نعيش في لبنان على وقع سعر صرف الدولار وعلى ملاحقة انحدار قيمة الليرة الشرائية. ونرتب روزنامتنا انطلاقا من الموعد الأسبوعي الذي يمنّ علينا فيها المصرف ليعطينا “فتات مصروفنا الأسبوعي المقنن”، من مالنا الخاص! إلى أن يحين الوقت الذي يقول لنا فيه ربما: انتهى. لم يعد لدينا دولارات نعطيكم إياها.
أصبح سعر العملة وتوفر النقود وتصاعد أسعار السلع شغلنا الشاغل. ما أعادني إلى فصل “رائحة المال” ليوفال هراري في كتابه “سابينس” لمراجعة علاقتنا بالعملة منذ نشوئها.
يستهل الفصل بالعودة إلى العام 1519، إلى هرنان كورتيس حين اجتاح مع رفاقه المكسيك، التي كانت حتى تلك اللحظة معزولة عن العالم الخارجي. لاحظ الآزتك الذين يعيشون هناك اهتمام الغزاة الغريب بمعدن ما لونه أصفر. ولاحظوا أنهم لا يتوقفون عن التحدث عنه.
“الآزتك” لم يكونوا يجهلون الذهب: كان معدنا جميلا وسهل الشغل، فصنعوا منه الحلي والتماثيل. وبالمناسبات استخدموا غباره للتبادل. ولكنهم كانوا يستعملون بذور البن أو كوبونات القماش للشراء. فبدا لهم هذا الهوس الإسباني بالذهب غير مفهوم. وتساءلوا: ما أهمية هذا المعدن الذي لا يؤكل ولا يشرب ولا يصلح للنسج وهو طري وغير صالح لصنع الأدوات أو الأسلحة؟
وعندما سألوا “كورتيس” من أين يأتي الإسبان بهذا الشغف بالذهب، أجابهم الغازي: “أصحابي وأنا نعاني من مرض بالقلب ولا يمكن أن نشفيه إلا بالذهب”.
قبل الحقبة الزراعية، لم يكن بحوزة الصيادين ـ الملتقطين مالا. كل فرقة كانت تصطاد وتلتقط وتفبرك جميع ما تحتاجه تقريبا، اللحوم والطبابة والصنادل وحتى السحر. يمكن للعضو فيها أن يكون متخصصا في مهام مختلفة، لكنهم يتشاركون ممتلكاتهم وخدماتهم عبر اقتصاد خدمات وواجبات. قطعة اللحم يعوض عنها بمساعدة طبية. كانت الفرقة مستقلة ونادرا ما تلجأ إلى التبادل مع الغرباء، حينها يتم التبادل بواسطة الأصداف أو الصباغ…
صعود المدن والممالك مع تقدم بنى النقل التحتية أوجد التخصص بإنتاج سلعة واحدة بكميات كبيرة. ومن ثم حصل التبادل على نطاق واسع. حينها لم يعد ممكنا تبادل الخدمات على شكل معروف وواجبات فحسب. فاخترعت العملة في أماكن ومناسبات عدة. لم يتطلب إيجاد صيغتها أي تقدم تقني: كانت ثورة ذهنية صافية. إيجاد حقيقة غير موجودة سوى في الخيال المتشارك بين الناس.
لا تختزل العملة بالنقود والأوراق المالية. تعد عملة كل ما يريد الناس استخدامه لكي يحل محل قيمة شيء آخر لتبادل أملاك وخدمات. العملة تسمح بمقارنة سريعة وسهلة لقيمة سلع مختلفة (تفاح، أحذية، أو طلاق وطبابة). وباستبدال سهل لشيء مع شيء آخر وبتخزين الثروة.
وجد في العالم أنواع عدة من العملات. النقد الأكثر ألفة، هو قطعة معدنية مطبوعة. قبل ذلك شاعت أنواع مثل الصدف والماشية والجلد والملح والحبوب واللؤلؤ والقماش وصولا إلى السجائر في المعتقلات النازية..
العملات المتبادلة فعليا في السوق محدودة أقل من 37 تريليون دولار في مقابل 1.2 كدريليون على شكل استثمارات (كل كدريليون يساوي ألف بيليون). معظم أموالنا مدرجة على حساباتنا وغير موجودة إلا في توصيلات الكومبيوتر. لا أحد يتعامل بالعملة النقدية، لا أحد يدفع حقيبة نقود ثمنا لمنزل سوى رجال المافيا.
العملة إذن هي وسيلة تبادل عالمية تسمح للناس بتحويل كل شيء إلى شيء آخر. يمكن للجندي أن يترك قوته العضلية كي يقوي دماغه باستخدام ماله للتسجيل في إحدى الكليات. الأرض تتحول إلى ولاء عندما يبيع البارون أرضه ليصرف على حاشيته. الصحة تتحول إلى عدالة عندما يستخدم الطبيب أتعابه ليغطي أتعاب المحامي. وحتى بائعات الهوى يمكن أن تحولن الجنس إلى غفران، كما كانت تفعل غانيات القرن الخامس عشر اللواتي كن تدفعن مالهن المكتسب من عملهن لشراء رحمة الكنيسة الكاثوليكية.
