نشرت جريدة “لوموند” الفرنسية تحقيقاً حول الموقف الروسي من نظام الأسد كتبه مراسلا الجريدة “إيزابيل ماندرو” في موسكو “وبنجامان بارت” في بيروت:
حطّت طائرة “إليوشين-٧٦” وعلى متنها ٨٠ راكباً في مطار “دوموديدوفو”، في موسكو، في يوم ٢٩ مايو. وكانت الطائرة، التي استأجرتها وزارة الحالات الطارئة الروسية، قد أقلعت قبل ساعات من مطار “اللاذقية” الواقعة على الساحل الروسي والتي تُعتَبَر أحد معاقل الطائفة العلوية ونظام بشار الأسد. وذلك مؤشّر، حسب كثير من المراقبين، إلى أن روسيا- بإخلائها لرعاياها ورعايا تابعين لبيلوروسيا، وأوكرانيا، وأوزبكستان، بعد أيام من سقوط مدينة “تدمر” في أيدي تنظيم “داعش”- بدأت تأخذ بالإعتبار مدى ضعف السلطة الحاكمة في دمشق. ومن “اللاذقية”، فإن مرفأ “طرطوس” الذي يضم قاعدة بحرية روسية صغيرة- هي الوحيدة خارج أراضي الإتحاد الروسي- فإن المسافة لا تزيد على ٩٠ كيلومتراً.
ويقول “أناتولي نيسميان” المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط: “من هم الذين تم ترحيلهم؟ ليسوا مدنيين عاديين، بل هم أُسَر العسكريين والمستشارين”. ويؤكّد أنه “توجد عدة مؤشّرات على أن روسيا بدأت تبتعد عن بشّار الأسد، وترحيل الرعايا أحد تلك المؤشرات”. وفي لندن، جزمت صحيفة “الشرق الأوسط” التي يمولّها سعوديون، في عدد ٣١ مايو، أن “الكرملين بدأت يبتعد عن النظام السوري”.
وليس من شك في أن اللقاء الذي انعقد في “سوتشي قبل ذلك بأيام بين الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجية أميركا جون كيري يمثّل أحد “المؤشرات” التي يعطيها المراقبون اهتماماً. وحسب عدة مصادر، فقد تطرّق الرجلان إلى “ما بعد بشّار”. وبعد اللقاء، أشار وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، إلى إجراء “محادثات حول وسائل تسوية الحرب الدائرة في سوريا”. وبعد الإشارة إلى أن الجهاديين ما يزالون “يوسّعون نفوذهم في الشرق الأوسط وحتى خارجه”، قال لافروف: “نحن على قناعة أن مكافحة هذا التهديد تتطلب توحيد جهود الدول الكبرى”.
وكانت موسكو، حتى الآن، قد اتخذت موقف دعم غير مشروط لحليفها بشّار الأسد، وعارضت استخدام القوة العسكرية في سوريا- في العام ٢٠١٣، تفاوضت روسيا مع أميركا للتوصل إلى تسوية بارعة حول الأسلحة الكيميائية للحؤول دون توجيه ضربات عسكرية أميركية- كما عارضت أية إدانة للنظام في حرب تسبّبت بمقتل ٢٠٠ ألف إنسان. وهذا علاوةً على أن روسيا لم تتوقف عن تسليم الأسلحة لروسيا منذ تنشيط العلاقات بين البلدين بعد وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في العام ٢٠٠٠.
موقف واقعي
ولكن نظام الأسد بدأ يهتزّ، ولا ترغب روسيا في خسارة نفوذها في بلد تعتبره “استراتيجياً”. وكان الإجتماعان اللذان انعقدا في موسكو، في شهر يناير ثم في شهر أبريل، بين ممثّلي الرئيس السوري والمعارضين الوحيدين المقبولين من دمشق، بمثابة اختبار. ولكن الإجتماعين لم يسفر عن أي “حل سياسي”، وأخفقت محاولة الوساطة الروسية التي كانت تهدف إلى إبقاء الأسد في السلطة أياً كان الثمن.
وهذا ما قد يدفع روسيا إلى اتخاذ موقف براغماتي. وأثناء استقباله لرئيس حكومة العراق “حيدر العبادي” في ٢١ مايو، وأثناء نقاش المبادلات الإقتصادية بين البلدين، فقد حرص السيد بوتين على التطرق للوضع السياسي في المنطقة بدون مواربة، وقال لضيفه العراقي: “نحن نرغب في أن تشجّع زيارتكم تعاوناً أقوى لمكافحة الإرهاب، ليس في العراق وحده بل وفي كل المنطقة”. ومع أن روسيا لا تفكر بتغيير النظام السوري، فإنه لم يعد يمثّل “حلا سياسيا” كما في السابق.
وتعبيراً عن قلقه، فقد بادر الرئيس السوري إلى توجيه نداء في آخر شهر مارس عبر ٨ وسائل إعلام روسية جاء فيه أن “الوجود الروسي في عدد من مناطق العالم، وفي شرق المتوسط ومرفأ “طرطوس” بصورة خاصة، أمر ضروري لإعادة التوازن الذي فقده العالم بعد تفكيك الإتحاد السوفياتي. وبالنسبة لنا، فكلما كان الوجود الروسي كبيراً، فإن ذلك أفضل لاستقرار المنطقة”.
روسيا توفّر المنفى لبشار!
ويقول مدير “مركز تحليل نزاعات الشرق الأوسط” في روسيا، “ألكسندر شوميلين”: “نعم، هنالك تطور في روسيا، وهنالك تحرّك باتجاه مزيد من التشاور مع الشركاء الغربيين ومع دول المنطقة”. وفي حال سقوط السلطة السورية، “فذلك سيخدم دعاية الكرملين التي تتمحور حول مقولة “سبق لنا أن حذّرناكم..”، ولكن روسيا لن تُحرّك إصبعاً صغيراً لمساعدة بشار، ربما باستثناء توفير المنفى له، كما فعلت بـ”سنودن”.
ويبدو “سلمان شيخ”، مدير “معهد بروكينغز في الدوحة”، الذي التقى نائب وزير خارجية روسيا “ميخائيل بوغدانوف” مؤخراً، أكثر تحفّظاً، ويقول: “يشعر الروس أنهم سيفقدون نفوذهم وأن تفكّك الدولة السورية ليس في صالحهم. وهم يقولون: “حسناً، النظام لا يسيطر سوى ٥٠ بالمئة من أراضي سوريا”. ثم يتساءلون: “لكن، من يسيطر على ٥٠ بالمئة الباقية، ومن يمكن أن يحلّ محلّ الأسد؟” هنا تكمن المشكلة.