كنت بصحبة احد الأصدقاء نتناول وجبة العشاء في مجمع السيف (1) فتذكرت حوارا جرى بيني وبين احد رجال الدين قبل سنوات، عندما اشتكى لي في تلك الليلة من الملل وانه قصد مجموعة من المشايخ وأصحاب العلم فلم يجد أي منهم! فقلت له: ما رأيك أن نتناول العشاء في احد المطاعم المعروفة؟! ثم نجلس لاستنشاق الهواء الطلق على الكورنيش! فالليلة قمرية زاهية يا شيخنا الفاضل!! فتغير لونه وساء وجهه! وكأنه انتقل من حال إلى حال! إلا انه تمالك نفسه ثم قال: ليس من اللائق بي أن اجلس في تلك الأماكن التي يرتادها العامة من الناس! قلت له: ولكن هذه الأماكن تضم في أرجائها أطباء وأستاذة جامعيين وأصحاب مراكز مرموقة. فأجابني: ولكنهم غير مميزين. فقلت: ولماذا تميز نفسك عن الآخرين؟ لسنا في محفل ديني أو مناسبة دينية ، أنت لن تمارس واجباتك كرجل دين وطالب علم، أنت الآن مواطن كغيرك، ولك أن تستمع بهذه المرافق التي وجدت لخدمة كافة طبقات وفئات المجتمع ، وأنت في نهاية الأمر لست من أهل السلطة ، حتى تخشى من لقاء العامة . فقال لي: أنا رجل دين، امثل الدين بفقهائه وعلمائه ، ولست بأقل مما ذكرت ، وكما انه ليس من اللائق للفقهاء أن يرتادوا هذه المرافق فكذلك أنا بالتلازم!
في مجمع السيف وغيره من المجمعات التجارية الفخمة، لن تجد اثر للدينيين، سواء كانوا رجال دين أو طلبة علم أو مشايخ أو شباب متدينين أو رواديد حسينيين، فالشخصية الدينية تعاني عادة من الهوس، فكل شي حرام حتى يثبت انه حلال! وكل سلوك أو تصرف لا بد أن يتوافق مع الدين في خطوطه الأساسية والفرعية، أتذكر انه عندما ظهر الهاتف المتحرك احتار العديد من الشبان المتدينين في كيفية التعامل مع الموسيقى الصادرة منه! حتى اهتدوا إلى جعل هواتفهم هزازة ليستدلوا بها على وجود مكالمة هاتفية!
الشخصية الدينية شخصية تيوقراطية، أي إنها ترى أن كل منابع الحياة وأسسها المطلقة ودوائرها المتحركة تنبع وتصب في الدين ولا تحيد عنه قيد أنملة ، لذلك يرى الدينيون إن مثل هذه الأسواق والأماكن ليست سوى أماكن للفساد والدعارة والعلاقات اللاشرعية والاختلاط المرفوض بين الجنسين وكافة أنواع الرذيلة، ولو كان بيدهم لحظروها تماما ، ذلك إنهم يعتقدون يقيننا أن ما هم عليه من تعاليم وفتاوى وآراء الحق المطلق وان من يخالفهم ليس سوى الباطل المطلق، وان كافة حركاتهم وسكناتهم يجب أن تكون متوافقة مع النظم الدينية بمختلف مساراتها ومقاصدها.
بطبيعة الحال يتجاهل الدينيون كون التعددية والتنوع والاختلاف والخلاف نواميس حتمية طبيعية في الكون والحياة الإنسانية ، ليفرضوا وجهة نظر أحادية المنطلق والاتجاه والتطبيق، لذلك ترى التجمعات الدينية من أكثر الاجتماعات تمسكا بالتقاليد المتقادمة المقيدة لنشاط الأفراد ، يمكن ملاحظة ذلك عند الذهاب لأي تجمع ديني، حيث يمكن استشفاف هذه الظاهرة بسهولة، حيث يسود التحفظ والحذر وقلة الحركة لكثرة المحظورات في المحيط الديني، بينما عندما تنتقل لتجمع أنساني متنوع سوف تجد فورا في نفسك حالة من البهجة والانشراح والسعادة والإقبال على إفرازاته ومعطياته ، وذلك لكونه تعبيرا عن التضامن الإنساني والحالة الطبيعة التي يجب أن يعيشها الإنسان.
