مع انقلاب الثامن من آذار 1963، دخلت سوريا، ومن ثم المنطقة، نفقا مظلماً ساد فيه ضجيج وصخب وشعارات لا تشبه تاريخ البلد ولا مشاعر الناس. كانت تجربة الوحدة مع مصر وطغيانية سلطة عبد الناصر قد حفرت النفق ليأتي من يحوله الى جحيم مدني بقصور عقلي وصخب حيواني: بين “الحرس القومي” و”الكتائب العمالية” والاستفراد بالسلطة والنفوذ في ظل قانون طوارىء وأحكام عرفية بغير قانون وبغير اعراف، استبدل البعث الجيشَ بمرتزقة من القاع وتم تفتيت الجيش وتدمير مؤسسات الدولة الهجينة.
لقد عشت ورأيت كيف أن: محكمة يقوم بتشكيلها في شؤون العامة بغير قضاة منتدبون من العمال والفلاحين ممن ليسوا عمالا وليسوا فلاحين بل قوادون في احشاء ضواحي “الحسكة”- ومثلها حدث في كل المدن السورية- تنظر في امور الزواج والطلاق وخناق الجارات والتنازع على الارضي والاملاك العامة والخاصة.
بكلمات لقد سرق البعث الدولة وحوّلها الى مزبلة يتسيدها رعاع وجهلة باسم العروبة والاشتراكية والتقدمية.
خمسون سنة غابت فيها ابسط شروط الحياة المدنية التي كانت سائدة في الارياف. عانى الناس والمجتمع من فوضى رعاع لا يعرفونهم الا من البدلة الصينية الخاكية التي أفرزها نظام حزب يتآمر افراده في مكان بعيد على بعضهم وتفوح منهم روائح الكذب والنفاق والاستئثار.
تغوّلت معهم ليس الاجهزة الامنية وحسب، بل كل من يستفرد بسلطة بسيطة يستأجرها لبعض الوقت! ساد الفساد وتعمم بحكم الفوضى والسطو. تريفت المدن البعيدة وغرقت الارياف في الظلام. وانتشر الجوع والفقر أضحت معها المدن البعيدة هبابا، وضاع الناس للتعرّف على حكام يتغيرون كل شهرين خلال الاذاعة، وصار الشرطي رئيس مخفر ورئيس المخفر قائدا كمدير الناحية ومدير الناحية طاغوتا، والطاغوت محافظا. وكلما غابت الدولة العصرية، حضر قطاع الطرق وحكام الولايات وجباة الضرائب (لقد رأيت باسم اتحاد الطلبة سيارة تجوب في الارياف والقرى تجبي من الناس ضرائب مالية وعينية لانهم يركبون سيارة جيب باسم البعث).
انقلاب السادس من شباط عمق الشرخ اكثر بين الوطن والدولة وانتج أكبر أشنع هزيمة للجيش السوري سنة 1967 وتم تحويله الى قزم امام اسرائيل واهينت فيه البندقية الوطنية ورفعت فيه العصا القمعية وتم تعميم اليأس من المواجهة وصار الوطن سجنا. وبدل اعادة البناء استكمل التدمير بشعارات اشتراكية! جرد الناس والبلد من ثروته ويسير ما بقي بأيديهم وكبر الطاغوت واستفحل في غياب رؤية سياسية او وعي معرفي. لقد ضرب الاستبداد بالعصا الغليظة للسوفيات على اليسار الدائخ برائحة الاقتصاد الاشتراكي كما نزل بسطار طائفي ملوّن على التجار والمؤسسة المدنية الوحيدة، الاسواق، فتم اخصاء المجتمع ودفعه الى هامش وصارت كلمات الحقوق او الاعتراض او الرأي نوعا من الترف يستحق السحق بشعار “كل شيء لأجل المعركة”.
مع انقلاب حافظ الاسد 1970 احيط البلد بسياج حديدي مزيج من الستالينية والماوية والغيفارية مع انبعاث شبح اسرة مالكة باسم طائفة أسرة. بالقمع المنظم والرشوة المنظمة وشعارات جديدة عن الحريات والديمقراطية المحلية ومجلس الشعب والجبهة الوطنية استخدم حافظ الاسد كهنة الاحزاب اقزاما في مشروعه التملّكي واستخدم الطائفة العلوية في القبض على الحزب والدولة وتهميش الجيش بقطعان غريزية: “سرايا” ووحدات ميليشيات تشبع مرقة وتغزو المدن وتنهب من التهريب وتعلو بالضجيج كنخبة.
