لم يكن هدفي من المشاركة في “مسيرة العودة” في ذكرى نكبة فلسطين هو رؤية الأراضي المحتلة من أقرب نقطة حدودية مع لبنان. فأنا لبناني، وبمقدوري زيارة مارون الراس ساعة أشاء.
لكني شاركت بدافع الفضول والرغبة في رؤية مشاعر الشوق والحسرة تتجسد أمامي في عيون اللاجئين الذين سمح لهم للمرة الأولى منذ التحرير عام 2000 ,، والأخيرة ربما، نظرا للحظة حرج أمنية، بإلقاء التحية على أرضهم. فليس إذن السماح بالقدوم إلى هذا المكان المحرم لدواع إنسانية بالطبع أو مشاعر وطنية هبطت فجأة كوحي إلهي على وجدان زعماء القضية والمتاجرين بها. إنما لظروف سياسية استغلت كعادتها هذه البقعة العزيزة من الدنيا لتوصل رسائلها إلى من يهمه الأمر, فكان اللاجئون الفلسطينيون مرة جديدة أبطالا لمسرحية عبثية أعدتها وأخرجتها عبقرية الأنظمة والأحزاب العربية وقضيتهم المركزية متنفسا لرؤساء وقادة يشتد عليهم الخناق في أوطانهم.
أكثر من عشرين ألف لاجئ من مخيمات لبنان من أقصاه إلى أٌقصاه زحفوا منذ ساعات الصباح الأولى، منتهزين عوارض النخوة الفجائية التي أصابت المسؤولين عن شتاتهم.
تجمعوا أعلى التلة في مارون الراس المشرفة على أرضهم السليبة، يلوحون بقلوبهم وأيديهم للبيارات والسهول والتلال البعيدة. إلى جانبي إمرأة ثمانينية ما زالت ذاكرتها تختزن تفاصيل كل الأيام التي عاشتها هناك. تشير لحفيدتها باتجاه مستعمرة “مرغليوت”، هناك خلف تلك التلة كنا نعيش كنت حينها في مثل سنك، ومن هذه الطريق شمال التلة لجأنا إلى لبنان. رجل مسن وقع إلى الأرض من شدة الإعياء وصحافيتان بريطانيتان تركتا عملهما وانصرفتا لإسعافه، تبدت له قريته “صلحا” التي صارت تسمى “أفيفيم”عن بعد وسط المروج الخضراء.
ما إن انتهى الإحتفال السياسي في “حديقة إيران” المفتوحة على المشهد الفلسطيني من كل الإتجاهات، ونزول السياسيين و المشايخ ومن يتبعهم من الملتحين إلى الشرفة الأكثر قربا وتلاوة “دعاء من أجل فلسطين”، حتى سارع المنظمون إلى لم الكراسي مباشرة والإيعاز إلى أصحاب الباصات بالنداء على الركاب.
بعدها انتشر أشخاص يعتمرون القبعات الصفراء صاروا ينصحون المشاركين “بلطافة” بالإسراع في الإلتحاق بباصاتهم للعودة قبل مغيب الشمس.
في هذا الوقت انفصلت مجموعات من الشباب عن قوافل العائدين، كأنها تحضر لأمر ما. وبسرعة البرق , اندفع حوالي مئتي شاب وفتاة باتجاه الحاجز الحديدي الذي يحيط بحديقة إيران وسط صراخ ودهشة الحاضرين، قافزين نزولا صوب المنطقة المحرمة. بداية حاول عناصر من الجيش أن ينصحوهم بعدم النزول، و نبهوا إلى وجود ألغام وقنابل عنقودية في المحيط. من خلفهم تولى مدنيون أو أنه يفترض أنهم مدنيون مهمة التنبيه إلى الأماكن التي يوجد فيها الألغام و إلى مسالك أخرى غير ملغومة!
كانت الوفود السياسية المحلية والعربية تنسحب في تلك اللحظة مبتسمة، وخلال لحظات قليلة خلت المنطقة من أي ممثل حزبي من المفترض أن يبقى لينصح أو يساعد في عدم التهور والإنزلاق إلى الموت المحتوم .
أسفل المنحدر وقف عناصر من مغاوير الجيش اللبناني ترك لهم عبء التصدي ومواجهة الجموع الجامحة، فلم تستطع قبضاتهم ولا هراواتهم التي رفعوها في الهواء تهديدا إقناع المندفعين بعدم التقدم وأفلت من حصارهم من أفلت . قبالة “سور الجيش” كانت مجموعة من الإسلاميين ممن حفوا الشوراب وعفوا عن اللحى يهتفون بصوت واحد “خيبر خيبر يا يهود” ويندفعون باتجاه مغاوير الجيش، فيفشل الخرق ويعاودون الكرة دون جدوى.
