لو قُدّر لروزفلت وتشرشل أن يراقبا المشهد المملّ في القصر الزجاجي خلال اجتماعات الدورة الـ67 الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لربما تكوّن لديهما انطباع بأن عالم العظماء قد وَلّى إلى غير رجعة، وأننا أمام فوضى استراتيجية عارمة.
بعد نهاية الحرب الباردة في بداية تسعينات القرن الماضي، بشّر فرانسيس فوكوياما بنهاية التاريخ وانتصار أفكار معسكره حول ديموقراطية اقتصاد السوق، لكن زمن الأحادية الأميركية لم يستمر طويلاً واستهلكته سريعاً رهانات المحافظين الجدد على قيادة عولمة شاملة من دون التنبّه إلى تغيير موازين القوى.
ورث أوباما هذا الواقع المتحول، والآن على أبواب نهاية ولايته نستنتج طموحه في استمرار الترويج للحلم الأميركي من خلال جملة مسك الختام في خطابه يوم 25 أيلول: “التاريخ إلى جانبنا ومَد الحرية الصاعد لن ينقلب مساره أبداً”. قبل ذلك بأسابيع حدثنا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن وقوف بلاده إلى جانب الاتجاه الصحيح للتاريخ في ما يتعلق بمعالجة الأزمات، ومنها الأزمة السورية.
لكن المراوحة في المكان إزاء معالجة الأزمة الاقتصادية العالمية وتفاقم الأزمات الإقليمية الكبرى تدفعنا للقول إنّ أداء قادة العالم الحاليين من أوباما إلى بوتين ونظيريهما الصيني والفرنسي وغيرهم لا يبعث على الاطمئنان، ويؤشر إلى غياب رجال عظماء يتجابَهون في الميدان أو يصنعون التسويات.
تبدو الصورة غامضة لأنّ هذه المرحلة الانتقالية هي مرحلة التخبّط الاستراتيجي التي تشهد إعادة تركيب القوى والتحالفات، فكيف تم الوصول إلى هذا الوضع؟
يمثل النظام الدولي حجم التفاعلات التي تقوم بين الدول والمنظمات الدولية ومجمل اللاعبين من منظمات غير حكومية وشركات وغيرها، ولم يجسد النظام الدولي نفسه رسمياً في التاريخ إلّا في القرن التاسع عشر عقب عهد نابليون بونابرت واختراقاته في أوروبا ونهايته في معركة واترلو.
لقد انبثق “النظام الدولي” في مؤتمر فيينا عام 1815، وفي القرن العشرين ولد القانون الدولي في خضم الحروب العالمية والاستعمارية، ولا بد من الإشارة إلى أن الأوروبيين هم من صاغوه.
كان لمعاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919 دور مفصلي في رسم خريطة العالم وتقسيم النفوذ. إن النظام الدولي الذي ولد عام 1919 استمر تحت قبضة قوّتين أساسيتين في العالم، مثلتهما كل من بريطانيا وفرنسا، ولكن الفترة ما بين الحربين العالميتين وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد حسمتا لمصلحة تبلور قوتين جديدتين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. عالم الحرب الباردة كان عالم الثنائية القطبية التي حجّمت دور هيئة الأمم المتحدة.
ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، برزت رويداً فكرة بناء نظام عالمي جديد أحادي القطب. لكن ذلك أخذ يتراجع مع بدايات الألفية الثالثة. وبرز سباق ما بين مشروع لإعادة تركيب العالم كما ترغب واشنطن وصعود مشاريع اخرى وأقطاب جدد من البرازيل إلى الهند والصين وجنوب أفريقيا وإيران وتركيا وغيرها. وكان الشرق الأوسط والخليج وأفغانستان، ولا تزال هذه الدول من المسارح الأساسية للعبة الدولية الجديدة.
نستنتج من هذه المقارنة التاريخية أن ميزان علاقات العالم في القرن التاسع عشر كان أوروبيا. أما في القرن العشرين فقد كان الصراع بعد العام 1945 سياسياً إيديولوجياً بين كتلتي الشرق والغرب، وانتهى ليكون قرناً أميركياً بامتياز. أما في القرن الحادي والعشرين، فللوهلة الأولى وأمام انتصار العولمة وآليات اقتصاد السوق والنموذج الديموقراطي الليبرالي، بدا أن الصراع بين الشمال والجنوب سيكون اقتصادياً وعولمياً وإعلامياً، بمعنى ان التكتل العالمي الأقوى سيكون في الشمال والتفكك في عالم الجنوب الذي يشمل العالم الإسلامي وإفريقيا وأميركا الجنوبية.
بيد أن الحروب الأميركية المتعثرة من العراق إلى أفغانستان، وعودة روسيا إلى المسرح العالمي وصعود الصين والأزمة المالية العالمية، جعلت من العام 2008 منعطفاً حاداً لبدء إعادة تشكيل النظام الدولي وفق أسس جديدة مع قيام مجموعة العشرين التي يفترض ان تشكل المثل لبلورة إدارة جديدة لعالم أكثر توازنا بين الشمال والجنوب.
مع أزمة النفوذ الأميركي وتراجع الاتحاد الأوروبي، أخذ مركز العالم السياسي ينتقل من ضفّتي الأطلسي إلى مكان جديد بين الأطلسي والهادئ مع ما يعنيه ذلك من انتقال مركز الثقل إلى آسيا، من دون حسم التخبّط الاستراتيجي في نظام دولي في طور إعادة الصياغة. إن مركزية الغرب في النظام الدولي لم تعد ممكنة من دون شراكات وتحالفات جديدة. إن عدم وجود الإرادة السياسية وأزمة اليورو حالياً يدقّان جرس الإنذار لهذه التجربة ويؤشران لتراجع القارة القديمة إزاء الصعود الآسيوي وحيوية الدور الأميركي.
إزاء التشتت والتخبط الاستراتيجي وأمام التحديات الكبيرة من السباق على المواد الأولية والطاقة، إلى مخاطر الانتشار النووي والتوازنات الديموغرافية الجديدة والتغير المناخي والأزمة الاقتصادية، يبدو أن بناء توازن عالمي جديد ليس بالأمر اليسير. إن حجم التحديات وتزايد الأزمات واللعب على وتر صراع الحضارات والثقافات والأديان، يجعل المهمة صعبة المنال، وإذا أخذنا مسألة إصلاح مجلس الأمن الدولي كمثل لاتضَح لنا صعوبة التغيير.
إن التأرجح الأميركي والانحطاط النسبي للغرب والبروز الصيني وطموحات الدول الصاعدة سيطبع المرحلة المقبلة وإدارة الأزمات. وسيكون اللاإستقرار سِمة المرحلة الانتقالية بانتظار استكمال إعادة تشكيل النظام الدولي وفي ظلّ غياب رجال عظماء يطبعون مرحلتهم بقرارات شجاعة.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وكاتب لبناني- باريس
الجمهورية