كلام كثير جرى تداوله في الايام القليلة الماضية عن احتمال تخلي روسيا عن بشّار الأسد. عزّز هذا الكلام ما نشرته وسائل اعلام روسية عن خيبة موسكو حيال أداء الأسد الابن والمحيطين به وعجزهم عن المحافظة على المناطق التي استعادها النظام بفضل الجهد العسكري الروسي. بدأ هذا الجهد على الأرض السورية ابتداء من ايلول – سبتمبر 2015 مع انتقال طائرات حربية روسية الى قاعدة حميميم قرب اللاذقية.
مرّت الحرب السورية بمراحل عدّة قبل بلوغها المرحلة الراهنة التي تشبه، بطريقة او باخرى، مرحلتين سابقتين يمكن وصفهما بالمنعطفين، منعطف 2012 ومنعطف 2015.
في العام 2012، بدأ الانهيار الفعلي للنظام عندما تبيّن ان المدن الكبرى ترفض استمراره. لم تعد درعا تحت السيطرة، علما انّها كانت دائما من المدن الموالية للنظام وعلى الرغم من الأكثرية السنّية فيها، بل تعتبر درعا مدينة سنّية يوجد في محيطها وجود درزي ومسيحي. لكنّ درعا التي انطلقت منها الثورة بعد الاقتصاص من مراهقين فيها، كانت اقرب الى مدينة ريفية تختلف عن دمشق وحمص وحماة وحلب حيث توجد بورجوازية حقيقية كان حافظ الأسد يكنّ لها كرها شديدا. كان الأسد الاب بارعا في إقامة تحالفات داخلية بغية تطويق سنّة المدن الكبرى. فقد باشر باكرا باخراج كبار الضباط السنّة من الجيش في ظل زحف للعلويين على اللاذقية من الريف والجبال كي يتغيّر طابع المدينة وهو أصلا سنّي – مسيحي.
في 2012، كانت دمشق مهدّدة. اصبح المشروع البديل للعلويين القائم على سوريا المفيدة مشروعا غير قابل للحياة وذلك على الرغم من كلّ الجهود التي بذلت منذ العام 1970 من اجل تطويق المدينة بتجمّعات سكنية علوية. وقتذاك، دخلت ايران على الخط بعد اكتشافها ان القوات التابعة للنظام لا تستطيع التكيّف مع حرب المدن. لم يكتف “الحرس الثوري” الايراني، الذي سبق له ان اكتسب خبرات في قمع التحركات الشعبية في ايران نفسها في العام 2009، بتدريب عناصر سورية على التعاطي مع الاضطرابات التي شهدتها المدن السورية. ذهب الى ابعد من ذلك. ارسل قوات الى سوريا وطلب “المرشد” علي خامنئي من الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله ارسال قوات الى الداخل السوري. تروي أوساط ديبلوماسية عربية انّ نصرالله ابلغ خامنئي ان ثمن مثل هذا التدخّل سيكون كبيرا فاجابه “المرشد” ان ذلك مطلوب من “حزب الله” بغض النظر عن الثمن الذي سيترتب عليه دفعه.
تولّى قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” قاسم سليماني قيادة معركة انقاذ النظام ونجح في ذلك الى حدّ كبير وصولا الى العام 2015 عندما صار مطلوبا الاستنجاد بروسيا التي فرضت شروطها على قاسم سليماني الذي ذهب في حينه الى موسكو والتقى عددا من المسؤولين الروس. كذاك ذهب الى موسكو بشّار الأسد الذي التقى الرئيس فلاديمير بوتين.
سمح الدور العسكري الروسي المباشر بتغيير قوانين اللعبة في سوريا. استعاد النظام المبادرة عسكريا وصولا الى العودة الى حلب وحماة وتدمير قسم لا بأس به من حمص واستعادة السيطرة الكاملة على دمشق والمناطق المحيطة بها… وصولا الى درعا.
