“اليوم،فكرة الدفاع عن حقوق الإنسان هي القاعدة التي يجتمع عليها في العالم كله أناس من قناعات وأديان و جنسيات مختلفة”
ANDREI SAKHAROV
في القرن 16 أنشأ امبراطور الهند ،جلال الدين أكبر، دينا جديدا سمّاه ” الدين الإلهي” الذي كان سانتاز (= خلاصة) من أفضل ما في الإسلام و المسيحية و الهندوسية من مبادئ و ممارسات أخلاقية، لتحقيق التعايش السلمي بين معتنقي الأديان الثلاثة. و قد نجح في ذلك. لكن دينه مات بموت مؤسسه. فلم تكن الذهنيات، التي صاغتها الخصوصيات الدينية، قد نضجت لاستقبال دين كوني يتعالى عليها.
هيأت فلسفة الأنوار بقيمها العقلانية الكونية، أي التي يسلّم بشرعيتها كل عقل سليم حيثما كان، الذهنيات الأوربية لاستقبال قيم حقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة الفرنسية في “إعلان حقوق الإنسان و المواطن” (1789).
لأول مرة في التاريخ البشري تعترف وثيقة رسمية للفرد بحقوق غير مسبوقة في مواجهة المجتمع و الدولة اللذين كانا على مر العصور يذوّبانه فيهما. تصدّى أعداء الثورة، من ممثلي المجتمع الإقطاعي و الكنيسة، مثل “ج.دو ميستر” في فرنسا و ” بورك ” في انجلترا ، لفكرة ” الكونية” في حقوق الإنسان. عندهما لا وجود لإنسان كوني. لا يوجد إلا أناس يتميزون عن بعضهم بعضا بـ”الانتماء إلى دين و وطن” دو ميستر).
في القرن العشرين نضجت بعض الذهنيات حتى خارج أوروبا لاستقبال فكرة حقوق كونية لإنسان كوني لا يرى تناقضا بين انتمائه لدين و وطن مخصوصين و انتمائه لعقل كوني و بشرية كونية.
في هذا المناخ الثقافي، وكردّ ناجع على الهذيان العنصري المسكون بوسواس الخصوصية التي جردت الإنسان من كل بعد كوني مختزلة إياه الى خصوصية عرقية، كما فعلت النازية، أو إلى خصوصية دينية كما فعلت النرجسية الدينية، أعلنت الأمم المتحدة في 1948 ” الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ” الذي دشن ميلاد دين علماني عالمي جديد هو ” دين حقوق الإنسان”.
30 مادة، أي أقل من صفحتين متوسطتين ، أسست دينا جدّد و لا يزال يجدد كل يوم أكثر، بفضل ثورة الاتصالات، ذهنيات البشرية في القارات الخمس. جمعيات حقوق الإنسان حاضرة تقريبا في كل بلد للدفاع عنه ، و مجتمع مدني عالمي يسهر على صيانته و تعميمه و غلغلته في الوعي الجمعي البشري لتطهيره من قسوة الإنسان على الإنسان المبرمجة في فصوص أدمغتنا منذ 2.5 مليون سنة.
دين حقوق الإنسان يعترف بجميع الأديان التوحيدية ( 44 % من سكان العالم) والوثنية (56% من سكان العالم) مدافعا عن حق معتنقيها في الحريات الدينية و متصديا لكل اضطهاد لهم.
اليوم دين حقوق الإنسان هو الملاذ الذي تلوذ به الأديان جميعا ضد عدوان بعضها على بعض. مثلا الشيعة في الدول السنية يستنجدون به ضد اضطهاد السنة لهم و السنة في ايران يستنجدون به ضد عدوان الشيعة عليهم، فضلا عن المؤمنين بالأديان الوثنية أو الإسلامية المنشقة، الذين لا تعترف لهم الشريعة بالحق في الوجود في أرض الإسلام حتى كأهل ذمة!
دين حقوق الإنسان ليس دينا بين الأديان الأخرى بل يختلف عنها جوهريا. الأديان الأخرى تحدد علاقة الإنسان بالمقدس، أما دين حقوق الإنسان فيحدد علاقة الإنسان بالدنيوي، بالإنسان و مؤسساته. الأديان الأخرى تعِد الإنسان بخلاص روحه بعد الموت،أما دين حقوق الإنسان فيعمل على خلاص جسده و صيانة حقوقه هنا و الآن. الأديان قائمة على ممارسة شعائر و شرائع قاسية و غالبا وحشية ، كتقديم الأطفال قربانا في بعض الأديان الوثنية أو دفن الزوجة حية مع زوجها في الهندوسية، أو ختان الذكور في اليهودية و الذكور و الإناث في الإسلام فضلا عن العقوبات البدنية الدموية… يشخّص علم نفس الأعماق هذه الشعائر بأنها عُصاب جماعي، أما دين حقوق الإنسان فلا يفرض الشعائر أصلا أو شرائع – كالشرائع الدينية- المنتهكة لحقوق الإنسان. كل ما ينادي به هو ضرورة احترام قيم إنسانية مشتركة بين البشر لجعل حياتهم أقل شقاء.
الأديان تفرض على المؤمنين بها أداء “حقوق الله” أي القيام بالفرائض الدينية و تطبيق العقوبات البدنية، أما دين حقوق الإنسان فلا يفرض على الإنسان و المؤسسات إلا احترام حقوق الإنسان التي من دونها لا يكون حقا إنسانا. الأديان جميعا تقريبا تفرض عدم المساواة بين الرجال و النساء و بين المؤمنين و غير المؤمنين. أما دين حقوق الإنسان فيطالب بالمساواة بين الرجل و المرأة و المؤمن و غير المؤمن في الحقوق و الكرامة. الأديان -عدا البوذية- تحرِّم على معتنقيها اعتناق دين آخر تحت طائلة عقوبات دموية كعقاب الردة في اليهودية و الإسلام، أما دين حقوق الإنسان فيرحب باعتناق المؤمنين به لأي دين أو فلسفة شاؤوا، فهو الدين الوحيد غير المصاب بالنرجسية الدينية؛الأديان الأخرى تستمد شرعيتها من العقل الالهي سواء كان الله أو الآلهة المعصومين من الخطأ، أما دين حقوق الإنسان فيستمد شرعيته من العقل البشري ، غير الكامل لكن القابل لكمال لا يكتمل أبدا ، و الخطّاء لكنه يحاول باستمرار تصحيح أخطائه و تحسين أدائه و نقد ذاته. فما هي حقوق الإنسان التي يوصي دين حقوق الإنسان باحترامها و مازال أقصى اليمين العنصري في الغرب و أقصى اليمين الإسلامي في الشرق يحاربانها؟
هي الحقوق التي اعترفت بها الحداثة، ممثلة في الفلسفة الإنسانية التي اعتبرت الكرامة البشرية قيمة القيم و فلسفة الأنوار التي حققت انتصار العقل البشري على العقل الإلهي و العلم على الأسطورة؛ لكل إنسان بما هو إنسان، بصرف النظر عن جنسه و جنسيته و لونه و لغته و دينه، الحق في الحياة الذي أدى أخيرا إلى إلغاء عقوبة الإعدام في أوروبا و بعض الدول المتحضرة مثل تركيا الإسلامية، الحق في المساواة في الحقوق و الكرامة لجميع البشر دون استثناء، الحق في السلامة الجسدية ضد العقوبات المشوِّهة للجسد و المنافية للكرامة البشرية مثل الجلد و قطع اليد أو قطع اليد و الرجل من خلاف و الرجم و دق العنق و العقوبات التعزيرية التي لا تقل عنها قسوة، الحق في الحرية المسؤولة ، أي التي تعترف بحرية الآخر كخط أحمر. هذه الحرية هي في الواقع مجموعة من الحريات كحرية التعبير و التفكير و الاعتقاد فضلا عن الحقوق المدنية و السياسية: اعترف دين حقوق الإنسان للإنسان بحقوق اجتماعية و اقتصادية أساسية كالحق في العمل و السكن اللائق و الأجر الكريم و الإجازات المدفوعة الأجر و العلاج المجاني أو شبه المجاني. كما اعترف دين حقوق الإنسان بحق الفرد في تقرير مصيره في حياته اليومية و اعترف أيضا بحق كل شعب في تقرير مصيره و حكم نفسه بنفسه.
حقوق الإنسان مكفولة لكل إنسان بشرط وحيد: عدم انتهاك حقوق الآخر. و هي حقوق كونية أي صالحة لحماية الحقوق الأساسية لكل فرد حيث كان أو مجموعة بشرية حيث كانت.
يواجه دين حقوق الإنسان مقاومة سياسية في بعض البلدان التي لم تنتقل الى الديمقراطية الكونية بعد. لكنه يواجه في أرض الإسلام مقاومة دينية سلاحها التكفير لتنفير المؤمنين منه، لكنها مقاومة يائسة. يشهد على ذلك أن أحد قادة أقصى اليمين الإسلامي مثل حسن الترابي نسخ الآية التي تحرّم على المسلمة الزواج ممن تحب إذا كان غير مسلم ، معترفا لها بالحق في الزواج من اليهودي والمسيحي والوثني، ونسخ آية التفاوت في الشهادة والميراث بين الذكر والأنثى معترفا للمرأة بالمساواة في الشهادة والإرث، كما يشهد على ذلك إلغاء الحكومة الإسلامية التركية في الدستور لعقوبة الزنا والإعدام والاعتراف للمسلم بالحق في تغيير دينه…
نسْخُ العقل البشري لأحكام العقل الإلهي ليس غريبا عن ممارسات المسلمين منذ صدر الإسلام. كان الصحابة كلما نزلت آية رأوا أنها مضرة بمصالحهم تنادوا: “لنذهب إلى رسول الله عسى أن يغيرها لنا كما غير آيات قبلها” (تفسيرابن كثير، الآية 206، البقرة: “وما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها”).
أكد البخاري: “نزل القرآن بطلب من الصحابة”. و كان عليه أن يضيف: ونسخ أيضاً بطلب منهم. واصل الصحابة النسخ بعد النبي، فنسخ أبو بكر حق المؤلفة قلوبهم في الزكاة (الطبري الآية 60، التوبة)، ونسخ عمر وعلي و معاذ آية الغنيمة (41، الأنفال، انظر الخراج لأبي يوسف ص 18). و نسخ الفقهاء… ونسخ الطاهر الحداد ونسخ الترابي ونسخ التاريخ والعلم عشرات الآيات والأحاديث…
الآيات كانت ولا زالت منذ نزول القرآن إلى اليوم مرشحة للنسخ كلما اقتضت المصلحة ذلك، والمصلحة تقتضي اليوم نسخ كل ما يتعارض مع حقوق الإنسان من نصوص و أحكام تقادمت.
عدوان لدين حقوق الإنسان العقلاني العالمي: أقصى اليمين العنصري في الغرب وأقصى اليمين الإسلامي في أرض الإسلام. لماذا؟ لأنها تتنافى مع النرجسية العرقية عند العنصريين ومع النرجسية الدينية عند الإسلاميين.
