لعلي لا أجاوز القصد إن أنا بدأت رسالتي هذه بإعلان عجزي عن تعزيتك. وكيف أعزيك في مصابك الجديد القديم؟! وفي من أعزيك؟ في المقتولين أم في القتلة وهم جميعاً أبناؤك يتبادلون الأدوار، هؤلاء الذين يعتنقون مذهبين متنافرين: سنة وشيعة في قلب الإسلام دين التوحيد!
لا أعزيك إذن mon sembalble يا شبيهي، بقدر ما أطالبك بالهرولة لتجاوز هذه المحنة، كما تجاوزت أنا محنتي المماثلة (القتل المتبادل بين أبنائي المسيحيين، المنقسمين الى كاثوليك وبروتستانت) واثقاً أنك تعرف مثلي أن الدين – أي دين – برئ من الدعوة الى القتل، وإنما السياسة المتقنعة بقناع الدين هي الداعية. فما هي تلك السياسة أيها الشقيق؟ ذلك هو السؤال المحوري في حياتنا نحن البشرية، فعلى خلفيته تتبدل مواقع الأفراد والشعوب، وتتحدد مصائر الدول والمجتمعات. بيد أنني استأذنك أن أؤجل محاولتي للإجابة عن هذا السؤال المفرق بين البشر، ريثما نكتشف أولاً أوجه التشابه الحضاري.
شبيهان ولكن
بلد صغير أنت يا لبنان. وكذلك أنا. لا يتجاوز عدد السكان في كل منا الأربعة ملايين. حصلت أنا على استقلالي عام 1937، وبعدها بأعوام ستة جاء استقلالك. أنجبت أنا الأدباء العظام أمثال أوسكار وايلر، وبرناردشو، وجيمس جويس، وكان منك أقرانهم : جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وايليا أبو ماضي، مما رفع بيارقنا الجمالية عالية بين الأمم. وكيف لا وقد تجاوز التعليم العالي عندي وعندك حاجز الأربعين جامعة، وانتفت الأمية عندي تماماً بينما انخفضت لديك الى 1% للأجيال الجديدة ؟ وكيف لا.. وقد اعتمدنا – أنت وأنا – الديمقراطية أساساً للحكم؟ فحرية التفكير والتعبير والعقيدة مكفولة تماماً عندنا، وإنشاء الأحزاب متاح بلا قيد ولا شرط، وتداول السلطة قاعدة راسخة في نظمنا الدستورية، العبث بها محال وأي محال.
هكذا نحن شبيهان، فلماذا يصل ناتجي الإجمالي المحلي 145 ملياراً من الدولارات، بينما يتوقف هذا الناتج لديك عند رقمك 18 ملياراً فقط؟! ولماذا بالتوازي يبلغ الناتج القومي للفرد عندي 37000 دولار، ومتوسط الدخل السنوي للفرد 41000 (أعلى من أمريكا) بينما ناتج الفرد عندك 4740 دولار، ومتوسط الدخل للفرد لديك 5000 دولار؟!
أسألك يا شقيقي – بغير تفاخر مني – لماذا أتفوق اقتصادياً عليك بعشرة أمثال؟! أكاد أسمعك تغمغم بالقول المكرر: ذلك لأن أيرلندة قطعة من أوربا المتقدمة، بينما لبنان حبيس منظومته العربية الهشة المتخلفة.
ربما كان هذا صحيحاً في جانبه التاريخي، غير أنه ليس صواباً بالإطلاق. وآية ذلك أنه في العصر العباسي (العربي) كان العرب أغنى أغنياء العالم، حين كانت أوربا تضرب في ظلمات الفقر والمرض والجهل. حتى أن الإمبراطورية (المسيحية) تهاوت مزقاً بيد الأتراك العثمانيين عام 1453. وللمفارقة فإن ذلك العام كان بشيراً بنهضة أوربا، حيث ودعت شعوبها – تباعاً – ثقافة الثيولوجيا، مستبدلة بها مفاهيم العلمانية Secularism (التي لا تعني الإلحاد بل فصل الدين عن الدولة حسب ُ) ومن ثم فلقد حولت الشعوب الأوربية قِبلتها من الفاتيكان إلى العلم Science بشطريه التجريبي والنظري، فكانت الاكتشافات الجغرافية، والاختراعات، والصناعة التي هي منجزات طبقة البورجوازية Bourgeoisie والتي قادت الثورة بالتحالف مع الفلاحين والعمال ضداً على الإقطاع حتى تمت لها تصفيته ، لتتسع الأسواق وتتمدد ويتضاعف الإنتاج ويتجدد،، والعلمُ بهذا كله محيط، ومطور لأداة الإنسان العظمى: العقل.