لجأ الروس الى القصف الجوّي أساسا مستخدمين قاذفات “سوخوي” حديثة لضرب اهداف مدنية وعسكرية في آن. استعانوا بالنظام الذي استخدم البراميل المتفجرة، كذلك استعانوا بالايرانيين وميليشياتهم المذهبية المختلفة في الوقت الذي بدا واضحا انّ الإدارة الاميركية مستعدة، منذ صيف العام 2013 للتغاضي عن أي تجاوزات تحصل في سوريا ارضاء لإيران. استخدم النظام السورى في آب – أغسطس 2013 السلاح الكيميائي في غوطة دمشق. لم يحصل ايّ رد فعل أميركي يذكر، على الرغم من ان أوباما كان حذر من انّ مثل هذا العمل سيكون بمثابة “خط احمر”.
ما لا يمكن تجاهله انّ ما ساعد النظام الى حد كبير قبل العام 2015 هو المفاوضات السرّية الاميركية – الايرانية في عهد باراك أوباما من اجل الوصول الى اتفاق في شأن الملف النووي الايراني. حرصت إدارة أوباما طوال تلك المفاوضات، التي تحوّلت لاحقا الى علنية، الى عدم اغضاب ايران، خصوصا في سوريا.
بعد اقلّ من خمس سنوات على التدخّل الروسي المباشر في سوريا، الذي رافقه تحييد لتركيا وتفاهمات للكرملين مع إسرائيل، ثمّة إشارات واضحة الى ان الجانب الروسي ضاق ذرعا بالنظام السوري. هناك حدود للقدرة الايرانية على مساعدة هذا النظام وذلك في ضوء حال التدهور الاقتصادي التي تعاني منها “الجمهورية الإسلامية” جراء العقوبات الاقتصادية الاميركية وهبوط أسعار النفط والغاز. امّا روسيا نفسها، فهي في وضع لا تحسد عليه بعد دخولها في حرب نفطية مع المملكة العربية السعودية. ليس ما يشير، على الرغم من الاتفاقات التي تمّ التوصّل اليها أخيرا بطلب أميركي، الى ان سعر برميل النفط سيستعيد عافيته في المستقبل المنظور. وهذا يفسّر الى حد كبير اضطرار روسيا الى إيجاد تفاهمات مع تركيا في سوريا. فوق ذلك كلّه، كشف وباء “كورونا” ان روسيا ليست في معزل عن ازمة كبيرة يمكن ان تتعرّض لها قريبا، على غرار ما تعرّضت له دول اكثر تطورا منها في مجال البنية التحتية مثل فرنسا وإيطاليا واسبانيا وحتّى بريطانيا.
لم يكن التدخل الايراني في سوريا سوى تدخل غير منطقي مخالف للطبيعة. انّه تدخل مرفوض من معظم الشعب السوري. لا يمكن تغيير طبيعة المجتمع السوري، مهما لجأت ايران الى شراء أراض وتغييرات ذات طابع ديموغرافي. امّا روسيا، فان هناك حدودا لما تستطيع عمله في سوريا، خصوصا في غياب الأدوات التي تستطيع الاعتماد عليها من اجل بناء جيش جديد محترف في اطار ذهنية مختلفة كلّيا عن الجيش الذي بناه حافظ الأسد والذي استكمل بناءه بشّار الأسد.
هناك عوامل عدّة تجعل روسيا تفكّر جدّيا في تغيير استراتيجيتها السورية.
في أساس هذه العوامل الخدمات المتبادلة التي لم تعد موجودة بينها وبين ايران من جهة وعدم القدرة على الرهان على نظام لا يمتلك مشروعا سياسيا قابلا للحياة من جهة أخرى. اكتشفت موسكو متأخرا ان النظام يحتاج الى شرعية من نوع ما وان لا هدف للنظام سوى البقاء في السلطة بايّ ثمن. استطاع لعب الورقة الايرانية في مرحلة معيّنة والورقة الروسية في مرحلة أخرى. استطاع حتّى لعب الورقتين معا.
ولكن في نهاية المطاف، هناك ثمن لاي تدخل عسكري. الواضح ان روسيا في ظل المتغيّرات التي شهدتها السوق النفطية وفي ظلّ ازمة وباء كورونا في حاجة الى إعادة نظر في سياستها السورية…