إن الدين مفهوم جامد وعتيق ، غير قابل للتطور إلا فيما نذر، لذلك شاع في الأوساط الدينية منذ القدم صراعات التجديد والحداثة ، وان إسقاطه على الحياة الإنسانية باختلافها وتنوعها اكبر خطا ارتكبته البشرية ، وما زالت تدفع ثمنه حتى الآن.
صديقنا رجال الدين ورادودنا الحسيني يستحيل أن تراهما في سوق أو شارع، فكل منهما لا ينظر لنفسه فقط على انه ملتزما بالدين الحق والمذهب الحق وان غيره الباطل الحق ، بل انه يرى نفسه منتميا للطبقة التي من المفترض أن تسود وتحكم، الطبقة التي يجب أن تذوب فيها كافة الطبقات والشرائح ، ليلغى ما عداها، وليصبح التدين بمفهومه التقليدي هو السمة السائدة والعلامة الوحيدة المميزة للمجتمع والمتدينين الشريحة الوحيدة التي تنقسم إلى عدة فئات وطبقات ، إن الدينيين في قرارة أنفسهم لا يؤمنون بالأخر ويتطلعون إلى تحييده وشلة فاعليته ليصبح وجوده غير ذي قيمة، ولعل النظريات العقائدية التي يعتنقونها تدل على ذلك، فالمهدوية ، كنظرية عقائدية فلسفية سواء في الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، تدعو إلى إقصاء الأديان المخالفة والقضاء على سنن التعدد وصبغ المجتمع الإنساني بلون ثقافي وديني واحد واعتبار كل ما عداه بطال محض لا يستقيم مع إرادة السماء.
الشخصية الدينية (كرجل الدين والرادود الحسيني) ترى نفسها من أهل السلطة والحكم، حيث انه من المفترض في الأصل أن تمسك بزمام الإدارة والرئاسة شريحة المتدينين، باعتبار الدين الوسيلة الوحيدة والطريق الأوحد لتطبيق تعاليم السماء وتحقيق العدالة، ولعل عدم ارتيادهم لتلك الأماكن تعبيرا عن ذلك ، فمثلما أهل السلطة السياسية بعيدين عن الحياة العامة ولا يتمكن معظم الناس من رؤيتهم عادة في المرافق الوطنية فان الدينيين كرموز للسلطة الدينية موازية للسلطة السياسية لا يمكن إن يشاهدوا أيضا في تلك الأماكن ، فهم في أعماقهم يرون أنفسهم ممثلين ورموز للسلطة الدينية ، وبالتالي فانه من غير اللائق بهم أن يكونوا بين العامة من الناس.
إن الشخصية الدينية – في كثير من الأحيان- تعاني من الاغتراب، حيث إنها بعيدة عن التفاعل الايجابي والتناغم الإنساني والتعارف الحضاري، لأنها ترى ذاتها في مقام أعلى من الآخرين، بيد إنها في غير مكانتها التي يجب أن تحتلها، لذلك تميل إلى الاعتزال لتقتصر حركتها على محيطها الديني الجاف.
وتتجاوز الشخصية الدينية جفاءها وكرهها للآخر المخالف من خارج الدائرة الدينية ليكون ذلك أيضا في داخل الحالة الدينية المتشنجة، فالإنسان المتدين يرى غيره من المتدينين المخالفين أصحاب مذهب مبتدع أو فكر دخيل أو رأي غير صائب، ويتعامل غالبا مع الآخر المختلف والمخالف بمنطق الحق المطلق والباطل المطلق أيضا، لذلك تشهد الساحة الدينية صراعات دائمة ما بين رموز وأرباب وأتباع المذاهب، حتى بلغ الأمر بان الاختلاف في الانتماء إلى رجال الدين الحاكمين داخل المذهب الواحد يمكن أن يفرق بين الزوجين! إذ انه ليس في التركيبة الثقافية للشخصية المتدينة مراعاة لحتمية التعدد ، والأداة التشريعية للدين في مختلف المذاهب والأديان لم تقدم أية حلول فعلية يمكن أن تساهم في بلورة بيئة إنسانية حاضنة لمختلف أنواع التفكير البشري ، ولعل مفهوم التعايش وتهيئة البيئة الجامعة للأضداد من أهم البحوث التي يتناظر المفكرين الدينيين حولها حتى الآن ، ولم ينتهوا إلى نظرية متفق على خطوطها الرئيسية يمكن أن تشكل أساس لتشكيلها.
