إقطع الطريق على حرب أهلية بحكومة مصالحة وطنية فورية
«يتدخل الجيش عندما يحوّم خطر الموت فوق رأس النظام»
آلان جوكِس. أخصائي سوسيولوجيا الأزمات
*
لم أتحمس قط لإمكانية الانقلاب على حكومة أقصى اليمين الإسلامي، الضرورية لتحقيق إسلام القراءة الحرفية للنص، لأن هذا التحقيق، المضحك المبكي، ضروري لتجاوزه إلى العلمانية الحديثة: الفصل بين الديني والدنيوي، بين المؤمن والمواطن. كنت أعوّل على حكومة الغنوشي لتنفير غالبية التونسيين من الإسلام الحرفي، المسؤول الأول عن هزيمة العقل، الكلامي والفلسفي، في أرض الإسلام. وأيضا عن الغوص، المتواصل منذ 8 قرون، في رمال الإنحطاط.
منذ مقدمات الحداثة في القرنين 15(الولادة الثانية بالعودة إلى ما قبل اليهودية -المسيحية، إلى فكر وفن وقانون الحضارة الإغريقية – الرومانية)، و16 (الإصلاح الديني الذين كان المَشْتل الذي زُرعت فيه بذور وبراعم الحداثة العالمية المعاصرة)، عجزت النخب الإسلامية، المريضة بوسواس عبادة الأسلاف القائل بأنّ كل شيء دين، عن الدخول إلى هذه الحداثة الفكرية والدينية البازغة التي دشَّنَت عصر: كل شيء علم وإصلاح دنيوي وديني، ودائما المزيد من الإصلاح الدنيوي والديني. ولأنَّ مَن جهل شيئا عاداه، فقد جاهدت وما زالت في مؤسساتها وجمالياتها وعلومها وقيمها باسم هذيان ديني سريري غالبا. وهكذا تسمَّرت، وما زالت، في عقل القرون الوسطى الإلهي، فعجزت عن التقدم إلى عقل العصور الحديثة البشري، متخذة من القرآن، الذي هو كتاب ديني حصراً، لا ظل للسياسة والعلم فيه، دستوراً وموسوعة علمية يُغنيانها عن الدستور والعلم الحديثين. وهكذا أجيب عن سؤال شكيب أرسلان: «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟».
ضرورة تجاوز إسلام أقصى الإسلام السياسي بضرورة تحقيقه، جعلتني أرى في العنف اليومي، الذي يقترفه «الذراع المسلح» للنهضة، 93 ألف سلفي، بمساعدة شرطة وقضاة الحكومة الإسلامية ضد المواطنين والسياح، مسمارا في نعش الإسلام الشرعي العنيف وإعلانا مضادا له في تونس والعالم. ثورة الاتصالات، التي ضاءلت قابلية استمرار المجتمعات المغلقة، التي تحتضر اليوم رواسبها في كوريا الشمالية وكوبا وإيران الإسلامية، تشهد لهذا السيناريو المتفائل الذي أراهن عليه.
ببركة تسارع التاريخ، أي تقدم العلم والتكنولوجيا في العالم، فَقَدَ إخوان مصر نصف ناخبيهم من قبل التمكين لحكوماتهم الإسلامية، وفقد «إخوان» تونس 30 ٪ من ناخبيهم، حسب استطلاع داخلي طلبته النهضة، بعد 10 شهور من التمكين لهم، الهزلي نصفاً والمأساوي نصفاً، وطردت مِحْدَلَة التكفير، في 2000 مسجد، آلاف المصلين من الصلاة فيها، أو الصلاة أصلاً. ويتهكم الكثيرون على صلاة وزراء النهضة، بحضور التلفزيون، في أوقات عملهم، بدلا من الانكباب حصرا على دراسة ملفاتهم. و«الذي يقبل الصلاة فرادى يقبلها جملة»، كما قال بشار بن برد، أي بعد الفراغ من العمل.
ما حدث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، قد يتكرر من حيث الأساس، في تونس الإسلامية: خلال 30 عاما من حكم الإسلام الحَرفي، ترك 80 ٪ من الشعب و90٪ من الطلبة الصلاة، ولم يعد يصوم رمضان إلا 2٪ فقط، وسَحبَ 30٪ من المؤمنين اعترافهم بوجود الله (أنظر: العفيف الأخضر: إيران 30 عاما من الثورة 30٪ من الملحدين، 2009).
النسخة الإسلامية التونسية كفيلة بإنتاج هذا، وحتى أكثر، في وقت قياسي: 5 – 10 سنوات. 56 عاما من التّحديث وإصلاح الإسلام، خاصة شرط المرأة، لم تذهب سُدى.
وهكذا، وفي لحظة تاريخيا قصيرة وبثمن نسبيا زهيد، قد ينتقل المجتمع التونسي، بحسم، إلى زمن الحداثة العالمية.
لكنّ احتمال تفجير«ثورة ثانية إسلامية» على الطريقة الإيرانية يتدارك بها أقصى اليمين الإسلامي السياسي «نواقص» انتفاضات «الربيع العربي» العفوية، جعلتني أراجع أولوياتي. “السايكوباتي” الذي كتب مقالي: «اقطعوا الطريق على المذبحة» استاء منه قائلا: “دعهم يذبحون، وبعد ذلك أكتب. وبما أنك تعتبر حكومة أقصى اليمين الإسلامي أداة التاريخ اللاواعية لإصلاح الإسلام، فدعهم يصلحون الإسلام بثمن مذبحة”! كان ردي: أرفض التفلسف على حساب الضّحايا. إذا كان ثمن إصلاح الإسلام مذبحة. فإني أفضّل عدم إصلاحه على التواطؤ مع الذباحين حتى بالصمت. لا توجد قضية واحدة مهما كانت مقدسة تستحق التضحية في سبيلها بالأبرياء إلا عند من مات ضميرهم الأخلاقي بأحد الأمراض العقلية كالبارانويا الهاذية والفُصام السريري، كما هي حال جل قادة أقصى اليمين الإسلامي أو العلماني: من القرضاوي إلى هتلر مرورا بالباقين.
