“نحن للأمة في أمور دينها وأنت للأمة في أمور دنياها”
قالها عبد الله ابن عمر وأبو هريرة لمعاوية عندما تولى الخلافة
*
أخي، رجب طيب أوردوغان، كم كنت موفقاً في مصر وتونس عندما دعوت أقصى اليمين الإسلامي السياسي فيهما، المعادي للديمقراطية والعلمانية، إلى التسليم بأن: “الحرية والديمقراطية والعلمانية لا تتناقض مع الإسلام”. لكن الإخوان المسلمين في مصر رفضوا، على لسان صلاح أبو اسماعيل وعصام العريان، مشروعك كما رفضته في تونس “النهضة”على لسان رئيسها الدائم، راشد الغنوشي، الذي قال رداً على سؤال عن رأيه في مشروعك بأن: “النهضة لا تستنسخ تجارب الآخرين”، هو الذي يحاول استنساخ التجربة الإيرانية ويفتخر بأنه “تلميذ خميني”.
لكنك بتلك الكلمات القليلة المضيئة دشنت مشروع القرن في أرض الإسلام، الذي تتلهف عليه النُخب بما في ذلك شباب الإخوان المسلمين في مصر وشباب النهضة في تونس وشباب وشيوخ الإصلاحيين في إيران، الذين ضاقوا جميعاً ذرعاً بتعصب قادتهم الديني وانغلاقهم على روح العالم الذي نعيش فيه. بفضلك غدا الإسلام قادراً أخيراً على التصالح مع الحداثة بما هي مؤسسات ديمقراطية وعلمانية، ودساتير وقوانين وضعية، وقيم إنسانية وعلوم عصرية محايدة إزاء الدين. بل وتحمي الأديان من محاربة بعضها بعضاً ومن تدخل الدولة في مجال الأديان الخاص بها، كما فعلت العلمانية الإسلامية منذ الخلافة الأموية إلى الآن. مما جعل تاريخ الإسلام محكوماً بجدلية لعينة: سيطرة السياسي على الديني في دولة العلمانية الإسلامية وسيطرة الديني على السياسي في الدولة الدينية الإسلامية كما هو الحال اليوم في إيران وربما غداً في تونس ومصر وليبيا !. وحدها علمانية الدولة ، أي حيادها إزاء الأديان، تنهي سيطرة السياسي على الديني وسيطرة الديني على السياسي بالفصل بينهما بسلام.
الإصلاح الديني في أرض الإسلام، بالفصل بين الديني والسياسي كما في تركيا، مازال ينتظر قائداً استثنائياً وشجاعاً وذا إشعاع إسلامي ودولي مثلك، ودولة ديمقراطية علمانية ترعاه مثل تركيا الأوردوغانية ، وإلى تنظيم دولي يسهر على نشره في أرض الإسلام.
حددت في حديثك في التلفزيون المصري معالم العلمانية المطلوبة في أرض الإسلام، مؤكداً على أن:
1- تعريف العلمانية جاء في دستور 1982 التركي: “تقف الدولة العلمانية على مسافة متساوية من جميع الأديان”، قائلاً: “من حق كل شخص أن يكون متديناً أو ضد الدين(. . . )لكن الدولة تتعامل مع الجميع بمسافة متساوية”؛
2-: “الدولة العلمانية لا تنشر اللادينية لكنها تحترم جميع الأديان”؛
3- “أمنيتي هي أن يتضمن الدستور المصري الجديد[وأتمنى بدوري أن يتضمن الدستور التونسي]نصاً يؤكد على أن الدولة تقف على مسافة متساوية من جميع الأديان”؛
4- “إذا بدت الدولة بهذا الشكل فإن المجتمع كله سيعيش في أمن وأمان؛حتى اللاديني يجب أن تحترمه الدولة، كما يجب عليه هو أيضاً أن يحترمها”؛
5- “أتمنى على الشعب المصري أن يأخذ فكرة العلمانية من هذه الزاوية التي طرحتها، وأتمنى أن يدور نقاش في مصر حول هذا الأمر ونستطيع أن نتبادل الأفكار والتجارب(. . . )”؛
تلخيصاً نحن نحتاج إلى العلمانية في أرض الإسلام لحاجتين حيويتين:
أ- الحاجة إلى أن تكون العلاقة الوحيدة التي تقيمها الدولة مع مواطنيها على أساس الانتماء حصراً إلى الوطن وليس إلى الدين أو الطائفة أو القبيلة إلى غير ذلك من الانتماءات الجزئية؛
ب: الحاجة إلى حصر تدخل الدولة في المجال العام، أي في كل ما خص علاقات المواطنين بمؤسساتها، وحصر الدين في المجال الخاص لكل جماعة من جماعات المؤمنين الذين يمارسون بكل حرية، في ظل الدولة العلمانية، حرياتهم الدينية المكفولة بمواثيق حقوق الإنسان وغيرها.
