عندما يصف مواطن نفسه بانه تواق إلي الديمقراطية ويعبر عن إعجابه بالنجاحات التي حققتها متمنيا أن يتمثلها عالمه العربي فان مصداقية الكلمة والامنية والتوجه والابتهال الي كل قوي الوطن والي الله ايضا في تحققها يكون لها معيار واحد هو اللجوء الي الديموقراطية كما هي وليس الاستدعاء لكل ما يناقضها او الاحتماء داخل ثقافات تناصبها العداء، ونموذجها هو الاصولية. وعليه فاذا الزم كاتب او مثقف نفسه بالاصولية فان توقه الي الديموقراطية يصبح موضع علامات استفهام علينا بالاجابة عليها.
لماذا لم تاتي الديموقراطية ضمن اليات العمل الاسلامي الاصولي عملا بقولهم : الاسلام هو الحل” او ان الاسلام صالح لكل زمان ومكان” رغم علمهم بان الاستغناء عن الديموقراطية مستحيل؟
فالكاتب الاصولي تاتي استشهاداته في معظمها اصولية ولولا المساحة المحدوده لجئنا بنصوص ونماذج. وبالتالي فنحن أمام موقف إنساني تضاربت فيه الرغبة لحيازه ما ليس بقادر علي ابداعه واختراعه او وجوده في تراث امته العربية / الاسلامية وفي ذات الوقت العجز عن رؤية صحيح الطريق لتحقق الاماني باللجوء دون تردد الي الديموقراطية ليحقق ما لم تحققه له الأصولية وبما هي عاجزه عن استيعابه.
هذا الموقف أساسه الخلل بين ربط الماضي وثقافته وبين الحاضر المختلف والذي يجعل كتابنا ومثقفينا كمن يقفون في صحن المسجد وبيدهم قنينة المنكر يرشفونها ويدعون الله في نفس الوقت لكل ما تتوق اليه انفسهم من هداية وتقوي وصلاح. حل اشكاليتهم بين ايديهم والتخلص من المنكرات ضمن قدراتهم وليس في حاجة للدعاء.
الخلل هذا يدفعنا للشك في مسعي الاصولية لاستخدامها الديموقراطية تحقيقا لاهدافها التي لم تحتمل أي موقف ديموقراطي. فدخول اماكن العبادة بطهارة شرط ومطالبة الحق بتحقق ما هو متوفر حولنا ولا نراه بل نكيل لاهله التهم بالكفر هو غش لله وغش لنا. ومطالبة السلطة بالديموقراطية بينما اصحاب المطالب اصوليون هو رياء ومداهنة ونفاق. وعليه فتمترس السلطة دون منح بصيص من نور ديموقراطي او الحول دون انتزاع حق ديموقراطي واحد منها هو بالفعل موقفا منطقيا للسلطة وتمشيا مع ادعائها بانها اكثر ديموقرطية من هؤلاء المطالبين بها. وان الممنوح حاليا هو كاف لمنع من سيمنعها نهائيا بعد الوصول الي سده الحكم. بهذا فان المعارضة الاصولية هي ذاتها التي تثبت الاوضاع بمطالبها الديموقراطية لعلمها نوعية كل طرف يتعارك علي الفوز بزرقاء اليمامه.
فدخولهم المسجد بهذه الهيئة – النموذج الاصولي – هذا يتكرر في كثير في مشاهدنا السياسية والاجتماعية. بالتواجد في المكان الخطا لتحقيق مطالب غير مشروعه باساليب تبدو مشروعه. ونموذجها الاكثر دعائية هو كتلة الاخوان داخل مجلس الشعب. فهم متواجدون بفعل ديموقراطي لكنهم وعبر شعار الاسلام ( الذي لم تكن الديموقراطية طوال التاريخ ضمن ادواته ) هو الحل ينوون الاجهاز عليها لا لسبب سوي انها ليست اصلا ضمن مفردات التراث. بل هي سلاح ضد من ليس اصوليا، علمانيا – ليبراليا – ملحدا – شيوعيا – اشتراكيا – للوثوب الي السلطة لو انه تمكن من جمع العدد اللازم من الاصوات ليسقط الاصولية التي هي في سده الحكم. وبكل تاكيد يمكننا ان نستدل بان فكرة التكفير ستصدر من السلطة الاصولية إذا ما افلح احد من كل الكتل الاخري في حيازة الاغلبية.
