تفصيل من لوحة لزينة عاصي.
إلى وقت قريب جداً، اعتُبرت الشعوب العربية بمثابة شعوب جامدة لديها قابلية الخضوع للاستبداد وغير مؤهلة للتطور في منحى ديموقراطي. حتى ان بعض المستشرقين أطلقوا صفة “الاستبداد الشرقي” على نمط الحكم السائد في المنطقة.
ها نحن عشنا لنشهد قيام ثورات الربيع العربي التي تبرهن أن هذه التعميمات غير دقيقة وغير صالحة لتفسير وضعٍ ما إلا ظرفياً، من دون إطلاق صفات تعميمية جامدة، لأن الاوضاع تتغير وتتبدل باستمرار. كان سبق لفوكو أن حذّر من مثل هذه التعميمات بإشارته إلى أن الكلمات تخدعنا وتجعلنا نعتقد بوجود مواضيع طبيعية دائمة مثل الجنون أو الدولة أو الطائفية في لبنان. انها التعابير نفسها ربما، لكنها بمضمون متبدل ومتغير بحسب المرحلة الزمنية وطابعها.
تدعم هذه الفكرة قيام العديد من الدراسات التاريخية في العالم العربي مستخدمةً أرشيف المحاكم الشرعية في تتبع أوضاع الأسر والنساء بحسب الفترة التاريخية في محاولتها لفهم تاريخ الأسرة الشرقية وموقع المرأة فيها. وجدت أن الأحكام الشرعية تتغير وتتبدل تبعاً للمرحلة التاريخية وأيضاً للدينامية الدينية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك عبر اعتماد عقود الزواج التي يمكن المرأة فيها وضع شروطها واختيار نوع العقد الملائم، وحتى وضع العصمة في يدها. ما يعطينا مؤشراً يدل إلى أن هذه الأحكام غير ثابتة وقابلة للتطوير، وما يشير الى إمكان العمل على إحداث إصلاحات تشريعية في العالم العربي.
نلاحظ بدايات تغيير على هذا المستوى، في محاولة لتلبية الحاجات النفسية والاجتماعية المستجدة. ذلك أنه على الرغم من أن مجتمعاتنا العربية تطمئن نفسها إلى ان كل شيء فيها على ما يرام، وأن وضع الأسرة العربية بألف خير، بخلاف ما هي عليه أحوال التفكك الأسري الظاهر في العالم الغربي، نجد الكثير من الدلائل على مأساة العلاقة بين الجنسين في المجتمعات العربية. فنسبة الطلاق المتدنية نسبياً فيها ليست سوى واحد من المؤشرات الخادعة إلى مدى الاستقرار للعلاقات الزوجية أو حميميتها، وتعبير عن أزمات معلقة، ليست أقل ضرراً من الطلاق نفسه.
ربما بسبب ذلك، نرى أن مؤسسة الزواج التقليدية أوجدت العديد من أنواع الزواج الموقت تلبية للحاجات الجديدة، بالرغم من ان الحداثيين يدينون هذه الأحكام ويجدونها “رجعية”، لكنها تلعب دوراً في تجريب تطوير الأحكام الشرعية بما يتماشى مع العصر. تتخذ هذه الزيجات المستجدة أشكالاً متعددة (من زواج المتعة الى زواج المسيار وزواج المسفار والزواج العرفي وزواج ملك اليمين…) لإضفاء المرونة الضرورية لتغير الاوضاع الاجتماعية ضمن حدود شرعية كانت حتى الآن متشددة وجامدة في تحكمها بالعلاقات بين الجنسين.
هذا بالإضافة إلى حدوث تغيرات موازية تطاول الشرائح غير المتدينة، أو لنقل الليبيرالية أو المدنية، التي توسع هي أيضا، وأكثر فأكثر، أنواع الارتباطات العاطفية والزوجية الحرة: مثل المساكنة أو الارتباط مع بقاء الشريكين في منزلين منفصلين او الارتباط الحر بين شريكين. حتى هذه الأشكال الجديدة من الارتباطات تجد “غطاءً” شرعياً لها في فلسفة الاجتهاد وابوابه عند بعض المذاهب التي تذهب إلى أن “عقد الزواج” يمكنه أن يتم بين الزوجين ومن دون شهود، أو بوجود شاهدين من دون وجود قاضي شرع. وذلك في محاولة للبحث عن مخارج للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بمجتمعاتنا.
يعدّ هذا في نظري تطوراً وتأقلماً مع مستجدات العصر الذي نعيش فيه، إذ يتم تطوير آليات تسمح بالاجتماع والاختلاط وتجاوز الحواجز الواقعية أو الرمزية التي تقيمها الكثير من المجتمعات الاسلامية التقليدية بين الجنسين، من دون أن يواجه الناس مشكلات أخلاقية أو الشعور بالذنب. ذلك كله يحمل ارهاصات لتأويلات جديدة للزواج وللعلاقات بين الجنسين، ونوعاً من اعتراف بحاجات المرأة الجنسية. وهي تبرز التحديات المتزايدة أمام الحركات السلفية التي تريد العودة بالمجتمعات الى عصور الاسلام الأولى واجتماعها وممارساتها. ومع أنها ليست خطوة كافية أو مرضية للمثقف- المثقفة، فهي مؤشر إلى اتجاه يعمل على تلمس الحاجات البشرية للجنسين. تالياً المرأة.
يوجد المسلمون أجوبة مبتكرة عن المعضلات التي يثيرها الفصل بين الجنسين والجمود الفقهي، ولو أن الأمر بحاجة الى نضال وتنبه من النساء والرجال الديموقراطيين من أجل ضبط وجهة تطوير الأليات والقوانين للتوصل إلى اعتبار المرأة كائناً تاماً.
أخيراً لا بد من القول إن هذا كله رهن بتغير الذهنيات، وبتغير نظرة الرجل إلى المرأة أو بتطوير هذه النظرة، وتطوير نظرته إلى نفسه، وهذا ما ينطبق على المرأة أيضاً. وهذا لن يتم في مجتمعاتنا قبل القضاء على الفقر وعلى الأمية بأنواعها، وبدء سيرورة التنمية الشاملة وخصوصاً الاعتناء بالتربية وبالكتب المدرسية التي ستطلق الديناميات المجتمعية الكامنة التي عبّرت عنها الثورات. لا ننسى أن الواقع يفرض نفسه دائماً ويعزز تفسير النصوص بحسب حاجاته، وما عليه سوى الضغط من اجل ذلك. كما نلاحظ بروز رجال دين متنورين، ولو انهم لا يزالون أقلية، لكن الجيل الشاب الذي ثار على الأوضاع المزرية سوف يساهم في إطلاق دينامية داعمة لمثل هذه التوجهات. وهذا في ذاته إيجابي ويدعو إلى قدر من التفاؤل.
اما العلمانيون والديموقراطيون وتابعو الأديان وأصحاب الثقافات الاخرى المختلفة ممن نطلق عليهم صفة “الأقليات” (وهو نعت مضاد لمفهومي التنوع والتعدد اللذين نسعى إليهما)، فلهم الحق وعليهم واجب المطالبة بقبول اختلافهم وخصوصياتهم وبجعل الدساتير العربية الجديدة تفسح في المجال أمامهم لإيجاد حيز من حرية الحركة والتعبير تحفظ لهم وجودهم وحقهم في العيش بالطريقة التي يجدونها ملائمة.
monafayad@hotmail.com
جامعية لبنانية