تصرخ فتاة محجبة جدا: “دعونا نمر يا خونة”، وأخرى تبصق على خوذة جندي لبناني ويهتف من معها “يا عميل يا عميل”! جلست أرتاح على صخرة في ظل سيارة الإسعاف. حولي شبان يتأملون المشهد و يتحدثون بهواتفهم النقالة. أنصت إلى حديثهم فعرفت من لهجتهم أنهم سوريون أتوا من دمشق للمشاركة، فكتمت دهشتي!
كانت في هذه الأثناء تتجمع في السهل الضيق الفاصل بين الحدودين سيارات الإسعاف التابعة للهيئة الصحية الإسلامية التي لم يسمح لغيرها بالتقدم. عدد لا يحصى منها لا أدري متى وكيف زحفت وتجمعت في المكان. في الجانب المحتل لجهة الغرب قناص إسرائيلي إختبأ خلف دشمة عسكرية أخذ يتصيد الزاحفين صوب الشريط. فسقط الشهيد الأول تلاه أربعة جرحى كانوا حصيلة المرحلة الأولى.
الرصاص المنهمر كالمطر من السماء ألهب حماسة المتقدمين, فاندفعوا بعزم أكبر باتجاه الشريط. حاولت التقدم مثلهم، صار صوت الرصاص أعلى، وكلما ازداد أزيز الرصاص كلما ازداد التقدم بخطوات أوسع باتجاه الأسلاك الشائكة. شبان وشابات غير آبهين بالموت، فلا حياة يتمسكون بها، و لا شيء في مخيماتهم المحاصرة بالمحجوب والممنوع يحفزهم للبقاء على قيد الحياة، طالما الحياة هناك لا تتجاوز حدود الفقر والفاقة، فاستبدلوا العودة إليها بالدخول إلى الجحيم من أوسع أبوابه. أرادوا أن يلقوا على أرضهم النظرة الأخيرة بل الأولى ويودعوها كمن يودع عزيزا إلى مثواه الأخير. فذهب بعضهم إلى مثواه الأخير. فهم وأرضهم صنوان وكلاهما أسيرا احتلال وبؤس منذ 63 سنة. ارتفعت وتيرة الغضب والهتافات ورشق الحجارة، فاستشرس الجنود الإسرائيليون عندها وأشعلوا نيران رشاشاتهم، وتحول المكان إلى ساحة حرب حقيقية. وبدا أن جنود الإحتلال قرروا قتل الجميع. صار الرصاص ينصب عشوائيا على الرؤوس والصدور: الحصيلة 112 جريحا و10 شهداء. صرنا ننسحب إلى الخلف واحتمينا بسور الجيش اللبناني الذي لم توفر الرصاصات الإسرائيلية عناصره, كنت من عداد الناجين القلائل. نجوت من الرصاص، لكن لم أنج من كوابيس الرعب التي سترافقني إلى ما تبقى من عمري.
الطريق إلى أعلى صعبة التسلق، والتلة شديدة الإنحدار. صرت كلما ارتقيت قليلا أعود وأنزلق مرة أخرى، لأبدأ بالتسلق من جديد، فالأعشاب الطرية تحولت إلى لزجة تحت وقع الأقدام، وصارت تسحبني نزولا كلما هممت بالتسلق، فأجلس أستجمع قواي وما أوتيت من شجاعة، ولا شيء فوقي سوى السماء، لأعاود وأجد السير صعودا وظهري للعدو! إنها استرتيجية الحمقى. كيف أدير ظهري للعدو وهو يقنص ويتصيد الصاعدين كالعصافير!؟ وصلت بصعوبة إلى رأس التلة، وارتميت على العشب ألهث من خوف ومن تعب ,أتى أحدهم وناولني ماء وقال لي “الحمد لله ع السلامة”.
في الطريق إلى الأمان حيث ركنت سيارتي في ساحة بنت جبيل كان أزيز الرصاص ما زال يتناهى إلى مسمعي، وسيارات الإسعاف تنقل القتلى والجرحى إلى مستشفيات المنطقة المتواضعة، وعائدون يجرون خلفهم ذكرى يوم قتل آخر كانوا فيه ضحية سلاحين: سلاح العدو وسلاح الشقيق. استقلوا باصاتهم التي تحمل أسماء مدنهم وبلداتهم الفلسطينية وتحتها أسماء المخيمات التي تحولت إلى مواطن بديلة، واتجهوا نحو شقائهم مجددا.
