قبل الحرب، كانت قيادات غزة لا تُحظى بشعبية كبيرة- لكن الحملة القمعية الإسرائيلية قد تغير هذا
هذه النسخة المترجمة للمقال الذي صدر في الأصل باللغة الانجليزية في مجلة “فورين أفيرز.”
إبان انطلاق هجمات حماس المروّعة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، والتي خلّفت ورائها أكثر من 1400 قتيل إسرائيلي في يوم واحد، جاء الرد الإسرائيلي ثقيل الوطأة على سكان غزة. طبقاً لوزير الصحة الفلسطيني، فحتى الآن قُتل أكثر من ستة آلاف فلسطيني وأصيب أكثر من 17 ألفاً آخرين في القصف الإسرائيلي الجوي. ومن الممكن أن تتصاعد الخسائر البشرية سريعاً، بحد أعلى بكثير إذا مضت إسرائيل في توغلها البرّي المتوقع. لقد طالب كل من الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وعضو الكنيست آرييل كالنر ومسؤولون بارزون آخرون بحملة عسكرية تغطّي كافة أرجاء غزة. ولقد دمّرت الصواريخ الإسرائيلية بالفعل نحو خمسة بالمئة من جميع مباني غزة، ومنها مناطق التمس فيها الفلسطينيون اللجوء بعد تحذيرات إسرائيلية وُجهت إليهم لإخلاء بيوتهم. وأعلن بعض كبار المسؤولين الإسرائيليين – تذرّعاً بنجاح حماس في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية في 2006 – أن كل سكان غزة ينتمون إلى البنية التحتية الإرهابية لحماس، وأنهم متواطئون في البشاعات التي ارتكبتها الحركة، ومن ثم عدّوهم أهدافاً مشروعة للانتقام الإسرائيلي.
لكن سرعان ما نرى عدم صدقية الحجّة القائلة بأنه يمكن تحميل عموم سكان غزة المسؤولية عن تصرفات حماس إذا نظرنا إلى الحقائق. لقد أجرى الباروميتر العربي – وهو شبكة بحثية نشارك فيها مشاركة أساسية في الأبحاث – استطلاع رأي في غزة والضفة الغربية قبل أيام من اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس.
وتكشف النتائج التي تُنشر هنا للمرة الأولى عن أن أغلب سكان غزة – على النقيض من فكرة دعم حماس – أعربوا عن مشاعر الإحباط من عدم فعالية الجماعة المسلحة في إدارة شؤون القطاع، مع تعرض الناس لمصاعب اقتصادية كبيرة. أغلب سكان غزة لا يعتبرون أنفسهم متفقين مع أيديولوجية حماس أيضاً. على النقيض من حماس، التي تهدف إلى تدمير الدولة الإسرائيلية، فإن أغلب المبحوثين أعربوا عن تفضيل حل الدولتين، مع وجود دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل.
إن استمرار العنف لن يجلب المستقبل الذي يأمل في تحققه أغلب سكان غزة. بدلاً من انتهاء التعاطف مع الإرهاب، فإن حملات إسرائيل السابقة التي جعلت الحياة أصعب على سكان غزة العاديين، قد زادت من الدعم لحماس. إذا تبين أن للحملة العسكرية الجارية في غزة نفس التأثير على الرأي العام الفلسطيني، فسوف تمثل هذه ردة إضافية على طريق السلام المستدام.
إحباطات متزايدة
إن استطلاع الباروميتر العربي في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي نُفذ بالشراكة مع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمَسحية بدعم من الصندوق الوطني للديمقراطية، يمثل إطلالة على آراء المواطنين العاديين عشية اندلاع النزاع. الباروميتر العربي الذي يمثل مشروع استطلاع الرأي الأطول أمداً والأكثر شمولاً في المنطقة، أجرى ثماني دورات من استطلاع آراء المواطنين عبر 16 دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بدءاً من 2006. ولقد تم تصميم جميع الاستطلاعات بحيث تكون ممثلة لمستوى الدولة، وأغلبها ( بما يشمل الاستطلاع الأحدث في الضفة الغربية وغزة) تُنفذ عبر مقابلات وجهاً لوجه مع المبحوثين في أماكن إقامتهم، ويتم إعلان البيانات التي يجري جمعها على الملأ. وفي كل دولة، تهدف أسئلة الاستطلاع إلى قياس توجهات وقيم الناس إزاء جملة من القضايا الاقتصادية والسياسية والدولية.
