ربما أجملَ ما تظفر بهِ وما تستطيع أنْ تجده،أنْ تكون في غواية الحلم. تقترفُ متعة وجودك في أصلِ وجودك. وأنْ تأتي بكلّ وجودك متوّجاً بالحلم في دهشة الخَلق. وأنْ تجد ذاتك تشتهي ذاتكَ حلماً في مخاض التجلّيات الملهمة.
الحلم طقسٌ شديد الحضور يتجلّى سطوعاً في اشتهاءات الشغف، ويزهو غراماً في فسحة الحبّ،ويزداد عشقاً في غمار الإرادة. فالحلم لا يستطيع إلاّ أنْ يكون حاضراً شهيّاً يمضي إلى غدهِ مترعاً بالنشوات والرغبات والتّفنّنات والتّأمّلات والفتوحات.
أنْ ترى حلمكَ في عينيك وقد غدا لامعاً ومتوهّجاً وناصعاً. ذلكَ يعني أنّكَ تحرسه وترعاه وتحافظ عليه، وتقاتلُ من أجل أنْ يبقى يافعاً في قلبك،وفتيّاً في عزيمتك،ومُتوقّداً في ذهنك،وناطقاً في خطواتك،وأنيقاً في أخلاقك،وبهيّاً في حضورك.
ما أجمل ذلك الحلم الذي ينساب شهيّاً في ثمالة الرُّوح،يستلهمُ من ارتقاءاتها في مدارج المعرفة نضج المرحلة،وبريق الفهم،ويقين التواصل،ودفقة الاطمئنان،ووضوح الطريق، وصلابة الفكرة،وجمال التّعالق.
الحالمونَ يعتقدون دائماً بأنّ هناك في الحياةِ متَّسعاً للحلم. إنّهم بذلك يفتحون باباً يطلُّ على الأفق الفسيح في ذواتهم. إنّهم يعرفونَ جيّداً بأنّ الحياة في جانبٍ منها مُربكة حدَّ التعقيد،وقد تبدو في ظاهرها جامدة ومملّة ومحشورة في دروبٍ ملتوية،ولكنّهم على الرغم من ذلك لا يفقدون احساسهم الرهيف بِالحلم. إنّهم يتجاوزونَ كلّ ذلك من خلال ذواتهم السابحة في ملكوت الحبّ والحريّة والإبداع، ويملكونَ في الوقتِ ذاته مهارة التحرَّر من لعنة التعقيدات الخانقة. لأنّهم يتخفّفونَ دائماً من أثقالها بما يملكونهُ من نظرةٍ ملهمةٍ ومتفكّرة للحياة ولأنفسهم،ولكلّ ما يتداخلونَ معه بِذات الشغف والغرام.
إنّهم يتخلّقونَ فيضاً كثيراً في أحلامهم، ولكنّهم في الاتّجاهِ ذاته لا يفقدونَ حماستهم لأفكارهم. إنّهم يعرفون أنّ الأفكار تنبتُ في أحيانٍ كثيرة من أحلامهم،حينما تكون أحلامهم في مستوى إبداعهم وفي مستوى تجلّياتها المفعمة بالضّوء والرحابة والخَلق.
ولا يكونُ الحلمُ حلماً إلاّ وهوَ يبحثُ عن نفسهِ في أفكاره. في أفكارهِ تحديداً،وليسَ في أفكار غيرهِ. لأنّه في أفكارهِ يملكُ أنْ يكونَ حرَّاً ومُبدعاً،ويملكُ وعيه في أنْ ينجو من كارثة الأفكار العقيمة، ويملكُ أنْ يمنح تجربته في أفكارهِ زخماً جديداً من الفهم والتفكّر والحريّة، ويملكُ أنْ يفهمَ أنّ في أفكارهِ تصفو الحقيقة ويجلو الطريق.
