الأندلس التي يتباكى عليها د. العويد وبعض المؤرخين لم تَضع طبعاً، ولم تختفِ من صفحات التاريخ والجغرافيا كما توحي هذه البكائيات التلفزيونية، بل لا تزال البلاد قائمة بتاريخها وآثارها، والشعب الإسباني، وبينه الكثير من المسلمين، من أكثر شعوب أوروبا صداقةً للعرب والمسلمين.
جوانب كثيرة من تاريخ الأندلس الممتد قرونا، من مفاخر التاريخ الإسلامي بلا شك، ومن التجارب الإنسانية الرائعة في التقارب القومي والتسامح الديني، وقد كتبت دراسات وكتب لا حصر لها حول جمال الأندلس ورغد الغيش فيها، وتعايش المسلمين والمسيحيين واليهود في ربوعها.
لكن ما يخاطبنا به د. عبد العزيز العويد على قناة البوادي الثقافية الرائعة شيء آخر للأسف، فهذه القناة ثقافية غير سياسية، وهي خير تعبير وامتداد لمجهودات مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين ودورها المعروف وخدماتها الثقافية التي تنشر الاعتدال والتسامح، ويشهد بجودة عطائها الجميع على صعيد المطبوع والمرئي والمسموع.
الحلقات التي يقدمها د. العويد عن “الأندلس” وتاريخها وما جرى لها، لا تصب في اعتقادي في المجرى نفسه، ولا تخدم فيما أرى الأهداف نفسها.
الحديث المثقل بالحزن والحسرة والتباكي على الأندلس بلغة تكاد تكون مشبعة بعداء “النصارى” الذين استرجعوا بلادهم بعد أن جرى فيها ما جرى، ودبت صراعات وحروب وانقسامات بين المسلمين أنفسهم هناك. مثل هذا الحديث سلوك معاد للآخر، ولغة إعلامية لا تليق بالقرن الحادي والعشرين، ولا تتماشى مع المجهودات الجبارة والندوات الضخمة التي تتولاها المؤسسة، وتترك أفضل الأثر على صعيد تشجيع التسامح الإنساني والحوار الحضاري.
الحديث بهذه اللغة عن “ضياع الأندلس”، “وهيمنة المسيحيين” على تلك الديار والمساجد والمنازل والأسواق، وطرد المسلمين منها، وما يرافق حديث د. العويد من إشادة بالحروب “وقادة الفتوحات والمجاهدين”، لم يعد أفضل سبل الارتقاء بالخطاب العربي والإسلامي، وبخاصة عندما يرافق ذلك كله الألم والحسرة والتباكي على “الفردوس المفقود”، و”الأندلس”، التي هي بالطبع مملكة إسبانيا المعاصرة!
هل نحن نتحدث في هذه الحلقات فيما بيننا، ونخاطب العرب والمسلمين وحدهم، أم أن برامج “قناة البوادي” يشاهدها “الآخر”… والجميع؟ فالواقع أن الحلقات التي يقدمها د. العويد عن الأندلس “وضياعها”، مترجمة في كل تفاصيلها وحوارها إلى اللغة الإنكليزية، فلا حاجة لمن يشاهدها من المسيحيين وعامة الإسبان والأوروبيين، وحتى المتعاطفين مع العرب والحضارة الإسلامية، أن يتعب في ترجمتها، وقد يستشهد أي ناقد لهذه الحلقات بمقاطع منها مع التعليق المرافق ويعتبرها محرضة على المسيحيين.
إن فتح المجال للتحسر على المدن والبلاد المفقودة قبل قرون يحمل الكثير من السلبيات للمجتمعات المعاصرة ويضر بالعلاقات الدولية، فقد يتحسر أهل اليونان على إسطنبول التي استولى عليها المسلمون عام 1453 وعلى إمبراطورية الإسكندر الأكبر، وقد يحلم الإيطاليون كما طالب “موسوليني” باستعادة الإمبراطورية الرومانية والهيمنة على البحر المتوسط، وقد يتباكى الإيرانيون على مدائن كسرى “وطيسفون” وكانت في العراق على مبعدة نحو ثلاثين كيلو متراً من بغداد، ولا تزال بقايا “إيوان كسرى” قائمة هناك!
وإذا أعطينا المسلمين حق الفتح والتوسع، فلماذا نحرم منه المسيحيين واليهود والبوذيين والهندوس؟ ثم أليس من الخطورة بمكان على شباب العالم الإسلامي والعربي اليوم، أن نقدم لهم الشخصيات المقاتلة والمجاهدة من عصور وظروف ما قبل ألف عام، كقدوة لأبناء المسلمين المعاصرين؟ ألن يجدوا طريقهم بعد هذا الكلام و”حديث الجهاد” و”ضياع الأندلس” و”غدر النصارى” إلى “داعش” و”القاعدة” والنشاط الإرهابي؟ هل هذا ما يرمي إليه د. عبدالعزيز العويد ومؤرخ مثل علي الصلابي المعروف بخطه المتشدد؟
ألسنا نقول للشباب منذ فترة ضمن مساعي نشر الاعتدال والتعقل بينهم، إن المسلمين لا يهاجمون أي دولة إلا إذا هجمت على المسلمين؟ فهل هذا ما جرى في تاريخنا دائما؟ وهل نستطيع أن نقدم لشبابنا فقه العلاقات الدولية بالمنطق نفسه لـ”دولة الكفر” و”دولة الإسلام” مثلا في أيامنا هذه وعصرنا هذا؟ ثم أين نحن من ثقافة الأندلس وتعايش الأديان فيها؟ وأين نحن من عصرنا؟
إن الأندلس التي يتباكى عليها هؤلاء لم تضع طبعاً، ولم تختف من صفحات التاريخ والجغرافيا كما توحي هذه البكائيات التلفزيونية المعروفة، بل لا تزال البلاد قائمة بتاريخها وآثارها والشعب الإسباني، وبينه الكثير من المسلمين، من أكثر شعوب أوروبا صداقة للعرب والمسلمين وألصقهم بدول شمال إفريقيا، وأحفظ الدول للتراث الإسلامي في المدن الإسبانية، فيما تتعرض الآثار التاريخية في العديد من الدول العربية للإهمال والتخريب والهدم فلنتحدث ببعض الصراحة والواقعية!