أجريت أحدث المقابلات بين 28 سبتمبر/أيلول و8 أكتوبر/تشرين الأول، حيث شارك فيها 790 شخصًا في الضفة الغربية و399 شخصًا في غزة. (تم الانتهاء من المقابلات في غزة في 6 تشرين الأول/أكتوبر). وتكشف نتائج الاستطلاع أن سكان غزة لم تكن لديهم ثقة كبيرة في حكومتهم التي تقودها حماس. وعندما طُلب منهم تحديد مدى الثقة التي لديهم في سلطات حماس، قال عدد كبير من المبحوثين (44%) إنهم لا يثقون في حماس على الإطلاق؛ وكانت عبارة “ليس هناك الكثير من الثقة” ثاني أكثر الإجابات شيوعًا بنسبة 23%. وأعرب 29% فقط من سكان غزة عن ثقتهم “بقدر كبير” أو “كثيرا جدًا” في حكومتهم. علاوة على ذلك، قال 72% إن هناك قدرًا كبيرًا (34%) أو متوسطًا (38%) من الفساد في المؤسسات الحكومية، واعتقدت أقلية أن الحكومة تتخذ خطوات حقيقية لمعالجة المشكلة.
وعندما سئلوا كيف سيصوتون إذا أجريت انتخابات رئاسية في غزة وشارك في الاقتراع إسماعيل هنية، زعيم حماس، ومحمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، ومروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لفتح، المسجون، وهو الحزب الذي يقوده عباس، قال 24% فقط من المشاركين في الاستطلاع إنهم سيصوتون لهنية. وحصل البرغوثي على الحصة الأكبر من التأييد بنسبة 32% وعباس على 12%. وقال ثلاثون بالمئة من المشاركين إنهم لن يشاركوا.
وكانت آراء سكان غزة بشأن السلطة الفلسطينية، التي تحكم الضفة الغربية، ليست أفضل بكثير. هنالك أغلبية بسيطة (52%) تعتقد أن السلطة الفلسطينية تشكل عبئاً على الشعب الفلسطيني، و67% يريدون استقالة عباس. ويشعر سكان غزة بخيبة أمل ليس فقط من حماس، بل من القيادة الفلسطينية برمتها.
كما ظهرت المشاكل الاقتصادية العنيدة التي تعاني منها غزة بوضوح في نتائج الاستطلاع. وفقًا للبنك الدولي، ارتفع معدل الفقر في غزة من 39% في عام 2011 إلى 59% في عام 2021. ويكافح العديد من سكان غزة لتأمين الضروريات الأساسية بسبب الندرة والتكلفة العالية. ومن بين المشاركين في الاستطلاع، قال 78% إن توفر الغذاء يمثل مشكلة متوسطة أو حادة في غزة، في حين قال 5% فقط إنها لا تمثل مشكلة على الإطلاق. وأفادت نسبة مماثلة (75 في المائة) بوجود صعوبة متوسطة إلى شديدة في توفير الغذاء حتى عندما يكون متاحاً؛ وقال ستة في المئة فقط إن القدرة على تحمل تكاليف الغذاء لا تمثل مشكلة.
لقد شعرت الأسر في غزة بتأثير نقص الغذاء بشدة. أفاد 75% من المشاركين في الاستطلاع أن الطعام قد نفد منهم ويفتقرون إلى المال لشراء المزيد في وقت ما خلال الثلاثين يومًا السابقة على إجراء الاستطلاع. وبالمقارنة، في استطلاع الباروميتر العربي لعام 2021، قال 51% فقط الشيء نفسه. وهذا التغيير على مدى عامين فقط مثير للقلق. واضطر سكان غزة إلى تعديل عاداتهم لمحاولة تغطية نفقاتهم، حيث قال 75 بالمئة إنهم بدأوا في شراء أغذية أقل تفضيلاً أو أقل تكلفة، وقال 69 في المائة إنهم قلصوا حجم وجباتهم.