إذا كان الجيش يتدخل إذا حوّم خطر الموت على رأس النظام، فأحرى به أن يتدخل إذا حوّم خطر الموت فوق رأس نُخب البلاد منذ 1956 إلى 2010 «بمحاكمات وإعدامات» كما كتب «مالك التريكي». قرينه، «عبد الرزاق قيراط» كان أوقَح عندما كتب مستعيدا خطبة الحجاج ضد المعارضة الشيعية: «إني لأرى رؤوسا قد أيْنَعَتْ وَحَان قِطافها وإني لَصاحبها: رؤوس التجمعين». و«التجمعيون» في خطاب أَقْصى اليمين الإسلامي اسم نوع لجميع النخب، في المجتمعين السياسي والمدني، التي تعارض تنْصيب ديكتاتورية دينية تعود بتونس من القرن الـ21 إلى القرن 7.
لذلك أكتب هذا النداء للجيش لأقترح عليه، إذا توفرت عوامل النجاح حسب قرار يصنعه العلم في الجيش، وبعد أن يزكيه صناع القرار الاستراتيجي في الجيوش الشقيقة والصديقة، التدخل لقطع الطريق على مذبحة للنخب التونسية يبدو أن أقصى اليمين الإسلامي يعدّ لها ما استطاع من قوة. كيف يقطع عليها الطريق؟ بحل حكومة الغنوشي الفاشلة والمؤذية و”التأسيسي” المهزلة ليشكل على أنقاضها حكومة مصالحة وطنية شاملة وفورية تضم جميع المواهب والكفاءات والخبرات بما فيها النهضوية للشروع في أمّ المهام: إعادة بناء ما خربته 20 شهرا من «الفوضى الخلاقة» للفوضى، التي نظمها أقصى اليمين الإسلامي وأقصى اليسار الطفولي طوال 2011. لـ«قطع استمرارية الدولة باستمرارية الثورة». هذه «الثورة» التي يراد اليوم «تصحيحها» بثورة ثانية إسلامية على الطريقة الإيرانية: نهرا من الدمع والدم. وهذا ما يُفصح عنه “مالك التريكي”:« أحد قادة أقصى اليمين الإسلامي:« (…) إلا أن جديد الثورات العربية قد جعلها تقع خارج نطاق الديناميكية التاريخية المعهودة لاستكمال مسار الثورات، حيث لم يحدث في التاريخ الحديث أو المعاصر أن اندلعت ثورة بدون قيادة موجهة تكون هي من يتولَّى الحكم فور سقوط النظام القديم، ولو انسلكت الثورات العربية في نمط المعهود التاريخي، لكان الوضع في تونس ومصر اليوم شبيها بما حدث على سبيل المثال، في إيران إبان سقوط الشاه. أي أن القيادة الثورية تكون قد استولت على الحكم من لحظة سقوط الطاغية، وتكون قد رتبت محاكمات وإعدامات وتصفيات للعهد البائد بأكلمه، ممثلا في معظم أفراد الفئة التي كانت حاكمة أو متنفذة أو مستفيدة. وبهذا لا يكون هناك من مجال لمضيعة الجهد والوقت في الحديث عن «الفلول» أو عن قوى «الثورة المضادة». (أنظر :لماذا ثورة ثانية إسلامية؟)
«وهكذا لا يكون مجال لمضيعة الوقت في الحديث عن «الفلول»…» استعادة لتصريح خميني للصحفية الإيطالية فالاتشي عندما سألته عن إعدام 300 ضابط في الجيش بلا محاكمة فرد:«هم مذنبون ولا داعي لإضاعة الوقت في محاكمتهم..!” فهل هذا هو ما ينتظر ضباط الجيش التونسي غَداة «الثورة الثانية» الإسلامية؟»
تونس مقبلة على مواجهات عنيفة
قبل قليل من ندوة السفراء [الفرنسيين] التقليدية التي أُفتتحت في 27-08 – 2012، قدمت الاستعلامات ملاحضات لقصر الإليزي ليس فيها ما يفرح الدبلوماسيين(…) منها مثلا هذا التحذير: تحاليل الاستعلامات تتوقع نزاعا سياسيا ودينيا ينطوي على خطر مواجهات عنيفة في الأمد المتوسط بين القوى العلمانية والحزب الإسلامي النهضة الذي يحتل مراكز السلطة والذي تدفعه المجموعات السلفية إلى الدخول في هذا الصراع».
(الأسبوعية الفرنسية لوكانار أنشيني 29-08-2012)
إذا تُركت النهضة تخوض هذا الصراع بـ93 ألف سلفي يتدربون في الجبال على الفنون الحربية واستخدام السلاح، فلاشك أن السيناريو الإيراني قد يتحقق وستُرتب «محاكمات وإعدامات» ولكنه قد لا يكون إلا محطة في مسار «الفوضى الخلاقة» للفوضى التي دشنتها انتفاضة «الربيع العربي».
lafif.lakhdar@yahoo.fr
كاتب تونسي- فرنسا
(هل من حاجة لتذكير القرّاء بأن مقالات الكتّاب “لا تعبّر بالضرورة عن رأي الشفاف”)