرته فعرفنا بالعروبة والمسألة الفلسطينية.
»المسيحيون« هم ملعب عون الوحيد الآن. وهو ومسؤولو تنظيمه يجعلون من المسيحيين مسألتهم الدائمة. ويكاد عون ومسؤولوه يتكلمون عن المسيحيين أكثر بكثير مما يفعل البطرك الذي يفضل غالبا لغة لبنانية. الحق أن البطرك وقرنة شهوان توصلا في الصراع ضد الوصاية السورية الى إيجاد خطاب لبناني ذي عصب مسيحي. أما خطاب عون ومسؤوليه فهو ببساطة مطلقة التحريض المسيحي اليومي واستفزاز شعور بالغبن وقلق راكزين في بسيكولوجيا الطوائف. إنه التحريض الذي يبني على الشقاق القديم والإرث المثابر للحرب الأهلية. الشقاق الإسلامي المسيحي وقد تجسد هذه المرة كما في السابق في السنّة والفلسطينيين مع استثناء الشيعة. لا ندري الى أين ينتهي التحريض المسيحي إن لم يكن الى استفزاز المطالب الطائفية الاخرى، وهي في الغالب ستفضي الى كسر الامتياز المسيحي. يعتمد عون على تحالفه مع حزب الله ليتبادل مع حزب الله صفة اللبنانية الجامعة. فيما يعطي عون هذه الصفة للمقاومة يعطيه حزب الله الصفة نفسها للتحريض المسيحي الذي يغدو بذلك وطنياً.
يعتمد عون على زهد حزب الله الظاهر في السلطة واكتفائه بالمقاومة وموقع ما فوق السلطة، لكنه لا يتحسب الى أن ارتضاء الشيعة بموقع هامشي في السلطة لن يطول، إنهم مع كثرتهم وتكتلهم وسلاحهم قادرون على المطالبة بحصة أكبر، بل قد يؤدي نفاد الحصص بهم الى المطالبة بنقض النظام الطائفي كله. لن يكون هذا بعيدا على الإطلاق، ففي نظام أساسه تقاسم السلطة وتنازعها وتجاذبها، لن يبقى الشيعة طويلاً خارج اللعبة. لن يكونوا كما يتوهم ميشال عون رافعة العودة الى نظام رئاسي، ولن يقبل حزب الله الحزب الإسلامي بما سماه في أوائل أدبياته بالنظام الماروني. لا يفهم ميشال عون أن للشيعة أيضا حصتهم في الإرث القديم، ولن يقوموا بتسليم السلطة أو إعادتها الى الرئيس الماروني. كلام الرئيس بري في المجال في رده على مطالبة عون بتعديل الطائف بليغ وصمت حزب الله أبلغ.
لكن النتائج البعيدة لا تهم، عون يزن اللحظة فحسب. يمعن عون في التحريض المسيحي ولا يريد حزب الله ولا كثير من اللبنانيين أن يروا في ذلك عملاً طائفياً. لا تهم عون النتائج. ما يهمه هو التحريض الدائم. هو كان يضرب باستمرار على نعرة ما، أن يملأ دوماً لحظته. أن يبقى باستمرار في المشهد قوياً. إنه يطالب بتعديل صلاحيات الرئيس فيما يعمل على أن يأتي بالرئيس مقيداً بشروط ويزاحمه بوضوح ويريده بلا قوة على المسيحيين خاصة. يتصدر المطالبة بالمخطوفين حتى أمس، ويتهم في سبيل ذلك الآخرين ثم يترك المسألة في دمشق وفي عهدة الرئيس.
ليست المسائل بنتائجها، إنها في التحريض عليها.
في دمشق حيث انتهت نهائياً معركة التحرير واختفت كل إشكالاتها، أطلق نفير معركة جديدة. يجب أن نعترف للرجل بالخيال لكنه ايضا خيال رجل لا يبالي بالنتائج ولا يهمه أين يضع تحريضه المتواصل لبنان بل أين يضع المسيحيين، يكاد الجنرال يكون السياسي اللبناني الوحيد الذي يستعمل بدون كلفة وبدون تمويه تسمية طائفية صريحة »المسيحيين«. لا يفعل ذلك السيد نصر الله ولا الشيخ سعد ولا جنبلاط. لا يهم الجنرال أن تستفز هذه التسمية الطوائف الأخرى، ويستدعيها لتحضر باسمها ايضا وبكل تراثها الدموي في ما بينها، وخاصة مع الموارنة والمسيحيين. لا يهمه أثر ذلك على لبنان المتفسخ ولا على المسيحيين المزعزعين. يهم الجنرال أن يجد قضية وموضوعاً لتحريضه وقد وجد. يسعى الجنرال الى أن يفك العلاقات اللبنانية الى علاقات وحسابات طائفية بحتة. المسيحيون، الشيعة، السنة، الدروز، ذلك يقتضي تعليق المسألة السياسية التي تدور حول المقاومة وسوريا وقد علقها الجنرال من جهته.