وعزا معظم سكان غزة نقص الغذاء إلى مشاكل داخلية وليس إلى العقوبات الخارجية. وتفرض إسرائيل ومصر حصارًا على غزة منذ عام 2005، مما يحد من تدفق الأشخاص والبضائع من وإلى القطاع. وقد تباينت قوة الحصار، لكنه أصبح أكثر صرامة بشكل ملحوظ بعد سيطرة حماس على غزة في عام 2007. ومع ذلك، فإن عدداً كبيراً من المشاركين في الاستطلاع (31 بالمئة) حددوا سوء الإدارة الحكومية باعتباره السبب الرئيسي لانعدام الأمن الغذائي في غزة وألقى 26 بالمئة اللوم على التضخم. . وألقى 16% فقط باللوم على العقوبات الاقتصادية المفروضة من الخارج. باختصار، كان سكان غزة أكثر ميلاً إلى إلقاء اللوم في مأزقهم المادي على قيادة حماس بدلاً من الحصار الاقتصادي الذي تفرضه إسرائيل. ولكن منذ وقت إجراء الاستطلاع، ربما تغير هذا التصور. لقد قطعت إسرائيل إمدادات المياه والغذاء والوقود والكهرباء عن غزة في أعقاب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، مما أدى إلى إغراق القطاع في أزمة إنسانية عميقة. وقد دخلت بعض المساعدات الدولية إلى غزة منذ ذلك الحين، ولكن من المرجح أن المعاناة التي مر بها الفلسطينيون أدت إلى تصلب مواقفهم بطرق يمكن أن تقوض السلام والاستقرار المستدامين.
لن يبقى الوضع السياسي كما كان
بشكل عام، تشير إجابات الاستطلاع إلى أن سكان غزة يرغبون في التغيير السياسي. وفي انخفاض بمقدار ثماني نقاط مئوية منذ عام 2021، قال 26 بالمئة فقط إن الحكومة كانت مستجيبة للغاية (ثلاثة بالمئة) أو إلى حد كبير (23 بالمئة) لاحتياجات الشعب. وعندما سئلوا عن الطريقة الأكثر فعالية للناس العاديين للتأثير على الحكومة، أجابت الأغلبية: “لا فائدة من أي إجراء”. وكانت الإجابة التالية الأكثر شيوعًا هي الاستعانة بالمعارف الشخصية للوصول إلى مسؤول حكومي. ولم يجد معظم سكان غزة سبيلاً للتعبير علناً عن شكاواهم من الحكومة التي تقودها حماس. وقال 40% فقط إن حرية التعبير مضمونة إلى حد كبير أو متوسط، ويعتقد 68% أن الحق في المشاركة في الاحتجاج السلمي غير مضمون أو مضمون فقط إلى حد قليل في ظل حكم حماس.
ولقد أعرب نحو النصف من سكان غزة عن دعمهم للديمقراطية؛ إذ أكد 48% أن “الديمقراطية مفضلة دائمًا على أي نوع آخر من الحكم”. أشارت نسبة أقل من المشاركين (23%) إلى عدم الإيمان بأي نوع معين من الأنظمة، مؤيدة لمقولة “بالنسبة للأشخاص مثلي، لا يهم نوع الحكومة التي لدينا”. ووافق 26% فقط على أنه “في بعض الظروف، قد يكون من الأفضل تشكيل حكومة غير ديمقراطية”. (هذه النتيجة الأخيرة مشابهة لنتائج الاستطلاع في الولايات المتحدة، حيث في استطلاع تم في عام 2022، وافق واحد من كل خمسة بالغين يبلغون من العمر 41 عامًا أو أقل على عبارة “الديكتاتورية يمكن أن تكون جيدة في ظروف معينة”.)
ونظراً للرأي غير المُحبِذ الذي يكنّه معظم سكان غزة لحكومتهم، فليس من المستغرب أن يمتد رفضهم إلى حماس كحزب سياسي. اختار 27% فقط من المبحوثين حماس كحزبهم المفضل، وهي نسبة أقل بقليل من نسبة الذين فضلوا فتح (30%)، الحزب الذي يقوده عباس والذي يحكم الضفة الغربية. وتراجعت أيضًا شعبية حماس في غزة، حيث انخفضت من 34% في استطلاع عام 2021. وهناك تباين ديموغرافي ملحوظ في الاستجابات الأخيرة أيضًا. لقد أعرب 33% من البالغين تحت سن الثلاثين عن دعمهم لحماس، مقارنة بـ 23% ممن هم في سن الثلاثين فأكبر. وكان سكان غزة الأكثر فقراً أقل ميلاً من نظرائهم الأكثر ثراءً إلى دعم حماس. ومن بين أولئك الذين لا يستطيعون تغطية نفقاتهم الأساسية، فضل 25% فقط الحزب الحاكم. ومن بين القادرين على ذلك، ارتفعت النسبة إلى 33 بالمئة. وحقيقة أن الأشخاص الأكثر تضرراً من الظروف الاقتصادية الصعبة وأولئك الذين يتذكرون الحياة قبل حكم حماس كانوا أكثر ميلاً إلى رفض الحزب، تؤكد حدود دعم سكان غزة لحركة حماس.