الأصداف والدولار ليس لها من قيمة إلا في خيالنا المشترك. لا تتعلق قيمتها ببنية كيميائية أو باللون أو بالشكل. بمعنى آخر العملة ليست واقعا ماديا، لكنها بناء سيكولوجي. تعمل على تحويل المادة إلى فكر. لكن لماذا تنجح؟
لماذا تقبل أن تقدم همبرغر أو أن تبيع بوليصة تأمين أو أن تقوم بحراسة 3 أطفال عفاريت مقابل بضعة أوراق ملونة؟
يقبل الناس القيام بذلك عندما يثقون بثمرة خيالهم الجماعي. الثقة هي المادة الأولية التي تطبع فيها جميع أصناف العملات. عندما يبيع المزارع الغني ممتلكاته مقابل كيس من الأصداف كان على ثقة أن بإمكانه مبادلته ببيوت أو حقول أو أرز في مقاطعة أخرى.
توحد العالم كله الآن في منطقة نقدية عابرة للأوطان وللثقافات بدائرة اقتصادية وسياسية واحدة. يستمر الناس باستخدام لغات متعددة غير مفهومة ويخضعون لحكام مختلفون ويعبدون آلهة متمايزة لكنهم يؤمنون جميعهم بالذهب والفضة والإسترليني واليورو والدولار. دون هذه الثقة المتشاركة لكانت الشبكات التجارية العالمية مستحيلة.
العملة هي إذن منظومة من الثقة المتبادلة، وليست أي منها: العملة هي نظام الثقة المتبادل الاكثر عالمية والأكثر الفاعلية من كل ما أمكن تخيله.
في بداية ظهور النقود لم يكن للناس هذا الإيمان، لذلك كان من الضروري أن يعرّف “نقدا” أشياء تملك قيمة حقيقية داخلها تعادل ما تمثله. أول عملة ظهرت في سومر حوالي 3000 سنة قبل الميلاد، وفي نفس المكان الذي ظهرت فيه الكتابة. تطورت الكتابة لتلبية حاجة كثافة النشاطات الإدارية. النقود، بدورها، تحولت من حبوب الشعير، الذي لم يكن ممكنا تخزينه بكميات كبيرة ولوقت طويل ولا نقله، لتلبية تكثيف النشاطات الاقتصادية.
الفتح الحقيقي في تاريخ العملة حصل عندما تعلم الناس أن يثقوا بعملة تخلو من القيمة الكامنة فيها. وأول ظهور لهذا النوع على يد حمورابي عندما طبع سيكل من الفضة يزن 8,33 غراما. وعلى عكس الشعير لم يكن هذا النقد يؤكل أو يشرب أو يلبس. لكن قيمته كانت ثقافية بالإضافة إلى ما تضفيه عليه السلطة السياسية التي تضمن قيمته.
“أنا، الملك الكبير فلان، أعطيكم كلمتي أن هذه الاسطوانة المعدنية تحتوي تماما 5 غرامات من الذهب”. وإذا حاول أحدهم تزوير هذه القطعة، فهذا يعني أنه يزور توقيعه مما يعد اعتداء على السلطة. من هنا كان تزوير العملة يعتبر اعتداء على سيادة الملك بالذات، وكان يلقى أشد العقوبات تصل إلى الإعدام أحيانا.
ارتكزت سلطة الملك أيضا على النقود. إذ تخيلوا كيف كان سينقل الضرائب على قمح وشعير سهل البقاع إلى خزنته في روما ومن ثم إلى بريطاني ليدفع روتب جنوده؟
السلطة والثقة هما عماد العملة والعكس صحيح.
ترتكز العملة على مبدأين عالميين:
– قابلية التحول العالمية: للعملة دورها الخيميائي alchimiste، يمكن تحويل الأرض إلى ولاء، والعدالة إلى صحة، والعنف إلى معرفة.
– الثقة العالمية: بواسطة العملة، يمكن لشخصين مجهولين أن يتعاونا دائما في أي مشروع.
هذه الثقة هي ثمرة شبكة معقدة طويلة الأمد من العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لنفحص ورقة دولار ماذا نجد: متحدون من جهة و”نثق بالله” من جهة أخرى. نقبل بالدولار لأننا نؤمن بالله ونثق بالدولة الأميركي. إن الدور الحاسم للثقة يفسر أن نظمنا المالية مرتبطة بشدة بأنظمتنا السياسية والاجتماعية والأيديولوجية والتقلبات السياسية غالبا ما تكون في أصل الأزمات المالية. وأن سوق البورصة يمكن أن يرتفع أو ينخفض تبعا لما يشعر به التجار في هذا الصباح أو ذاك.
كل شيء في لبنان مضطرب، فقدت السلطة ثقة الناس وضاعت هيبتها وتفككت الدولة وفقد سيادتها.
المشكلة الآن باستعادة الدولة قبل استعادة الثقة بالمصرف وبالعملة.
اقرأ للكاتبة أيضا: كيف حكمت إيران “عواصمها” الأربع