إنّه الحلم يزهو وقوراً في جلال الصَّمت، ويستلهم من الصَّمتِ نقاء الحضور وصفاء التّفكير ولذّة الانعزال. إنّه يجيد صمته مستمتعاً به ومتجلّياً في فضاءاته. ويجيد في الوقتِ ذاته حمايته من فوضى الصَّخب ومن بريق الاستعراض الزائف والأضواء الرديئة. إنّه الصَّمت الخلاّق الذي يمنح الحلمَ متعة البحث عن إجاباته التي يبقى يتعقّبها دائماً في دروب الفكر والسؤال والنقد.
الذاهبونَ دائماً إلى حاضرهم، يجدونَ أنفسهم يعانقون أحلامهم، يعانقونها كما لو إنّها لم تولد بعد. إنّهم بذلك يخترعونَ لحاضرهم أحلاماً مفعمة بالألق والمتعة واللذّة،ويركضونَ خلفها في شغفٍ لا ينقطع،لأنّهم يعرفونَ بأنّ الحياة الخالية من الحلم والمتعة والشغف عادةً ما تتلّقى الهزيمة في مواجهة الواقع المريع، بينما الحلم الشغوف بمتعة الحاضر يمنح الحياةَ ألواناً زاهية وآفاقاً ملهمة ودروباً فسيحة وأفكاراً مضيئة وإبداعات خلاّقة.
والحلم مغامرة العشقِ والخَلق. إنّها المغامرة الأشهى في نظر الحالمين. إنّهم يجدونَ في الحلم عشقاً يجعلهم أكثر قُرباً من أشيائهم التي تفعمهم لذّة التواصل مع ذواتهم،وتدفع بهم نحو مغامرةٍ أشهى في فنون الإبداع والتفكّر. ويجدونَ في الحلم خَلقاً يبرع كثيراً في تقصَّي آفاق الدهشةِ في عقولهم وفي تفكيرهم. هذا الحلمُ عاشقٌ حرٌّ يسافر طويلاً في الفراغ الشّاسع والبعيد،يستدعي من أقاصيه جنونه المتفرّد.
والحالمونَ يعرفونَ جيّداً بأنّ الطَّريق الذي يأخذهم إلى ناحية الحلم، هو الطَّريق ذاته الذي يضعهم عشّاقاً مفتونينَ على جهة الحريّة والحبّ والجمال. فالحلم طريقٌ وجِهة،وطريقٌ إلى جهة، وجهةٌ على طريق. إنّهما يتكاملان في صناعة حالة العشق. الحالة التي تختبر نفسها في نفسها وهيَ تَتهادى هياماً في الطَّريق والجهة. فالطَّريق امتدادٌ ومسير والجهة مأوىً وملاذ،وفيهما يختالُ الحلم امتداداً ويَتكوّنُ ملاذاً. فَفي الامتداد فتنة البدايات الساحرة ومخاضاتها الوامضة في رحابات الفكر والتفلسفِ. وإنّه الامتداد الذي لا شيءَ فيه ينتهي ويكتظُّ دوماً بالحياة والحركة. وفي الملاذ دفء التوقّفات الهادئة والمراجعات المثمرة، وفيه أيضاً جمال الحصاد الوافر وعشق التّجربة الظّافرة.
والحالمونَ مسكونونَ بهاجس العبور. يعبرونَ دائماً من هنا إلى هناك، ومن هناكَ إلى هنا. إنّهم يعبرون وفي عبورهم تلخيص وميض لِتجربةٍ كاملة. فالعبور في ثقافتهم يعني أنّكَ تجتاز المراحل وأنتَ شديد القُربِ من تعالقكَ المستهام مع الأفكار والتساؤلات والتحوّلات. وفي عبوركَ تخطو متخفّفاً من أثقال المعيقات الخانقة،ومتخفّفاً من تراكمات اليقينيّات الهادمة ومن بؤس التعقيدات الهالكة. إنّه العبور الأجمل من حيث أنّه يمضي دافقاً بالتنوّع والتّفنن والاشتهاء، ويمضي في الوقتِ ذاته وهوَ يحتفظُ بما لديه من رصيد الذاكرة المشعَّة والتجربة المثمرة والفهم المستنير والمعرفة الناقدة.