رؤى للمستقبل
أسلوب القيادة ليس هو الشيء الوحيد الذي يجده سكان غزة غير مقبول في حماس.
وبشكل عام ومؤكد، فإن سكان غزة لا يشاركون حماس هدفها المتمثل في القضاء على دولة إسرائيل؛ فعندما عُرضت عليهم ثلاثة حلول محتملة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني (بالإضافة إلى خيار اختيار “آخر”)، فضل غالبية المشاركين في الاستطلاع (54%) حل الدولتين المنصوص عليه في اتفاقيات أوسلو عام 1993. في هذا السيناريو، ستجلس دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل، وستكون حدودها مبنية على الحدود الفعلية التي كانت موجودة قبل حرب الأيام الستة عام 1967. ولم يتغير مستوى الدعم لهذا القرار كثيرًا منذ عام 2021. وفي هذا الاستطلاع، اختار 58% من المشاركين في غزة حل الدولتين.
ومن المثير للدهشة إلى حد ما مدى ضآلة الاهتمام الذي اكتسبته الترتيبات السياسية البديلة بين سكان غزة قبل اندلاع الأعمال العدائية الأخيرة، نظراً إلى مدى استحالة حل الدولتين الآن. لقد قدم الاستطلاع خيارين آخرين: اتحاد كونفدرالي إسرائيلي فلسطيني – تكون فيه الدولتان مستقلتين ولكنهما مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا وتسمحان بحرية حركة المواطنين – ودولة واحدة لكل من اليهود والعرب. وحصل هذا الخيار وذاك على دعم بنسبة 10 بالمئة و9 بالمئة على التوالي.
بشكل عام، فضّل 73% من سكان غزة التوصل إلى تسوية سلمية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. عشية هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، فضل 20% فقط من سكان غزة الحل العسكري الذي يمكن أن يؤدي إلى تدمير دولة إسرائيل. وكانت أغلبية واضحة (77%) ممن قدموا هذا الرد من مؤيدي حماس أيضًا، أي ما يعادل حوالي 15% من السكان البالغين. ومن بين بقية المشاركين الذين فضلوا العمل المسلح، أفاد 13% بعدم وجود أي انتماء سياسي لديهم.
وفي الوقت نفسه، كانت آراء سكان غزة بشأن تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل سلبية باستمرار؛ إذ أعرب 10% فقط عن موافقتهم على هذه المبادرة في الاستطلاع الأخير – وهي نفس نسبة عام 2021. ومن المرجح أن العديد من سكان غزة يدركون أن التضامن العربي هو المفتاح لتأمين ترتيب سياسي يشمل دولة فلسطينية مستقلة. وإذا تمكنت الدول العربية من تسوية خلافاتها مع إسرائيل دون جعل حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني شرطا مسبقًا للتطبيع؛ فإن أي آمال باقية في حل الدولتين سوف تتبخر.
وقبل هجوم حماس على إسرائيل، أشارت وجهات نظر سكان غزة في مجال السياسة الخارجية إلى التوافق مع بعض أولويات السياسة الأمريكية وفي نفس الوقت عدم الثقة في الولايات المتحدة. لقد عارض 71% الغزو الروسي لأوكرانيا، وأعرب 37% عن رغبتهم في أن تقوم غزة بتطوير علاقات اقتصادية أقوى مع الولايات المتحدة – وهي نسبة أعلى من النسبة التي أرادت تعميق العلاقات الاقتصادية مع إيران أو روسيا (32% في كلتا الحالتين). ومع ذلك، يعتقد 15% فقط من سكان غزة أن سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن كانت جيدة أو جيدة جدًا للعالم العربي. وفي الأسابيع القليلة الماضية، تراجعت بالتأكيد شعبية كل من بايدن والولايات المتحدة، بالنظر إلى التصور الواسع في غزة والضفة الغربية والدول العربية في المنطقة بأن واشنطن هبت لمساعدة إسرائيل على حساب غزة.