قبل مدة سالت احد الأصدقاء الذين يتمتعون بعلاقات صداقة ببعض أشهر الرواديد الحسينيين عن أهم جوانب حياتهم وكيفية تعاملهم مع معطيات العصر المحيطة بهم من كل جانب ، فذكر لي سيرة أشهر رادود على مستوى مملكة البحرين فقال لي عنه بأنه لا يشاهد القنوات الفضائية إلا الدينية منها والإخبارية حفاظا على حيويته الدينية وتفاعله الروحي والوجداني، فالتلفزيون يعرض نساء وولدان ومحرمات لا حدود لها! وهو لا يرتاد الأسواق أو المتنزهات لاحتوائها على الكثير من المفاتن! وهو لا ينظر لوجه امرأة قط حتى لو كانت محجبة! وهو لا يتعامل مع البنوك الربوية ولا يرتاد المسرح او السينما ولا يتابع الأفلام! ولا يتعامل مع النساء أبدا! وحدثني عن احدهم فقال انه خرج من الجامعة لان من تدرسه امرأة ! وكانت لا ترتدي الحجاب! كما إن الفتيات الغير محجبات والمحجبات تحطن به من كل جانب فآثر ترك دراسته على التضحية بدينه وأخلاقه !
قليلا ما ينشد الرواديد في غير المجالس الحسينية ، فما عداها غير مقبول وان كان مباحا في أصله ، فالحب العذري مثلا وكلمات في حب الزوجة على سبيل التمثيل لم أعاينها في أي إصدار صوتي ديني، لعدم انسجامه مع الثقافة الدينية السائدة المتمسة بالتصلب والجفاف ، رغم انه يتناول وضعية شرعية بين زوجين ، والحب كمفهوم وإحساس فطري غير مطروح في الأعمال الفنية الدينية ، رغم كونه من الغرائز الفطرية في الكائن البشري وذلك لتعارضه مع القيم الاجتماعية والدينية والثقافية المتسمة بالقسوة والعصبية والانغلاق.
قبل عدة سنوات ذهبت مع احد الأصدقاء المتدينين إلى دبي! بطبيعة الحل لم تعجبه مدينة صاخبة كدبي رغم احتوائها على عشرات المساجد والمعابد والحسينيات والجوامع! قلت له ما رأيك أن نخرج للتسوق؟ فقال ساخرا: سأذهب لقضاء حاجتي فقط ولو كنت اعلم بأن دبي يجري فيها هذا الفسق لم أكن لأزورها قط ! قلت له: أي فسق؟ عما تتكلم ؟ فقال: ألا ترى هؤلاء النسوة الغير محجبات! أليس هذا منظرا يدل على الفساد الذي تعيشه هذه المدينة ؟ . ثم إني دعوته لقضاء وقت في مجمع تجاري مشهور! لعلنا نربح مسابقة من مسابقات تلفزيون دبي! فسألني: هل هناك نساء؟! قلت له عجبا! وهل يوجد في هذا العالم مكان لا يوجد فيه نساء؟! حتى عالم البرزخ سوف تجد فيه المرأة حاضرة فما بالك بالدنيا! فقال لي: إذن لن اذهب؟ هل تريد أن يحبط عملي وترد صلاتي؟!