وأمّا أولئكَ التّواقون للحياةِ في اشتهاءات الحلم، فيبدعون كثيراً في تلوينات الحضور على قيد العشق والتوهّج والاشتياق. لأنّهم يبرعونَ في فعل الانحياز الناصع للحريّة. إنّهم يمارسونَ حريّتهم هذهِ حلماً مضيئاً في متعة العقل والتفكير، ويجدونَ إنّها تمنحهم ترف التواصل الجميل مع ذواتهم التي تنتشي حضوراً لذيذاً في تدفقات العشق والاشتياق والمتعة. وكلّ هذا الشعور الدافق بِعشق الحريّة في أعماقهم من شأنهِ بالضَّرورة أنْ يبعثهم عشّاقاً يتلهفونَ اشتياقاً بتواصلهم مع أحلامهم،وهيَ ترنو إليهم في جهارة الحبّ والألوان والرغبات.
ومَن يخترع حلماً ويتعايش معه بِذات القدرِ من الحلم نفسه، يكونُ قد استدعى طاقة الخَلق والمغامرة والحماسة الكامنة في أعماقهِ. الطاقة التي تدفعه نحو اختراع أساليبه وطرائقه في تعالقاته المحبّبة مع الحياة. إنّه هنا يرى بأنّ الحلم اختراع جميل يدفعه نحو تبنّي أسلوبه وطريقته في التعالق مع كلّ ما من شأنهِ أنْ يجعله شغوفاً وعاشقاً لحلمهِ. ومستمدَّاً طاقته تلك وإرادته وعنفوان تصميمه من كلّ الشغف والعشق اللذان يسكنان ذهنه وتفكيره وقلبه،ويملآن حياته بالحركة والتطلّع والتغيير والإبداع.
ومَن يعرفُ بأنّ الحياة عادةً ما تمضي إلى هنا وهناك،ولكنّه على الرغم من ذلك أصبح يعرفُ جيّداً بأنّ ما يبقى له من كلّ ذلك هو حلمه، حتّى لو أنّ كلّ ما هناكَ سينتهي إلى الجمود أو القيْد أو الفناء. لأنّه يملكُ أنْ يكونَ حرَّاً في حلمه،ويملكُ حلمه شعوراً يَتشاسع حرَّاً في قلبه الطَّليق.
الحالمونَ عادةً ما يذهبونَ بعيداً. يذهبونَ إلى أقصى الحياةِ في عقولهم،ويذهبونَ بعيداً بكلّ ما في كيانهم من وميض الحدس وجذوة العاطفة ودفء المشاعر. إنّهم هنا قد يغادرونَ ذواتهم بحثاً عن ذواتهم في حلمٍ جديد. إنّهم هنا لا يفقدونَ تواصلهم الحميميّ مع أصل ذواتهم، فقط يريدونَ أنْ يعرفوا لماذا عليهم أنْ يعودوا إلى ذواتهم من جديد، ولماذا عليهم أنْ يكونوا مرَّةً أخرى في مركز الذات؟ هذه العودة جديدهم في مخاض الحلم. جديدهم الذي يتجلّى في الذات حلماً،وجديدهم الذي يمنحهم فهماً أعمقَ لذواتهم وفقاً لقناعاتهم التي تَتضافر حلماً ملهماً في كلّ جديدٍ ومتغيّر.
وقد يكونُ الحلمُ أشبه بِقصَّة، نبقى نكتبها في تعاقبات اللحظات والنشوات والرغبات والشهوات، وفي تجلّيات الحكايات والتأمّلات والخيالات. نكتبها وكأنّها حديث الأمس للغدِ أو وكأنّها حديث اليوم للغد أو ربما وكأنّها حديث الغدِ لِلغدِ. هكذا في أحيانٍ كثيرة يكتب الحلم قصَّته،أو تكتب القصَّةُ حلمها،وفي كلّ فصل من فصولها يودع الحلمُ شيئاً من نسيج ذاكرتهِ المضيئة. إنّها الذاكرة التي تتشكّل حلماً في يقين الحريّة ولا شيءَ سواها،وتبقى تمضي حرَّةً في البعيدِ من القريب وفي القريبِ من البعيد،تلاحق الضّوءَ في دهشة المسافات.