ومشاركون آخرون توزعوا على حافلات مكتوب عليها “دمشق” سلكت طريق “إبل السقي” متجهة صوب البقاع.
لم يكن ما رأيته في “مسيرة العودة” فرحة بقدر ما كان حسرة. عيون شاخصة صامتة لكنها تتكلم بألف لغة وتحمل ألف ألف معنى. آباء وأمهات وأبناء وأحفاد انهمرت دموعهم لتتوج المشهد الوجداني وتحيط بتفاصيله، وشباب أهرقت دماؤهم وتقطعت أجسادهم تسديدا لحسابات أنظمة أفلست، دون حاجة لأي تفسير.
رحلة الألف ميل: كيف شاركت، وكدت أُقتَل، في “مسيرة العودة”! الغريب اني انا ايضا شاركت بهذه المسيرة استاذ علي حيدر… لكن الوقائع التي كتبتها انت لا تتناسب كلها مع ما كان يجري في مارون الراس…. ام انه وهكذا يصنع السبق الصحفي؟ الشباب والصبايا نزلنا على الشريط و”المنطقة المحرمة” قبل ان ينتهي المهرجان الخطابي بساعات وليس بعده…. وهذا التحرك وانت الادرى قد دعي له منذ الاول من أذار…قبل ان تبدأ مظاهرات سوريا… ولكننا تعودنا في بلادنا هذه ان ننسب كل شي للانظمة والمؤامرات وان لا ننسب اي خطوة او مبادرة لشعوبنا…. عد الى وقائع رحلتك الى مارون الراس وراجعها… علك تجد… قراءة المزيد ..
رحلة الألف ميل: كيف شاركت، وكدت أُقتَل، في “مسيرة العودة”! The Marches to the Borders was Legitimate, and should happen. If the Regimes thought, they have a benefit of that, does not Matter. The Idea is that, the Arab people, and in specific, Palestinians and Golan Heights Syrian, show that, their Rights in their Lands will never die. The Regime who, want to take advantage of this Event, certainly will not be there NEXT TIME, the people MARCH down the Borders. The Free people who faced the Guns of the Enemy with Bare Chests, can face the Regimes as well.… قراءة المزيد ..
رحلة الألف ميل: كيف شاركت، وكدت أُقتَل، في “مسيرة العودة”!
ان الشهداء الذين سقطوا هم ضحايا للانظمة العربية المستبدة،وكلنا نعلم ان ما حصل في فلسطين هو سببه الانظمة العربية، ولكن ما لا افهمه، لماذا لم يبقوا معتصمين سلميا على الحدود.
ماذا توقعتم ؟لا اعرف ماذا توقع المشاركون في هذه المسيرة. اسرائيل اولاً دولة لها حدود وسيادةسواءَ اعترفنا بذلك ام لم نعترف …و كل دولة ستواجه من يحاول تخطي حدودها بنفس الطريقة فكيف ان كانت هذه الدولة دولة معادية ؟؟ والقادمين قادمين من حدود معادية مرت عليها حروب و حروب و خطف و قتل؟! ماذا توقعتم وانتم ترون كيف تتعامل الأنظمة الشقيقة مع تظاهرات شعبها ؟ ماذا توقعتم من اسرائيل؟ ثانياً كيف قبلتم المشاركة بهذه المسيرة والحقيقة الواضحة حتى لأبن 12 سنة انها رسالة من النظام السوري لأسرائيل والعالم ؟؟ كان عليكم ان ترفضواالمشاركة وانتم اكثر من يعلم مآثر هذا النظام… قراءة المزيد ..
رحلة الألف ميل: كيف شاركت، وكدت أُقتَل، في “مسيرة العودة”! بصرف النظر عن الاستغلال الايراني – السوري المشترك، فإن المناسبة جاءت لتنفي مقولة التوطين التي يروج لها عون .هذا من جهة. من جهة ثانية فسواء طريق اوسلوا أم نهج حماس فالثابت في التاريخ انه وكما خرجنا من “الاندلس” بعد 700 سنة ، وكما خرج الاوربيون من شريط الساحل الشرقي للمتوسط بعد 250 سنة من استيطانه، فإن إسرائيل في نهاية الامر ستزول.لماذا ؟لانها تاريخيا ليست منطقة كيانات سياسية من خارجها. كيف يتم هذا؟ يتم بالذوبان. لماذا تذيب اسرائيل نفسها؟تذيب امال استمرار التفوق الديموغرفي و تطور النانو التكنولوجي، والاهم امام الاصرار على… قراءة المزيد ..