ورغم محاولات كثيرة تمت منذ ان انفتحنا علي الغرب بكل وسائل التلاقح الحضاري الا ان زرع الديموقراطية في المنطقة كان اصعب ما واجه المصريين طوال المائتي عام الاخيرة. ولم تكن الاصولية فقط عائقا ضد انتشار ثقافة الديموقراطية بل ان بعضا من الثقافات النابعة من طبيعة الانخراط في تشكيلات اجتماعية مستجده علي المصريين مثل مؤسسات الصناعة الضخمة وغيرها اتت عبر ايديولوجياتها بدكتاتوريات تتفق والموقف الاصولي رغم تباعد الشقة بينها واختلاف المنابع المعرفية والاصول المجتمعية لكل فصيل. وزاد الطين بله بديكتاتوريات العسكر ومعها شوفينية العنصرية القومية التي اساسها الاستبعاد علي اساس من الدين او العرق ومناصبة العداء بكل الاسلحة الممكنة للغرب صاحب التراث الديموقراطي.
كل هذه الاجواء والمناخات السياسية والفكرية والايديولوجية تكأكت جميعا لصالح قتل الديموقراطية. وكان ان خرج كل مثقف بعد هزيمة منظومته في معركتها الخاصة مع الديموقراطية الغربية بتحايل اللجوء الي غرفة اخري من غرف الدكتاتورية كملاذ يكمل به مشوار نضاله ضد الحرية واهما نفسه ان يحارب من اجلها. يطلب الاستقلال لاجواء غرفته الضيقة التي تحتويه مؤقتا ومباعدا بينه وبين باقي الاطراف. مدافعه واسلحته كما هي موجهة ضد العالم الديموقراطي والغرب العلماني فهي موجهة ايضا ضد باقي الفصائل الوطنية معه داخل الوطن.
تبدو القضية بهذا الشكل كمن يدور في حلقة مغلقة. نهايتها هي اولها لتدور بلا نهاية. فما الذي جعل العالم من حولنا يكسر ذلك الطوق ويفلت من اسار الحركة الدائرية وجعلنا محاصرين بلا تطور ومشلولين دون شفاء؟
تاريخ تطور المعرفة بكل انواعها سار متوازيا مع تطور المجتمعات ويكشف ان فشل أي مجتمع من هيبة القفز الي نموذج وتصور مختلف يجعله معاقا فيتراجع امام من له شجاعه القفز خارج العالم المغلق الي عالم يبدو لا نهائي الامتداد. ونموذج هذه الفرضية هو عجز االشرق في عمل نقلة نوعية واكتشاف العلوم الحديثة وانتظر حتي تأتي بها اوروبا بظهور جاليليو وكوبرنيكس وكل الثورة العلمية والحضارية الحديثة.
فالعالم العربي والاسلامي الوسيط كانت لديه ثروات طبيعية ومادية وثراء مالي وافكار لا تقل عن اوروبا. لكن شجاعة تصور نموذج آخر لشكل الكون تكون الشمس مركزه والارض تابعة مثلت نقلة نوعيه في عمل العقل الاوروبي ليتخذ نماذج اخري في مجالات أخري خارج علم الفلك والاجرام السماوية. هكذا ظهر نموذج الراسمالي ونموذج العامل بالاجر . نموذج الحاكم المنتخب ونموذج النواب. نموذج المغامر بالتجريب حتي ولو كان قسيسا مثل مندل داخل كنيسة ليكتشف قوانين الوراثه التي لم تمنكه عباده خالقه من اكتشافها عبر التبتل والتقوي.