أخي رجب طيب أوردوغان، مناقشة اقتراحك البناء في الإعلام مرغوب، لأنه سيؤدي إلى توضيح مبادئ ورهانات العلمانية وإلى تبديد المخاوف اللامعقولة من العلمانية التي روّج لها في أرض الإسلام، خاصة في مصر وتونس والسعودية ، غلاةُ الإسلاميين. لكن هذا النقاش الضروري، حتى لا يكون موسميا ثم يطويه النسيان، ينبغي أن تؤسس له أنت بنية تنظيمية تسهر على رعايته ونشره بين النخب والجمهور في العالم الإسلامي تعميماً للفائدة.
توجد اليوم دوليتان إسلاميتان: “الدولية الإسلامية” التي يقودها الإخوان المسلمون وهدفها هو”إعادة الخلافة والتطبيق الكامل للشريعة” كما يقول راشد الغنوشي الذي يبررها قائلاً: “العمل الإسلامي العالمي رمز لوحدة الأمة وهي تعوض الخلافة وقتياً”(الغنوشي، استراتيجية الحركة الإسلامية، 18 يوليو 2002، العربية). الدولية الثانيةهي: “الصحوة الإسلامية”التي يقودها أقصى اليمين الاسلامي السياسي الإيراني والتي عقدت مؤتمرها الأول في طهران (18سبتمبر 2011)؛ وهدفها المعلن خوض صدام الحضارات بالجهاد في”دار الحرب” المتجسدة في “الشيطان الأكبر[=أمريكا]”و”الشيطان الأصغر [=فرنسا+أوربا]”.
هدفا الدوليتين جنونيان: إعادة الخلافة ، وهذا “فانتازم” ماضوي لا مستقبل له؛و”الجهاد إلى قيام الساعة (…) إلى أن يقتل المسلم آخر يهودي”، كما يقول حديث موضوع، وهذا “فانتازم” إجرامي يتعارض مع حاجة البشرية الموضوعية إلى عالم قوامه الاعتماد المتبادل L’interdépendance : أي منظمات، من الأمم المتحدة إلى المحكمة الجنائية الدولية، تقوم بضبط الميول الطاردة Les tendances centrifuges للاعتماد المتبادل.
بين هاتين الدوليتين العقيمتين، بقي فراغ يتطلب الملء، أي بقي دور يبحث عن بطل: هو دولية تضم القوى السياسية – الاجتماعية الديمقراطية والعلمانية الحية في أرض الإسلام ، وهي: “دولية مصالحة الإسلام والعلمانية” تجسيداً لمشروعك التاريخي: “الحرية والديمقراطية والعلمانية لا تتناقض مع الإسلام”، الكفيل بحماية شعوبنا من احتمال السقوط في الحروب الداخلية والخارجية التي تترصدها.
لا أحد غيرك بقادر على المبادرة إلى تجسيد هذا المشروع في تنظيمٍ وقيادته بنجاح. فأنت تتمتع بالشجاعة السياسية الغائبة في أرض الإسلام، وبالشعبية وبالمصداقية في تركيا، وفي العالم الإسلامي والعالم، وبالرؤية البعيدة النظر لمصلحة شعوب أرض الإسلام التي تحتاج اليوم إلى: “الحرية والديمقراطية والعلمانية” وصناعة قرارها بالمعاهد العلمية لتلتحق بقاطرة الحضارة العالمية التي تركتها منذ قرون تنتظر متثائبة على رصيف التاريخ!