العكس من ذلك جرى عندكم يا أخوة العرب. فما أن فقدتم سيطرتكم على البحر المتوسط والبحار الشرقية حتى انكفأت “بورجوازيتكم” التجاريةُ إلى الداخل ، متحالفة مع سلطات الدول والد ويلات الإقطاعية العربية لقهر الفلاحين، وقطع أرزاق الحرفيين، وإجهاض الجنين البروليتاري في رحمه الضيق؛ مما أنعش الفكر الديني الأصولي، الذي راح بدوره يخنق كل إبداع فلسفياً كان أم علمياً حداثياً ، خاصة في مجال العلوم الإنسانية.
وهكذا ظل الاقتصاد لديكم محاصراً بسياسات ولاة الأمور، تلك السياسات التي لم يكن لها من هدف إلا الحفاظ على عروشها، ونهب أقوات شعوبها، تكديساً لثروات غير قابلة للتداول في أسواق داخلية (الركود فيها طبيعي بحكم ضعف القوى الشرائية) أو في أسواق خارجية صارت مسدودة أمامها جراء تمدد الرأسمالية الأوربية الوليدة النشطة، والتي صارت تعضدها قدرات جيوش عسكرية غير مسبوقة تسليحاً وتدريباً.
آثام السياسة
في هذا المقام يمكنني الاستشهاد بـ… مفكركم العربي العالمي سمير أمين الذي يرى أن ما يميز المجتمعات الحداثية عن مجتمعات ما قبل الحداثة هو تحديد الأولوية بين السياسة والاقتصاد. فمجتمع ما قبل الحداثة يجبر الاقتصاد على أن يكون تابعاً للسياسة. أما المجتمع الحداثيّ فمقتضيات الاقتصاد هي التي ترسم سياساته. ويطيب لي زيادة في شرح فكرته أن أضرب مثلاً بالحذاء الصيني، إذ تعوق سياسة أصحابه القدم الحية عن النمو، بل وتشوهها تشويهاً. ذلك بالضبط ما حدث لي خلال القرن العشرين، حيث استنفد طاقتي القرارُ السياسي بضرورة توحيد الجزيرة، فكان تأييدي للكفاح المسلح بقيادة الجيش الجمهوري- الذراع العسكري للحزب الراديكالي الوطني (الشين فين) بدء من عام 1955- مطلقاً لشرارة الحرب الأهلية بين الأغلبية البروتستانتية ثمة الموالية لبريطانيا، وبين الأقلية الكاثوليك المنادية بالوحدة مع نظامي الجمهوري في دبلن. ولقد استمرت تلك الحرب الفظيعة لثلاثين عاماً متصلة، كنتُ فيها أفقر دولة في أوربا! ولكن ما أن وضعتُ نصب عيني تحديث اقتصاد بلادي باللحاق بقطار صناعة البرمجيات، حتى انهالت علىّ الاستثماراتُ: أوربية وأمريكية بغير تحفظ.. عندئذ تغيرت رؤيتي السياسية تجاه الوحدة “القسرية” فسعيت إلى المصالحة التى ُدشنت في يوم “الجمعة العظيمة” باتفاق بلفاست عام 1998 بالنص على حق الشماليين في تقرير مصيرهم. بعدها قام الجيش الجمهوري عام 2005 بالتخلص من سلاحه للمساعدة على إتمام التسوية النهائية والتي وضعت كامل السلطة في يد بلفاست وليس لندن، مما يشي باقتراب يوم الوحدة طوعاً لا جبراً، إغراءً بالمستوى الاقتصادي الرفيع الذي بلغته الجمهوريةُ ، وليس عن طريق التهديد أو ما يمكن تسميته بالإرهاب الفكري تحت شعار “القومية ” العرقية.