وما أجملَ أولئك الذين يرتادون الأحلام، وفي قلوبهم دفقٌ من الدفء والاطمئنان والوداعة. إنّهم لا ينهزمونَ أمام بشاعة الواقع، ولا ينهزمونَ في مواجهة القبح والدمامة. إنّهم يصنعونَ من أحلامهم عالماً يشعُّ بِالتّوقِ الشهيّ لِتلكِ المراحات المفعمة بصنائع الإبداع الإنسانيّ. لأنّهم يحسبونَ الحلمَ جمالاً ينتصرونَ به على الواقع المريع، ولا يستطيع القبح أنْ ينال شيئاً من جمال أحلامهم، لأنّهم يرتقونَ دائماً في معارج الحريّة والحبّ والألق والضّوء.
ومَن يجترحُ حلماً،يجترحُ في الوقتِ نفسه تجربةً في التأمّل والاستنطاق والتنوّع والإبداع. فالحلم هنا دائماً ما يستطيع أنْ يجد طريقةً للحياة،وفي تجربتهِ الناطقة ثمة طريقة للحياة. إنّها الطريقة التي تستخلص من تجربتها في الحلم طريقةً في استدعاء أفكارها وتأمّلاتها واستنطاقاتها وتنوّعاتها للتعالق الجماليّ مع كلّ ما يعتملُ في إبداعاتها من فنون الابتكار والتواصل والخَلق. وهيَ الأشياء ذاتها التي تبقى تمدُّ أعماقهِ بالحبّ والإحساس والعاطفة والحماسة والتوهّج،وهي ذاتها التي تُخبِرهُ بأنّه في انسجامٍ تفاعليّ مع جوهر حلمهِ وجوهر اختياره وقراره وحريّته.
كيف لا والحلم يتجلّى دوماً في ذاكرة مشعَّة. لأنّه في أصلهِ يتمثّلُ في تجربةٍ إنسانية،والتجربة من شأنها أنْ تتخلّق دائماً في ذاكرةٍ متحركة وفاعلة،وتعكس تالياً في اشتهاءاتها المعرفيّة ثقتها الكبيرة بمفاهيمها التي تجدها في الأساس إنسانيّة الفكرة والجوهر والمسعى،وتملكُ في الآنِ نفسه خاصيّة الانسياب الحرِّ بمفاهيمها الإنسانيّة إلى ذاكرةٍ تمتدُّ بعيداً في الزمن والمعاني والثقافات والمعرفيّات والآفاق. فالمفاهيم في مخاضات الحلم هنا ليست محشورة في سياقات دينيّة تتكوّمُ تحت أطرٍ ضيّقة،وليست محشورة أيضاً في معتقداتٍ خانقة لا تملكُ التخلّص من طابعها الزمنيّ المحدود والمحدَّد.
وأكثر الحالمينَ شغفاً بالحريّة والتّفنّن والحياة التّواقة للحبّ والجمال، يعتقدونَ منشرحينَ بِأنّ ما يملكونه من حريّةٍ في أحلامهم،وحلماً في حريّتهم، يكفي ذلك لكي يجعلهم يشعرونَ بِنشوة السعادة بما لديهم من حلمٍ يصنعونه في أعماقهم وفي وعيهم وفي ذاكرتهم. ويشملونهُ دائما بالرعايةِ الفائقة،وحتّى لو تلقّوا هزيمةً من هنا أو هناك في أحلامهم، إلاّ أنّهم يبقونَ يحافظون على أناقتهم العقليّة والفكريّة والشعوريّة في طريق الاكتمال.
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي