” الغنوشي رفَضَ دائما الحوار واختار اللجوء إلى العنف” ( عبد الفتاح مورو ، نائب راشد الغنوشي في رئاسة النهضة) .
*
المُرسَل إليهم هم على التوالي: قرائي، “مؤتمر النهضة” ، صنّاع القرار الإقليمي والدولي. استثنيتُ صنّاع القرار التونسي، لأن صانع قرار 11 مليون نسمة هو شخص واحد وحيد: راشد الغنوشي! لإبلاغهم رسالة ملحّة: وجود الغنوشي على رأس النهضة ورأس الدولة يشكل خطرا وجوديا عليهما معا.
ما العمل؟
إبعاد الغنوشي عن صناعة قرار النهضة وعن صناعة قرار الدولة. إحتكر صُنْعَ قرار النهضة باحتكاره لرئاستها لأكثر من 40 عاما. “الجماعة الإسلامية” لعام 1972 غيّرت مرارا إسمها لكنها لم تغير، ولو لمرة واحدة، رئيسها وصانع قرارها:”الشيخ المجاهد”. وها هو اليوم يضم إلى رئاسة النهضة وصنْع قرارها رئاسةَ الدولة التونسية وصنع قرارها.
باكرا، اكتشف العلم السوسيولوجي السياسي الأمريكي أن أي رئيس، لحزب أو دولة، يعطي أفضل ما عنده في السنوات الـ 10 الأولى من ولايته ثم يُصاب بجنون العظمة السقيم والعقيم. وهذا ما يكابده اليوم وسط اليمين ووسط اليسار المهمَّشَين في “النهضة” وتكابده معهما الدولة التونسية: “التي هزلت حتى بدَا من هزالها كَلاها / وحتى سامَها كلّ مُفلس”. لهذا السبب لا تتجاوز ولاية الرئيس الأمريكي 8 أعوام.
سُقم وعُقم جنون العظمة يتجليان في تونس في الارتجال، والنرجسية الحزبية، والهذيان الديني [= التصحّر الديني ] ، والأمية السياسية، والحكم الفردي الهاذي وجهل أبجدية صنع القرار الحديث بالعلم والكمبيوتر!
كتبتْ مُراسلة الأسبوعية الفرنسية”جون أفريك” من تونس فريدة دحمان : “حلفاء النهضة في الحكومة لا وزن لهم في اتخاذ القرار. الإسلاميون هم الذين يحكمون ويتباهون بذلك وبكل قوة، إلى درجة الخلط بين النشاط الحزبي والنشاط الحكومي . لا يمكن اتخاذ أي قرار من دون مصادقة رئيسهم التاريخي راشد الغنوشي عليه. رئيس النهضة كَتومٌ لذلك لا يتدخل علنا إلا نادرا (…) لكنه هو رجل البلاد القوي الذي لا يمكن الالتفاف عليه. فهو الذي يضع، بلمسات صغيرة ومنتظمة، بصمتَه على السياسة التونسية (…). فهو الذي يستقبل كل صباح، بعد صلاة الفجر، رئيسَ َالحكومة، حمّادي الجِبالي، الذي رفض الغنوشي قبول استقالته مرتين، لتقييم الوضع. كما يجتمع كل أسبوع مع رئيس الدولة، المنصف المرزوقي، ومع رئيس المجلس التأسيسي، مصطفى بن جعفر، ويسهر بعين لا تنام على أن يكون جميع المسؤولين الجدد على رأس المؤسسات العامة منحدرين من صلب النهضة (…). فهو اليوم المرجع الأعلى لحركته وللحكومة معا.” ( المصدر :جون أفريك، العدد 2681)
الوقائع التي لاحظتها مراسلة الأسبوعية الفرنسية تتطلب إلقاء بعض الأضواء لإدراك أبعادها السياسية.
1)الحزبان المتحالفان مع ” النهضة” هما: حزب المؤتمر (حزب رئيس الجمهورية) الذي وصفه أمينه العام، عبد الرؤوف العيادي، الذي انشق عنه مؤخرا، بأنه “النهضة 2” وحزب التكتل الذي انشق هو الآخر، بقيادة خميس كْسيلة، رافضا التحالف مع النهضة. هذان الحليفان الضعيفان تعاملهما قيادةُ النهضة معاملة الأيتام على مأدبة اللِّئام : “لا وزن لهما في اتخاذ القرار” . تماما كما كانت القبائل في الجاهلية تُعامِل قبيلة تَيْم المستضعفة : “ويُقضَى الأمر حين تغيب تَيْم / ولا يُستأذنون وهم حضور!”. هذان “الحليفان” هما إذن مجرد شاهديْ زور على حكم الحزب الواحد ” النهضة” وعلى تحكُّم الفرد الواحد، الغنوشي، فيه وفي الدولة: إذ ، كما تقول المراسلة: “لا يستطيع أحد [= في النهضة أو في الدولة] اتخاذ قرار من دون مصادقته عليه”.