استرجعت شريط ذكرياتي الطويل بعد أن أكملت وجبتي الشهية، وقلت لصاحبي مثلما انك لن تجد أبدا مسئولاً كبيراً يرتاد هذا “المول” بمفرده إلا لحاجة وقصد، ومن حوله الأزلام والحماة فان الرادود الحسيني ومن في حكمه لن يأتي هنا إلا بمثل ذلك ، فالسياسيين سلاطين والدينيين سلاطين ولا دخل لنا بين السلاطين!! تضاحكنا برهة ثم إني لمحت رجلا متأنقا حليق الذقن مهذب الشارب، فقلت لصحابي: أظن هذا مسئولا بارزا وشخصية مرموقة. قال لي وكيف لك أن تتيقن من ذلك؟ قلت له : إن هذه من سمات الليبرالية والتعددية، التي تنبذ الطبقية والتمايز، إلا في مستلزماتها ومتطلباتها، فلربما يكون صاحبنا هذا يحتل مركز منصبا رفيعا لكنه هاهنا كأي مواطن عادي، تماما كرؤساء الغرب عندما يتقاعدون، إلا إن الدينيين يتعاملون من الآخرين بروح العنصرية والتعالي ، فرجال الدين لا يخرج اغلبهم إلا بزيهم الديني حتى لو كان الشخص منهم ذاهبا لمركز تموينات غذائية! وعندما يراجع مؤسسة حكومية أو يسير في الطريق فانه يرتدي عمامته تميزا عن غيره ، بينما أنت رجل دين في مسجدك وحسينيتك وما في حكمهما ، أما في غير ذلك فأنت مواطن ، هل يمكن أن ترى الطبيب يسير بزيه في الطرق والشوارع والحدائق ؟ أو رجل الأمن ببزته العسكرية خارج أوقات العمل؟ إلا إن رجل الدين لو كان بيده لدفن بزيه الديني أيضا، لأنه في أعماقه وجوهره يرى نفسه متميزا وصاحب الرفعة والمنزلة والمكانة، وان الدين من المفترض أن يسود في الأصل، وان التدين هو الذي يجب أن يسيطر على كل شي، لذلك تعاني الشخصية الدينية عادة من التعالي والنظرة الدونية للآخرين بسبب استحكام هذه الثقافة المستبدة في الأوساط الدينية .
قبل سنوات سالت احد رجال الدين عن نظرية دينية جديدة اعتنقها بعض الشبان المتدينين وطلبت منه قراءتها لعله يقتنع بها هو الاخر فأجابني مغضبا: أنا طالب علم! قضيت حياتي بين المعممين والمشايخ فكيف تقارني بهؤلاء ؟!
قبل عدة أشهر جاءني احد أتباع أصحاب الفضيلة فقال لي : لقد كلمت الشيخ عن تناقضاتك؟ قلت له: أي تناقضات؟ قال: تشجيعك للعامة على قراءة الكتب الشعبية بهدف عائدها المالي رغم انك غير مقتنع بها بتاتا بل وتدعو إلى الحداثة والتجديد والتطور! او ليس يذل ذلك على تناقضا في شخصيتك؟ أجبته : ليس من حقي أن احرم الآخرين من قراءتها، ليس من حقي فرض آرائي على الناس، هم يريدون قراءة هذه النوعية من المطبوعات، وهذا حقهم فبأي حق افرض عليهم رؤيتي ووجهة نظري؟
الرادود الحسيني شانه كقادته! لا يستطيع أن ينظر إلى نفسه على انه مواطن كباقي المواطنين! وشخص كباقي الأشخاص، وانه يحتاج كغيره إلى الاستفادة من معطيات الواقع والتعامل مع نتائجه بفاعلية, انه يرى نفسه ذات أخرى، شخصية تختلف عن الآخرين، وان الأعلى منزلة والأرفع مكانة، وانه الأفضل في المجتمع وعليه أن يحافظ على هذه المكانة حتى النهاية.
خرجنا من مجمع السيف ونحن حامدين الله على قضاء هذا الوقت الممتع والجميل في رحاب تنوعنا الإنساني وتعددنا البشري، متمنين أن نعود مجدد لنستأنس برؤية إخوتنا البشر وهم في تالف وتناغم وتعايش رغم اختلافهم وتناقضهم الديني والعرقي والثقافي والقومي.
(1) مول تجاري ضخم في مملكة البحرين، يعتبر اكبر مجمع تجاري في المملكة ومركز ترفيهي واسع الصيت.
raedqassem@hotmail.com
* السعودية