“حين أصبحت كل قرية في لبنان مزيارة أخرى …”
“علينا أن نتعلم كيف نعيش معاً إخوة، وإلا سوف نموت جميعاً أغبياء”
(مارتن لوثر كينغ، مناضل ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة، نوبل للسلام عام 1964، اغتيل عام 1968).
أعادني كتاب جبور الدويهي، “مطر حزيران”، الذي يتناول فيه مجزرة مزيارة للمرة الأولى منذ العام 1957، الى ذكريات قديمة تحكمها صور العنف الذي عاشته زغرتا، صور نساء يبكين ازواجهن وأقاربهن، ورجال فارين من وجه العدالة، ومصابين في المستشفيات، وأحياء آمنة واخرى غير آمنة… ويدخل الكاتب باسلوبه المميز القارئ الى احياء زغرتا وبيوتها ويحوله الى شاهد على مآسيها ومشارك في أحزانها.
أهمية هذه الرواية، بالإضافة الى بعدها الأدبي، تكمن في أنها تخاطب كل اللبنانيين، ذلك أن حادثة مزيارة تتخطى من حيث مدلولاتها منطقة زغرتا – الزاوية، خاصة بعدما تحّول “الاستثناء” الزغرتاوي في ممارسة العنف قاعدة عامة مع انفجار الحرب اللبنانية.
فالعنف الذي اندلع في زغرتا في الخمسينات شكل نوعا من التجسيد المسبق للعنف الذي سيطيح كل لبنان بعد العام 1975. تصرفت العائلات الزغرتاوية تجاه بعضها البعض تماماً كما تصرفت الطوائف اللبنانية في الحرب بعد أن تمت “عسكرتها” تحت شعار الدفاع عن الذات. وجرت في “الحرب” الزغرتاوية عمليات قتل وخطف على الهوية، وشهدت البلدة “تطهيراً” لأحيائها وفرزاً سكانياً انهى الاختلاط القائم بين العائلات، كما شهدت أيضاً قيام خطوط تماس شبيهة بتلك التي قسمت بيروت الى “غربية” و”شرقية”.
هذا “التجسيد المسبق” للحرب اللبنانية أشار اليه غسان تويني في افتتاحيته في جريدة “النهار” الصادرة في 18 حزيران 1957 حين كتب: “إن الجثث الملقاة في كنيسة مزياره لن ترفع قبل أن يتضاعف عددها، اذا لم تدفنها الدولة وتدفن معها أصول الاجرام وبواعثه والقوى المحركة له ! وإن لم تفعل الدولة، حكمت على نفسها، ومهدت لأن تصبح كل قرية في لبنان مزيارة أخرى …”.
والأمر الآخر اللافت هو أن المجزرة حصلت في كنيسة، أي تحديداً في المكان الذي يرمز الى المقدّس. وشكل هذا الحدث الإشارة الأولى الى أن الدين في لحظة استنفار العصبيات يصبح عاجزاً على لجم العنف. هذا ما حصل في الحرب اللبنانية بعدما تم اختزال الدين في هويات طائفية متناحرة وجرى افراغه من مضمونه لتحويله الى مستند ومبرر للعنف.
وفي أوجه الشبه بين “الحربين” أن الوسائل الحديثة لضبط العنف ومنع انتشاره لم تكن فاعلة. فالدولة التي يفترض فيها أن تحتكر العنف وتضبطه عبر أجهزتها الأمنية والقضائية عجزت عن القيام بدورها وتحوّلت الى أداة من أدوات العنف الأهلي. ومن أوجه الشبه أيضاً ان “الحرب” في زغرتا انتهت كما انتهت الحرب اللبنانية. طويت الصفحة وكأن شيئاً لم يكن، وأعيد توزيع السلطة بين العائلات بعد إضافة مقعد نيابي ثالث. وتم تعاطي الدولة مع زغرتا على أنها “حالة خاصة” لا تطبق فيها القوانين الا بـ”التوافق”مع زعمائها.
وأهمية رواية جبور الدويهي تكمن أيضاً في أمر آخر. فاستذكار الماضي يطرح على الحاضر اسئلة صعبة وحرجة لا يمكن الهروب منها: هل بامكاننا تجاوز الماضي من دون مراجعته واستخلاص العبر والدروس منه، وهل سيبقى تاريخ الصراعات العائلية مخّزناً في الذاكرة في انتظار أن يأتي من يستخدمه مجدداً في الصراع الداخلي؟ ألم يحن الوقت لطي هذه الصفحة الأليمة التي لا تزال ترهن مستقبل زغرتا؟
أعتقد انه لا مفر من مواجهة الماضي لكي نتمكن من التأسيس للمستقبل.