فالقضية لا تكمن في الايمان من عدمه انما في انكار الفكر الاصولي مسيحيا كان او اسلاميا من الاعتراف بان لكل انسان عقلا ونموذجا مستقلا ومختلف بالمعني الذي جائتنا به الفلسفة اليونانية. ذلك العقل له وازع داخلي يوجه سلوكه في الازمات وقادر علي الشك فيما حوله واختبار نماذج اخري ربما يجد فيها حلا لازمته الراهنه.
فكوبرنيكس باستخدامه ذلك العقل اثبت ان الصورة المنقولة عبر التصورات الدينية المسيحية لم تكن كافية للرد علي كثير من التساؤلات التي تكاثرت علي النموذج الفلكي الديني القديم. وخواص البازلاء الوراثية لم تعد ثابته بل يمكن تغييرها وتظل ايضا ضمن نعم الله علي المؤمن وغير المؤمن ليستفيد الجميع منها. تجارب الرجل بشجاعته لاختبار نعم الله بمحاولة كشف اسرار نموذج النبات جعلت مجدي يعقوب الان قادرا علي تركيب صمامات للقلب من انسجه مصنعة خارج الكائن لعضوي وكسلعة طبية تباع باسعار السوق. وهو ذاته النموذج الراسمالي الذي غير نمط الانتاج الاقطاعي حيث اصبح انتاج المصنع والمؤسسة قابلا للتداول للجميع وبذات السعر في ذات السوق دون تمييز بين البشر. والنموذج العام هو ان يكون للبشر تساو قانوني عادل امام الدولة التي نشات ليتساوي الجميع امامها ويحق للجميع ان يتولوا فيها السلطة عبر ذلك الشئ السحري المسمي الديموقراطية.
بهذا اصبحت الديموقراطية تسري في كل شريان في المجتمع واصبحت حمايتها ضرورة لها الاولوية وحقوق ملكيتها واستخدامها ليست حكرا علي احد وليس استخامها مؤقت لاعادة نفيها وسلب المجتمع منها إذا ما تحقق المطلوب. النموذج العالمي إذن يختلف تماما عن نموذجنا. فنموذجنا ياتي بالديموقراطية كقيمة مضافة مؤقتا وفي اسوا الاحوال كقيمة تم اعتبارها قرضا حسنا يرد الي صاحبه او الاستغناء عنه بمجرد انتهاء صلاحيته بعد الوصول للحكم. الديموقراطية عندنا كالقص واللزق تتداول حسب الحاجة وليست كالماء والهواء.
الفارق بين النموذجين جعل المحكمة الدستورية العليا في تركيا تقف بصرامة ضد اكمال ترشيح رئيس اسلامي ولو كان منحازا الي العلمانية. الحكم يحمل اكثر من معني لحماية العقل الانساني الذي انجز كل الحضارة الحديثة بحماية حقه في التمرد علي فكرة النماذج القديمة بمنع وصول نموذج غايه في القدم لمجرد ان الديموقراطية اتت به، وهو تناقض في الاداء الديموقراطي شانه شان أي شئ يحمل نقيضه داخله.
فالحماية أساسها الوقوف ضد اعادة زرع اكثر امراض المنطقة شراسة وحاولت قوي الاستبداد الديني التي سادت طويلا باعطائه قدسية حسب مرجعية تقول ” شر الامور مستحدثاتها وكل مستحدثة بدعة وكل بدعة ضلاله وكل ضلاله في النار”. الديموقراطية طبقا لهذه المقولة بدعة وضلاله. لكن الاصولية مستعده للصق واللزق مؤقتا لهذه الضلالة وليس بنفي قكرة البدع والضلالات.
فهل مركزية الشمس وقوانين الوراثة وكشوف علم النفس والتكنولوجيا الحديثة ودولة المحاسبة ضلاله ام الانحياز الي نموذج قديم والدفاع عنه باستيراد مؤقت للديموقراطية هي ذاتها الضلاله؟
elbadryk@gmail.com