منذ انتخابات23 أكتوبر، انتقلت تونس إلى الحكومة الإسلامية، حكومة حركة النهضة التي يعادي رئيسها، راشد الغنوشي، الديمقراطية وحقوق الإنسان .لأن الأولى منافية للشورى والثانية منافية لـ”حقوق الله”على عباده. كتب بهذا الصدد: “لقد تشكلت أجهزة التلقي في أمتنا على نحو يجعلها لا تستجيب إلا لنداء العلماء الذين تثق في دينهم ويخاطبونها باللغة التي تفهمها، لغة قال الله و قال الرسول، لغة الحلال والحرام(…) والجنة والنار (“الفصلية الإسلامية “مرايا” خريف 2002 باريس). أما حقوق الإنسان فلا مكان لها في تراث المسلمين وأجهزة تلقيهم و منظومة قيمهم الدينية إذ أنها “دين بشري” على حد تعبيره يتنافى مع الدين الإلهي. فهي منذ بدايتها مشوبة “بشوائب بيئتها الغربية التي نبتت فيها(…) والمتأثرة ولا شك بما في البيئة الغربية من إرث ديني مسيحي وبما فيها خاصة من مذهب طبيعي (= إلحادي) ومزاج ليبرالي علماني لا يني يكافح من أجل نزع القداسة عن كل نشاط مجتمعي وحتى فردي إذا أمكن مما جعل حرية الفرد هي الأصل(…) وهو (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) لا يعبر عن كثير من الثقافات التي تجعل مكانا أعظم للمصلحة الجماعية أو تفسح مكانا لرقابة عليا على ضمير الفرد وعلى ضمير المشرع وعلى سلطان الدولة مثل الرقابة الإلهية عبر الوحي وعلى إعلاء قيم الشريعة فوق كل سلطان وتنصيب عصر النبوة والخلافة الراشدة مثلا يقاس عليه كل حكم وهو ما جعل الثورة ممكنة والسيف ضد المستبدين أبدا مشرعا” (” مرايا” خريف 2002).”
الخطاب الديني في المساجد لم يعد يتكلم منذ شهور إلا لغة الحلال والحرام والجنة والنار… انضاف إليه الخطاب الإعلامي في مواقع الفايسبوك الشهيرة في تونس والتي اشتراها أقصى اليمين الإسلامي بأربعمئة ألف دولاركما يقال، قد ينضاف إليها التعليم. أما حقوق الإنسان فلا مكان لها في تراث المسلمين لأنها مزيج من المسيحية والإلحاد والليبرالية والعلمانية التي تجعل “حرية الفرد هي الأصل” ، عكسا للثقافة الإسلامية التي تجعل مصلحة الجماعة هي الأصل و تضع ضمير الفرد تحت الرقابة الإلهية، و تُعْلي قيم الشريعة فوق كل سلطان، و تنصب الخلافة الراشدة مثلا أعلى يقاس عليه كل حكم لامتحان مدى انتمائه للإسلام!
فهل ستنتقل حكومة الفقهاء، العاملة على “إعادة الخلافة و التطبيق الكامل للشريعة”،( الغنوشي)، من كابوس إلى واقع في تونس؟
فائدة: الإقبال على الانتخابات كان ضعيفا
نشرتُ في رسالة سابقة نقلا عن شاهد عيان أن نسبة المقترعين كانت 76%، لكن الإحصاء الرسمي النهائي أكد أن نسبتهم كانت 45% فقط، فكما كان الإقبال على التسجيل ضعيفا كان الإقبال على الاقتراع ضعيفا هو الآخر.
الـ 55% لم يقترعوا احتجاجا على الانفلات الأمني، وضد التدمير المنظم للممتلكات الخاصة والعامة ، وضد الإضرابات والاعتصامات وقطع الطرق لمنع العربات من دخول المدن وغيرها من أعمال التخريب التي زادت جيش العاطلين من نصف مليون في أول العام إلى مليون في آخره. باختصار، ضد تخريب أقصى اليمين الإسلامي حلفائه الموضوعيين، من أقصى اليسار الطفولي، للكثير من منجزات الحداثة التونسية طوال 55 عاما!
رسائل تونسية: ما مصير حقوق الإنسان في تونس الإسلامية؟
و ماذا كان حال الإسلام في تونس العالمانية الحداثوية يا أستاذ عفيفي؟