بحرب تشرين 1973 اكتسب نظام الاسد شرعية التفوّق على رفاقه الاسرى في سجن المزة يشتري ولاءات الضعفاء منهم ويحكِّم في الباقين حثالة جمعها من قاع المدن التنك حكاما وقيادات عمالية واعضاء مجالس شعب وادارة محلية وممثلين لأحزاب قسمها شطيرتين واحدة له وواحدة تحت بسطاره. وبدأ بالدور الاقليمي تعميم النموذج السوري في مواجهة النموذج العراقي لصالح اسرائيل. اصبحت سوريا مستعمرة لبيت الاسد تحكم بلجة ساحلية ورشى مدينيه، وخنوع تجار تفتح لهم رخص استيراد وتصدير ويغلق على الوطن نوافذ الحياة. مع احتلال لبنان سنة 1976 افصح حافظ الاسد بوضوح “يداي طليقتان” وبدأ يسترشد بميكافيللي عصري.
باحتلال النظام السوري لبنان بحجة مهمة ايقاف الحرب الأهلية، مارست قواته العسكرية وشبه العسكرية وأجهزته الأمنية والمنظمات المرتبطة بها انتهاكات بحق الأفراد والجماعات وقوانين بلد مستقل، شكلت اسوأ انتهاك للعهود والمواثيق الدولية. لقد تورطت السلطة السورية وأتباعها في عمليات خطف واغتيال لرجال الصحافة والسياسة والسلك الدبلوماسي ولمثقفين ومفكرين لبنانيين وغربيين السفير الفرنسي لوي دو لامار، كمال جنبلاط، سليم اللوزي مهدي عامل، حسين مروة، المفتي حسن خالد، ورينيه معوض والمستشرق الفرنسي مشيل سوراه على سبيل المثال لا الحصر.
بالاعتقال التعسفي لسنين طويلة دون مذكرات توقيف والتعذيب حتى الموت و سياسة أخذ الرهائن من أسر المطلوبين والعقوبات الجماعية الانتقامية بحق المدنيين العزل، كما حدث في حي المشارقة بحلب سنة 1979 وكما حدث للكرد مرارا (جردوا على دفعات من اراضيهم وملكياتهم ،كما تم تعريب اسماء مناطقهم ومدنهم وقراهم تم الحجر على شعب كامل يشكل المكون القومي الثاني لسوريا الوطن).
بحجة مكافحة الرجعية الدينية سادت رجعية طائفية اشد سوءا وتقيحا. مع الخمينية في ايران استقوى الاسد بحليف اقليمي استغله خير استغلال في فترة الحرب العراقية الايرانية.
أسفرت مشاريع حافظ الاسد بمهمات دولية متعددة الاقطاب عن تدمير سوريا وتشويه لبنان بساعده امريكا واسرائيل والسعودية وباقي دول الخليج وليبيا والجزائر النفطية.
باعتقالات طال عشرات الآلاف بصورة تعسفية بدون مذكرات توقيف، “على الشبهة” حسب مزاج هذا المسؤول الأمني أو ذاك ودرجة “البارانويا” وتأزمها لديه بمفاعيل خطط لم يغب عنها خيرة العقول الامنية والمستشارين الامنيي من المعسكرين السوفياتي خاصة، مات الآلاف منهم تحت التعذيب والقتل العمد من نوع اطلاق الرصاص على السجناء مثلما حدث لمعتقلي سجن تدمر الصحراوي على أيدي سرايا الدفاع سنة 1979 بقيادة اخيه وضباط مشبعي بروح الانتقام الطائفي. وكما تم سنة 1982 عندما قصفت وحدات عسكرية عالية التجهيز بدبابات وطائرات مدينة “حماه” والتي أودت بحياة الآلاف من المدنيين، كما وأن آلافا من أعضاء أحزاب محظورة أو رهائن عنهم أمضوا سنين في مراكز اعتقال تعسفية حتى الموت أحيانا بجريرة أنهم اعترضوا على سياسات سلطة البعث بإبداء الرأي.
أضحت سلطة البعث مع عائلة الأسد مزيجا سرياليا من الدكتاتوريات العسكرية الفردية بشمولية أنظمة الكتلة السوفياتية للحزب الواحد.