اقتفى حزب الله وتبنى سياسته في كل شيء مقايضاً المقاومة بالدعم الشيعي. يضع الجنرال معادلة بسيطة وليست بلا تاريخ: الشيعة مع المسيحيين ضد السنة مع الدروز. يرسم هذه المعادلة بصراحة وشبه علن تقريباً. المسألة هنا، هي عنده طوائف بطوائف وما من محل للسياسة أو المسألة السياسية. يرد عون الصراع الى نوع من صراحة مخجلة، لكن المسألة السياسية ليست تمويهاً، إنها ايضا تاريخ الحرب الأهلية واشتباك العلاقات الطائفية بتحديات ومصالح وخيارات تتعداها. الأمر من سؤال الدولة وسؤال الخيارات الاستراتيجية العامة وسؤال المستقبل حقيقة وليس شأنا برانيا. يريد عون أن يحصر المسيحيين في نقاش خاص بهم وأن يبقي النقاش أساسا في مستواه الخام. يريد أن يخرجهم من المسألة السياسية ويضع تحالفه مع حزب الله في نطاق الحساب الطوائفي: قوة حزب الله قوة لنا يقول للمسيحيين ولا يهم بالطبع موقعه السياسي.
دعم الجنرال اجتياح ٧ أيار واعتبره تصحيحا وإعادة للوضع الى السكة، لكنه في الوقت نفسه منّن المسيحيين بأنه حماهم وجنبهم الحرب. موقف متناقض لكن هذا لا يهم في الحساب الطوائفي. اذا كان سلاح حزب الله على السنّة فهو ذخر للمسيحيين، هذا هو المنطق الخام الذي يستبعد كل بعد آخر. يؤيد الجنرال المقاومة (للشيعة) لكنه رغم أطروحة الشعب المقاوم لا يدعو المسيحيين أو أنصاره منهم الى الالتحاق بها، إنها حرب الشيعة وهو يؤيدها كما هي.
كذلك ساير الجنرال في محاضرته سوريا وساير في خطابه السياسي اللبناني حزب الله. إنها مسايرة فحسب، أما مسألته الخاصة التي لا يشترك فيها مع أحد فهي »مسألة المسيحيين«. سيقال إن الطائفية ايضا سياسة وهذه بديهة، لذا لا نمانع هنا في أن نمايز بين خطاب أهلي وخطاب »وطني«، بمعنى المشترك والدولتي واللبناني. الخطاب العوني لا يمانع في أن يتحصّن بالموقع الأهلي ويسلم المسائل العامة لسواه، ولا يجد غضاضة في أن يلتحق بسواه فيها. لذا يبدو سلوكه لدى الزيارة السورية نسخة ثانية عن سلوكه إزاء حزب الله. في الحالين تسليم بكل شيء واعتصام بالموقع الأهلي. أعطى السوريون لميشال عون تاج المسيحيين وقبر مار مارون ودرب البابا فسلمهم مسحاً للخلاف السياسي.
نستبعد بعد الزيارة أن يكون عون سباقا الى إثارة مسألة المخطوفين أو مسألة المعسكرات السورية. لا نعرف ماذا ستكون فلسفته في ذلك، ولا نستغرب أن يتّهم القوات والاشتراكيين بالمخطوفين في سوريا. لقد عرف السوريون ماذا يعطونه أو لعله نسّق ذلك معهم، ذلك الاحتفال المسيحي الكنسي الماروني بكل ما فيه من تكريس ومجد هو كل ما يناسب الحصن الأهلي. الحصن الأهلي عامر بالاحتفالات والمراسم والطقوس ولا بد من أن يؤثر فيه الاحتفال السوري، لقد رأوا هنا الجنرال مكرّساً مطوّباً سائراً على درب البابا واقفاً عند قبر مار مارون فكيف لا يؤثر هذا بحد ذاته وكيف لا ينتهي في نفسه. انه تام كاف ولا يحتاج الى أبعاد أخرى. أما أن تكون الأجهزة وراء ذلك، أما أن يتم بتدبير نظام لا قبل له بالمسيحية وفي ظل الايديولوجيا البعثية فهذا أقرب الى الكوميديا. هنا يمكننا أن نستشهد مجددا بقول مارتن فالزر على لسان غوته »الكوميديا لا تكذب، إنها فقط لا تهتم بالحقيقة«.