النتيجة الأخيرة التي نذكرها، والتي تدعمها الآن تقارير إعلامية لا تعد ولا تحصى عن معاناة سكان غزة حيث يجبرهم تصاعد العنف على الفرار من منازلهم، هي قوة ارتباط الناس بالأرض التي يعيشون عليها. لقد قالت الغالبية العظمى من سكان غزة الذين شملهم الاستطلاع – 69 بالمئة – إنهم لم يفكروا قط في مغادرة وطنهم. وهذه نسبة أعلى من مثيلتها في العراق والأردن ولبنان والمغرب والسودان وتونس، حيث وُجه نفس السؤال إلى المواطنين هناك. (بالنسبة لجميع هذه البلدان، تأتي أحدث البيانات المتاحة من دورة استطلاعات الباروميتر العربي لعام 2021-2022). ويواجه سكان غزة سلسلة من التحديات، بدءًا من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة إلى الحكومة غير المستجيبة والطريق المستحيل على ما يبدو إلى إقامة دولة مستقلة، لكنهم ثابتون على رغبتهم في البقاء في غزة.
كسر الدائرة
إن نتائج استطلاع الباروميتر العربي تُظهر صورة مؤسفة مرصودة في غزة في الأيام السابقة على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول. فحكومة حماس التي لم تتمكن من تلبية احتياجات المواطنين الأساسية أو معالجة شواغلهم الحيوية، فقدت ثقة الجمهور. كانت قلة من سكان غزة تدعم هدف حماس المتعلق بتدمير الدولة الإسرائيلية، ما يعني وجود شقاق بين قادة غزة وسكانها حول مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فالغالبية العظمى من سكان غزة تفضل بقوة الحل السلمي، وهم يرغبون في قادة يمكنهم تقديم هذا الحل ويمكنهم تحسين جودة الحياة في المجمل لسكان القطاع. لكن إلى الآن، حالت سياسات حكومتهم وسياسة الحكومة الإسرائيلية دون إحراز تقدم على هذه الجبهة أو تلك.
إن الظروف المعيشية للفلسطينيين في الضفة الغربية أفضل مما هي عليه في غزة، لكن الوضع الاقتصادي والسياسي هناك لا يزال قاتمًا. لقد أفاد ما يقرب من نصف المشاركين في الاستطلاع في الضفة الغربية (47%) أنهم شعروا بالجوع في الشهر الماضي، ويثق 19% فقط بحكومة الضفة الغربية بقيادة فتح، وهي نسبة أقل حتى من نسبة سكان غزة الذين يثقون بحكومة حماس. ومع ذلك، فإن فشل الحكم لم يدفع الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى دعم حماس. وعندما سئلوا عن الحزب الذي يشعرون بأنه الأقرب إليهم، أفاد 17% فقط من المبحوثين في الضفة الغربية بأنهم يدعمون حماس. وكانت نسبة التأييد لفتح مماثلة لتلك الموجودة في غزة (30%). ومع ذلك، فيما يتعلق بالقادة الأفراد، عكست ردود سكان الضفة الغربية استياءً واسع النطاق – واستياءً خاصًا من عباس. وفي انتخابات رئاسية افتراضية، كان البرغوثي خيارهم الأول، كما كان الحال في غزة، بنسبة 35%، بينما اختار 11% فقط هنية، زعيم حماس، و6% اختاروا عباس، الزعيم الحالي في الضفة الغربية. وقال ما يقرب من نصف المشاركين (47%) إنهم لن يشاركوا.
وفيما يتعلق بالمواقف تجاه عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، كان تأييد حل الدولتين في الضفة الغربية أقل قليلاً قياساً إلى غزة (49% مقابل 54%)، وكانت معارضة التطبيع العربي الإسرائيلي أعلى قليلاً. وافق خمسة بالمئة فقط من المبحوثين في الضفة الغربية على التقارب الإقليمي بين الدول العربية وإسرائيل، مقارنة بـ 10 بالمئة من سكان غزة. وعلى الرغم من أن الاختلافات كانت صغيرة، إلا أن هذه المواقف المتشددة نسبيًا في الضفة الغربية كانت على الأرجح نتيجة للتوترات بين الفلسطينيين والمستوطنين والجنود الإسرائيليين في الأشهر الأخيرة. إن النتيجة التي توصل إليها الاستطلاع بأن ما يقرب من نصف الفلسطينيين ما زالوا يؤيدون حل الدولتين قد توفر بعض الأمل في السلام على المدى الطويل، ولكن النتائج لا توحي بالكثير من الثقة في الاستقرار على المدى القصير. إن انعدام شعبية القيادة الفلسطينية، في الضفة الغربية بشكل خاص، يدعو إلى التشكيك في جدوى إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على غزة، وهو ما اقترحته بعض وسائل الإعلام كخطوة تالية في عملية إعادة الإعمار بعد اكتمال الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد حماس.