أن حجم الثروات التي بأيدي رجالات ورموز دولة البعث تدلنا على حجم جرائم الخروج على القوانين الوطنية والشرائع الدولية.
من تاريخ الانتداب 1920 ولغاية قيام الوحدة المصرية السورية 1958، حافظت الدولة السورية على صيغتها التعددية بديمقراطية ناشئة، لم يتعرض الكرد فيها لأي شكل من التمييز أوالعسف بل على العكس ساهم الكرد بدور أساسي في حماية وادماج الجماعات المسيحية التي استقدمت من العراق وكردستان تركيا ممن تعاونوا مع الدولة الفرنسية المنتدبة. وشرّعت النخب الكردية لتلك الحماية من خلال مؤسسة الكريف لاشاعة رابطة شبه دموية تلزم الكردي حماية المسيحي من أي انتقام أو اكراه في غوغاء الاستقلال عن دولة فرنسا المسيحية.
في دولة الوحدة المصرية السورية سنة 1958 أضيفت الصفة العربية الى الجمهورية، فألغت التعددية العرقية ،للجمهورية الجديدة التي غابت فيها الديمقراطية بقوانينالطوارىء والأحكام العرفية بحجة حالة الحرب مع اسرائيل فكان بداية نشوء وتنامي الاستبداد..
تبنى البعث سنة 1964 وثيقة من 12 مادة تستهدف القضاء على الوجود الكردي في سوريا بسلسلة من القوانين من خزان الفكر العنصري فاحش الضلالة، وأحكام الطوارىء السيء واستلهام التجربة الاسرائيلية في فلسطين،
لا زال يعاني منها أكثر من مئتي ألف كردي منذ أربعين سنة مجردين من الجنسية بقواني عرفية، اضافة الى أكثر من مليوني كردي يفتقدون بالتمييز العنصري أبسط الحقوق الأساسية للانسان ومن المواطنية الحقة.
بوصول الجنرال حافظ الأسد الى السلطة سنة 1970 ازداد القمع العام وتعمم الارهاب وتفننت أجهزة السلطة في انتهاك المباديء الأساسية لحقوق الانسان أضحت سلطة البعث مع عائلة الأسد مزيجا سرياليا من الدكتاتوريات العسكرية الفردية بشمولية أنظمة الكتلة السوفياتية للحزب الواحد. شرعت بالفاشية للاستبداد الايديولوجي وبالارهاب للفساد والنهب من المال العام والخاص بقوانين الاحتكار الاشتراكية، وبالامتيازات الخاصة بالرشوة و التهريب المنظم بكافة أنواعه، على أيدي رجالات البعث والمؤسسة العسكرية وأسرهم والمتعاونين معهم، حيث أثرت فئة قليلة من المتنفذين وأفقر المجتمع.. كما تمت في الثمانينات عرفيا عمليات استثمار واسعة لرجال المؤسستين الأمنية والعسكرية وقادة حزب البعث لأراض الكرد المستولى عليها بقواني الاحصاء والاصلاح الزراعي.
أن حجم الثروات التي بأيدي رجالات ورموز دولة البعث ، تدلنا على حجم جرائم الخروج على القوانين الوطنية والشرائع الدولية.
.
باعتلاء بشار الأسد سدة الرئاسة تموز2000 يكون البعث قد دمـّر آخر رمز وطني لمؤسسة الدولة السورية أي “الجمهورية” حينما جعلها وراثية في عائلة الأسد تسيدها معتوه قاصر عقليا مجرم خلقيا، بتحويل الكيان الوطني الى ملكية خاصة.
هذا الركام الفاسد من الطغيان والفجور لسلطة عائلة، تلتهم عشيرة، وعشيرة تلتهم طائفة، وطائفة تختنق بلقمة من فتات مائدة الاسرة، هو الذي دفع الشباب السوري اطفالا ونساء ومكونات عرقية ودينية ومذهبية مدفوعين بالهام رياح الثورة التونسية الليبية المصرية على التمرّد والثورة..
وبفعل هذا الامتداد الإخطبوط لسلطة البعث في سيرورة وحشيتها وتاريخها وبمراغمتيها يتم التآمر الدولي والعربي والاقليمي لوأد روح الثورة وتغييب الشباب الثائر بتقديم اقزام مهلهلين أمّعات فاسدة، وهياكل حزبية منخورة على انهم ممثلون للثورة المذبوحة.
bachar_alissa@hotmail.com