قبل أسابيع من فوز “النهضة” في الانتخابات، نصحتُ الأحزاب الأخرى بعدم التواطؤ مع أقصى يمين النهضة بمشاركته الصورية في الحكومة. فأقصى اليمين الإسلامي، بتكوينه النفسي ـ الديني ـ السياسي احتكاريٌّ: يحتكر الحقيقة الدينية والدنيوية ويحتكر النطق باسميهما. “السلطة كالمرأة لا يتزوجها إثنان”، كما قال أحد الإسلاميين السودانيين! وقبله قال زينوفييف مبررا ديكتاتورية الحزب الواحد الستاليني: “يمكن ان يوجد في روسيا حزبان لكن بشرط ان يكون أحدهما في السلطة والآخر في السجن”. إذن اتركوا أقصى اليمين الإسلامي يحكم وحده ويتحمل مسؤولية فشله وحده.
2) تلاحظ المراسلة بأن “الغنوشي” كَتوم لا يتدخل علنا إلا نادراً”. الكتمان وعدم التدخل العلني، الذي قد يكون مجلبة للاعتراض والنقد، هما أحد مفاتيح شخصية الغنوشي النفسية. فهو لا يعبر عن ما يفكر فيه حقا إلا في السّر والكتمان. طاقية الإخفاء هذه هي درعه الواقي من تحمّل مسؤولية قراره ومن التّعرض للاعتراض والنقد، هو المُصاب بِرُهاب الاعتراض والنقد. قال الصحفي التونسي توفيق بت بريك: في عهد بن علي كانوا يقولون لي انقُدْ مَنْ شئتْ عدا الرئيس، واليوم أيضاً، في عهد الغنوشي، يقولون لي انقد ما ومَن شئتَ إلا “الشيخ” [ = راشد الغنوشي]. فأرد عليهم: اليوم، كما بالأمس، لا، لن أنقد إلا ” الشيخ”.
وهكذا يصبح مفهوما لماذا تخصِّص “جون أفريك” ـ التي يبدو انها قبلت الشرط الذي رفضه بن بريك ـ بجانب كل مقال نقدي للنهضة وحكومتها مقالا ـ إعلانا يحرق البخور للغنوشي. فهذا هو ثمن ذاك!
عادةً يبدأ الطغيان ، السياسي او الديني ـ السياسي مع إصابة “الرئيس” أو “الشيخ” بِرُهاب النقد. النقد جارحٌ خاصة للمصابين بالهذيان النرجسي. في هذه الحالة يغدو الاعتراض، في نظره، معارضة، والمعارضة خيانة. من هنا تبدأ ديكتاتورية الحزب الواحد والحكم الفردي: “ديكتاتورية الحزب على الشعب، وديكتاتورية اللجنة المركزية على الحزب، وديكتاتورية المكتب السياسي على اللجنة المركزية، وأخيرا ديكتاتورية الأمين العام [= في ثقافة أقصى اليمين الإسلامي” الشيخ”] على المكتب السياسي او مجلس الشورى.
هذه هي الجدلية الجهنمية لديكتاتورية ستالين وهتلر ونسلهما اللعين. في “القانون الإسلامي” الإيراني: يُعاقَب بالإعدام كُلّ من ينتقد الإمام خميني أو المرشد خامنئي . “المستحيل ليس إسلاميا”. على المجتمعين المدني والسياسي أن يتسلحا باليقظة حتى لا يصدر مثل هذا القانون في تونس اليوم!
المفتاح الآخر لشخصية الغنوشي كما شخّصه بدقة عبد الفتاح مورو، نائبه في رئاسة “النهضة” وأخواتها هو رفض الغنوشي لثقافة الحوار: ثقافة التسوية والحل الوسط التي لا سياسة من دونها: “رَفَضَ الغنوشي دائما الحوار واختار اللجوء إلى العنف” ( جون أفريك 12. 06. 1991) . تعبيراً عن هوسه القهري بالعنف، أعلن “الشيخ” عشية انتخابات أكتوبر 2011: “اذا تم تزوير الانتخابات فسأسقِطُ 10 حكومات” لا أقل ! وهو يعلم جيدا ان دول القرار الدولي أنذرت الجميع بأن تزوير الانتخابات خطٌ أحمر!
3) يبدو ان رئيس الحكومة، حمّادي الجبالي، الذي هو عمليا باش كاتب لدى “الشيخ” ، صادقٌ مع نفسه: فقد قدّم استقالته للشيخ مرتين اعترافا بعجز حكومته عن ممارسة الحكم الرشيد، لافتقادها لركنَيْه الأساسيين: الخبرة الكافية والكفاءة المهنية. فالحكم الرشيد يتطلب صنْع القرار بواقعية: بالعلم والكومبيوتر. لكن “الشيخ” الذي يتلذّذ ، كأي حاكم مُطلق، بإذلال معاونيه، رفض قبولها!
روى خروتشوف أن ستالين في آخر أيامه كان يجمع أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي لإذلالهم بِطرح أسئلة سياسية فارضاً على كل منهم الإجابة عنها. وبعد الاستماع يرد عليهم : “أيتها القطط العمياء ماذا ستفعلون بعدي؟ الجواب الصحيح هو ….. “!