ومع تصاعد العمليات الإسرائيلية في غزة، فإن الحرب سوف تلحق خسائر لا يمكن تصورها بين المدنيين. ولكن حتى لو قامت إسرائيل “بتسوية غزة بالأرض“، كما دعا بعض الساسة في الولايات المتحدة الذين يفضلون باستمرار الحل العسكري، فإنها ستفشل في مهمتها المتمثلة في القضاء على حماس. وقد أظهر بحثنا أن حملات القمع الإسرائيلية في غزة تؤدي في أغلب الأحيان إلى زيادة الدعم والتعاطف مع حماس بين سكان غزة العاديين. فازت حماس بنسبة 44.5% من الأصوات الفلسطينية في الانتخابات البرلمانية عام 2006، لكن التأييد للجماعة تراجع بعد الصراع العسكري بين حماس وفتح في يونيو/حزيران 2007 والذي انتهى باستيلاء حماس على غزة. وفي استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في ديسمبر/كانون الأول 2007، أعرب 24% فقط من سكان غزة عن مواقف إيجابية تجاه حماس. على مدى السنوات القليلة التالية، ومع تشديد إسرائيل حصارها على غزة وشعور سكان غزة العاديون بآثار ذلك، زادت نسبة تأييد حماس، حيث وصلت إلى حوالي 40% في عام 2010. وخففت إسرائيل الحصار جزئيًا في العام نفسه، واستقر دعم حماس في غزة قبل أن يتراجع إلى 35 بالمائة في عام 2014. وفي الفترات التي تقوم فيها إسرائيل بقمع غزة، يبدو أن أيديولوجية حماس المتشددة تحظى بجاذبية أكبر لدى سكان غزة. وبالتالي، فبدلاً من دفع الإسرائيليين والفلسطينيين نحو التوصل إلى حل سلمي، فإن السياسات الإسرائيلية التي تلحق الألم بغزة باسم استئصال حماس من المرجح أن تؤدي إلى إدامة دائرة العنف.
حتى تكسر الدائرة، على الحكومة الإسرائيلية ممارسة ضبط النفس. فحكومة حماس قد لا تكون مهتمة بالسلام، لكن من الخطأ عملًا لقادة إسرائيل السياسيين اتهام جميع سكان غزة بأنهم وحماس سواء. في حقيقة الأمر، فإن أغلب سكان غزة منفتحون على حل سلمي دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لكن آراء الناس في غزة يُساء عادة تفسيرها في الخطاب العام، حتى رغم أن استطلاعات الرأي العام مثل استطلاع الباروميتر العربي تُظهر كم أن هذه السرديات مختلفة عن الواقع على الأرض.
على المدى القصير، يتعين على القيادات الإسرائيلية والأمريكية على وجه الخصوص أن تؤمن سلامة سكان غزة المدنيين، الذين تعرض 1.4 مليون نسمة منهم بالفعل للنزوح. على الولايات المتحدة الأمريكية أن تبدأ شراكة مع الأمم المتحدة لتهيئة ممرات إنسانية ومناطق محمية، ومن الضروري أن تساهم واشنطن في طلب الأمم المتحدة بمساعدات بمبلغ 300 مليون دولار لحماية المدنيين الفلسطينيين، وهي خطوة قال عشرات الأعضاء بمجلس الشيوخ الأمريكي أنهم سيدعموها. وأخيرًا، يتعين على إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية فهم أن الشعب الفلسطيني هو بالضرورة شريك في البحث عن تسوية سياسية دائمة، وهو ليس عائق في طريق تحقيق ذلك الهدف المهم. إذا سعت الدولتان إلى الحلول العسكرية فقط، فهي بهذا تدفع سكان غزة إلى أحضان حماس، الأمر الذي سيؤدي إلى عنف متجدد لسنوات قادمة.
أماني جمال شاركت في تأسيس الباروميتر العربي وهي محققة رئيسية مُشاركة في المشروع، وتتولى منصب عميدة كلية الشؤون العامة والدولية في جامعة برنستون، وهي أستاذة مقعد س. سانفورد للسياسة والشؤون الدولية في جامعة برنستون.
مايكل روبنز هو مدير الباروميتر العربي ومحقق رئيسي مُشارك في المشروع.