ألا تضئ لك الدربَ تجربتي هذه أيها الشقيق المتوجع ، فتنهض نهضتك الحقة مركزاً أولاً على مصالح شعبك “الاقتصادية “عاملاً على أن يكون لبنان للبنانيين وليس للسوريين العرب، أو للإيرانيين الإسلاميين الشيعة، أو للسعوديين السنة؟
في ملتي واعتقادي أنك إن فعلت فلن ينقضي عقد من الزمان ، إلا وأنت لاحق بركب التقدم، متجاوز اقتصاديات الزراعة المتخلفة، وصناعات الغزل والنسيج والأثاث وتكرير النفط المحدودة بطبيعتها، منطلقاً مع تيار الموجة الثالثة – بحد تعبير ألفن توفللر – الى آفاق صناعة المعلومات والبرمجيات واقتصاد المعرفة.
صــــر غنياً
كلمة قالها مبشر البروتستانتية كالفن Calvin ليهدئ من مخاوف المؤمنين حول مصيرهم الأخروي، وذلك بالبحث عن شواهد فضل الله، فما وجد فضلاً أعظم من الرخاء. كان ذلك تأسيساً لأخلاقيات جديدة تنبذ الفقر وتسعى للثروة والتنمية والتميز (روح الحداثة) ويقيناً أن شعبك المتعلم الذكي إذا وضع هذا المعنى أولوية ً ثقافيةً لابد بالغ النجاح بامتياز في محو الطائفية البغيضة ، لينصهر الشعب ُ بعدها في بوتقة واحدة ، قوامها الرخاء المشترك، والتضامن الأخوي، وسقفها – إن كان للتقدم سقف – المنافسة على المراكز العليا في عالم لا يعترف إلا بالنجاح والتفوق. وقتها لا غرو يعود إليك ما احتل من أرضك في “شبعا” بغير حرب، بل بالتفاوض القوى المعتز بقدراته، وساعتها أيضاً لن يجد “حزب الله”: من ذريعة لحمل السلاح ، بل سوف يتحول إلى حزب سياسي يحمي مصالح الفقراء من تغوّل الاستغلاليين المتذرعين بذريعة حماية العقيدة (الصحيحة!) وكفاه بمثل هذا الهدف مأثرة وفضلاً.
أعلم أن ما أطلبه منك كبير، والسبيل لتحقيقه وعر محفوف بالمخاطر محلياً وإقليمياً، بيد أنني أذكرك بقول شاعركم العربي المتنبي:
على قدر أهل العزم تؤتي العزائمُ / وتؤتي على قدر الكرام المكارمُ / وتعظم في عين الصغير صغارها / وتصغر في عين العظيم العظائمُ.
(طبق الأصل)
Tahadyat_thakafya@yahoo.com
شاعر مصري ورئيس تحرير مجلة تحديات ثقافية
رسالة خاصة من جمهورية أيرلندة الى لبنان الشقيق
أتابع بكل الإهتمام ما يسطره كاتبنا المصري / العربي مهدى بندق ، وأعجب بقدرته
علي الموائمة بين نزعته الإنسانية التي تخلو تماما من أي أثر للشوفينية ، وبين إدراكه
لمنطلقاته الفكرية من ثقافة عربية حرية بالنقد لعل وعسي أن تجد الشجاعة لممارسة التغييرلصالح شعوبها. وإنه ليذكرنا بدعوة عميد الأدب العربي طه حسين في دعوته
للحاق بأوروبا دون اجتثاث فظ لأسس الثقافة العربية . نعم فمصر ولبنان علي بعد خطوات من الحداثة . فقط يحتاج كلاهما لجسارة المواجهة مع أصولية مصطنعة فرضت عليهما فرضا ، وآن الأوان للتجاوز .
رسالة خاصة من جمهورية أيرلندة الى لبنان الشقيق
الصديق العزيز/مهدى بندق
خير الكلام ما قل ودل — دام لنا قلمك–دام لنا فكرك
رسالة خاصة من جمهورية أيرلندة الى لبنان الشقيق
مقال رائع وممتاز كالعادة . مع تحياتي
طارق حجي
من دبى
رسالة خاصة من جمهورية أيرلندة الى لبنان الشقيق
I am afraid the writer is quite optimitic .Neither Syria nor Iran
would take apart their plans just in case let Lebanon to act on his own intersts and welfare . You can say the same about U,S
That is the quistion
رسالة خاصة من جمهورية أيرلندة الى لبنان الشقيق
أرى أن تطبع هذه الرسالة وتوزع علي كل اللبنانيين.. بل وليتها توزع علي كل فرد
عربي . سلمت يدك يا أستاذ مهدى وبارك الله في قلمك المبدع المحترم