4) الغنوشي هو اليوم الصانع الأول لمآسي 11 مليون تونسي بإصراره اللامعقول على أن يكون جميع المسؤولين الجدد، أسوةً بما فعلت قبله إيران والسودان الإسلاميتان وطالبان الأفغانية، من “صُلْب النهضة” . أي ان مؤهلهم الوحيد هو غالبا ولاؤهم للنهضة وشيخها! والحال ان تونس ،التي تغرق، وتونس التي تحترق، في حاجة حيوية وماسة لذوي الخبرة والكفاءة لا لذوي الولاء والطاعة.
أحد الأسباب الرئيسية لأزمة العالم العربي المُزمنة هو إقصاء أهل الخبرة والجدارة المهنية وتقريب أهل الولاء والطاعة. هكذا نفهم لماذا تهاجر الأدمغة منه إلى الشمال حيث الخبرة والكفاءة المهنية هما وحدهما معيار تحمُّل المسؤولية. كيف يستطيع من خسر 800 ألف دماغ، ويخسر كل يوم المزيد، بناء اقتصاد حديث وتعليم عقلاني وإدارة فعّالة وسياسة داخلية وحارجية واقعية؟!.
5) هذا “الشيخ” الذي نصّب نفسَه رئيساً لرئيس الحكومة، ورئيساً لرئيس الجمهورية، ورئيساً لرئيس المجلس التأسيسي، مُصادراً هكذا قرارهم الدستوري لحسابه الخاص، لم يُنتَخَبْ بصوت واحد لهذه الوظيفة غير المسبوقة ولا لأية وظيفة أخرى . فهو يحرِّم الانتخابات شرعا ” ا مجال في المجتمع الإسلامي للحملات الانتخابية التي يقودها الزعماء (….) انما الأمة هي وحدها التي تزكّي وترشِّح من تراه كفؤا” (الغنوشي ، مقالات ص 141). وهكذا ، فنقص الشرعية القانونية ونقص الكفاءة السياسية والنقص المذهل لقلة المؤيدين لأهلية شرعية اضطلاعه بالرئاسة تجعل جميعا من رئاسته للنهضة وتونس كارثة!
في استطلاع ” نيوز أوف تونيزيا” الذي أجراه معهد س 3 دراسات، ما بين 23 و 28 مايو 2012: “بلغت نسبة التونسيين الحيارى، الذين لا يعرفون لمن سيصوتون[= في رئاسيات2013] 41%. وهي أعلى نسبة منذ يناير 2011. المرزوقي [= رئيس الجمهورية] يتمتع بـ 13,3% من نوايا التصويت، الباجي قائد السبسي [= الساعي إلى تجميع أحزاب المعارضة، التي تقل نجاعتها عكساً مع عددها، في كتلة تاريخية] يأتي في الموقع الثاني بنسبة 8,5% ، حمّادي الجبالي يأتي في الموقع الثالث بنسبة 5,8%، مصطفى بن جعفر بحصة 4,7% ، حمّه الهمامي[= رئيس الحزب الشيوعي لعمال تونس] يتفوق لأول مرة على راشد الغنوشي[ فيأتي في المرتبة السادسة] بنسبة 2,1% . أما نوايا التصويت [= في الرئاسيات] لصالح راشد الغنوشي فهي نسبيا ضئيلة 1,9%” كما يقول محِّلل الاستطلاع.
التقط الحدس الشعبي أن الغنوشي غير مؤهَّل للرئاسة. هذا الحدس النافذ يتلاقى مع حقائق علم السياسة القائلة اليوم بأن من تنقصه الواقعية وثقافة الحلول الوسط هم متطرفون غير جديرين بالحكم.
رئيس الرؤساء الثلاثة، الغنوشي، لا يتمتع لدى ناخبي رئيس تونس في 2013 إلا بنسبة 1,9 % قياساً إلى منافسيه الـ 5 على الرئاسة. أيضاً أثر عودته مباشرة في 2011 لم يتمتع الا بنسبة 1 %!
أعترفُ بأن المعاجم لا تسعفني بكلمة لوصف هذه المأساة ولسكوت المثقفين عليها إيثارا للسلامة. أتفهّمُ جيداً مناخ الخوف من اقتحام “السلفيين”، الذراع المسلح لأقصى يمين النهضة، لغرف نومهم الذي يؤرقهم كل ليلة. لكني لا أبرره. لا أطالبهم بالمجازفة بحياتهم كما أجازف أنا بالبقية الباقية منها. كل ما أقترحه عليهم هو التوقيع على عريضة جماعية تفضح هذه الفضيحة غير المسبوفة في تاريخ بلادهم!
الغنوشي يكرر فيها لأول مرة سابقة القذافي الذي نصّب نفسه رئيسا ،خارج القانون، للدولة طوال 42 عاما . فهل سيكابد 11 مليون تونسي وتونسية 42 شتاء آخر؟
رسائل تونسية : رئاسة الغنوشي خطر على ” النهضة” وتونس معا
الإنتفاضات في المجتمعات المتخلفة اسقطت عاهات واتت بعاهات جديدة ستفعل الشيء نفسه بطريقة مخادعة والشعب من جنى على نفسه.