ومواجهة الماضي لا تكون باستحضاره بمنطق الماضي. فليس المطلوب، بعد نصف قرن، تحديد المسؤوليات واصدار الأحكام، فلنترك الأموات يدفنون الأموات. ولكننا بحاجة الى المعرفة، معرفة الأسباب التي جعلت أبناء البلدة الواحدة والطائفة الواحدة يتقاتلون بشراسة لا حدود لها.
في لعبة العنف، هناك على الدوام ظالم ومظلوم، لكن موقع كل منهما غير ثابت لأنه يتبدل عند كل دورة عنف، اذ يتحول الظالم الى مظلوم والمظلوم الى ظالم في حركة لا نهاية لها، لا يحكمها سوى الاستسلام الى العنف. وهذا الاستسلام يخفي نفسه تحت شعار الدفاع عن النفس، فيبرئ الفاعل من فعله، ولكنه، وفي الوقت نفسه، يحوّله الى مشروع ضحية جاهزة لمن يريد قطفها.
أكتب هذه السطور ولبنان شهد مؤخراً دورة عنف جديدة. مرة أخرى، حاول فريق فرض إرادته على كل الآخرين بقوة السلاح، وذلك بحجة “حماية” سلاحه. وهذا “المظلوم” الذي كان زعم أنه في حالة الدفاع عن النفس تحوّل بعد استخدامه للسلاح الى ظالم يمارس بحق الآخرين ما كان يخشى، عن حق أو غير حق، أن يمارس بحقه، معرضاً بذلك الجماعة التي يدعي تمثيلها الى أخطار أكيدة، وهي جماعة لا علاقة لها بالقرار الذي اتخذ باسمها. فقانون العنف لا يرحم ولا يستطيع أحد أن يتجاوزه مهما اعتبر نفسه مميزاً عن الآخرين بسبب القضية التي يناضل من أجلها.
اذا عدنا الى المقارنة بين حالة زغرتا وحالة البلاد، لوجدنا تشابهاً في آلية توليد العنف: العائلية السياسية هنا والطائفية السياسية هناك. واذا تعمقنا بالمقارنة لوجدنا أيضاً أن الحل هنا وهناك لا يكون باستبدال هيمنة عائلة في زغرتا أو طائفة في لبنان بهيمنة عائلة أو طائفة أخرى. كذلك لا يكون الحل بتوزيع السلطة حصصاً بين من يدعي تمثيل العائلات في زغرتا والطوائف في لبنان، بل بايجاد دولة قادرة على ضبط العنف هنا وهناك في الأطر التي تحمي المجتمع، بما فيه العائلات في زغرتا والطوائف في لبنان.
في زغرتا وفي لبنان اليوم، سباق بين مسارين: مسار مدني يخاطب الانسان-الفرد بمعزل عن انتماءاته الموروثة، وآخر عنفي يستشعر شعور الخوف لاستنفار العصبيات العائلية والطائفية والمناطقية.
حان الوقت بعد نصف قرن على مجزرة مزيارة وثلاثة عقود على حرب لبنان أن نعمل على بناء نظام لا يسوده العنف، وأن نستخلص العبر والدروس، فنعيد ترتيب انتماءاتنا المتعددة لنعطي الأولوية فيها الى المشترك في ما بيننا، ونطوي صفحة الصراعات العائلية هنا والصراعات الطائفية هناك.
سمير فرنجيه
(كاتب – نائب زغرتا في البرلمان اللبناني)
رواية “مطر حزيران” لجبور الدويهي: رسالة في العنف من زغرتا إلى كل لبنان
Bass ken lezim y2oul el ketin min 3emil haydi el majezra w min met fiya. La2inou hal chi lezim el ness ta3erfo. Wl ketib lezim ya3rif chou b2soud
رواية “مطر حزيران” لجبور الدويهي: رسالة في العنف من زغرتا إلى كل لبنان
اوافق اتقارىء شهاب عتى كل ما جاء في تعليقه
رواية “مطر حزيران” لجبور الدويهي: رسالة في العنف من زغرتا إلى كل لبنان
الحقيقة انه يجب على انسان هذا الشرق التعيس ان يحسم امره في الاختيار بين دولة مدنية تنافس بقية الدول في مدى اتساع رقعة الحرية و الاستقلالية و التمدن و التقدم و الازدهار او الاندثار الذي يتمثل في تطرف العصبية المقيتة للعائلة او الحزب او الطائفة و مما يبدو ان انسان هذه المنطقة لم و لن يحسم امره في المستقبل القريب مما يتعارض و غريزة البقاء التي لم تجبره بعد على التخلي عن ذهنيته المميته.