لا يمكن للاستبداد أن يدوم. لهذا السبب، فحينما يحصل الانفجار في هذه الكيانات المصطنعة، تتهاوى الدولة وينفرط عقدها لتظهر مكوّنات وأطباع المجتمع على حقيقتها.
قبل مدّة أفادت أنباء واردة من العراق أنّ حوالي نصف مليون إيراني قد اقتحموا المعابر ودخلوا الـ”حدود“ العراقية ذاهبين باتّجاه كربلاء لإحياء أربعينية الحسين. ماذا تعني هذه الأنباء؟
إنّ دلالة هذا الحدث واضحة للعيان، وهي تعني أمرًا واحدًا يتلخّص بمحو تلك الخطوط المسمّاة حدودًا بين الدّول المصطنعة التي رسمها الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية. إنّها الدلالة ذاتها التي جعلت تنظيمًا مثل «داعش» أن يتسلّل عبر حدود السلطنة الإردوغانية ويمحو الحدود الفاصلة بين العراق وسورية. إنّها الدلالة ذاتها أيضًا التي دفعت تنظيمًا آخر مثل «حزب الله» إلى اختراق الحدود بين الكيان اللبناني المصطنع والعبور إلى سورية لمناصرة نظام الأسد.
والأسئلة التي لا مناص من طرحها في هذا السياق هي: متى، كيف ولماذا تحصل كلّ هذه الأحداث في هذه البقعة من الأرض؟ للوهلة الأولى تبدو الأمور شديدة التعقيد. غير أنّ الإجابة على كلّ هذه التساؤلات هي في غاية البساطة، ولأجل الوصول إلى إجابات ما على المرء إلاّ يستعدّ للنظر بعين بصيرة، وفوق كلّ ذلك بوضع النقاط على الحروف المبهمات دون اللفّ والدوران في خانة الشعارات التي أكل عليها الدهر وشرب حتّى أتخمت أذهان أصحابها.
صحيح أنّ دول العالم أجمع بحدودها الراهنة هي دول مصطنعة، وقد ارتسمت حدودها بعد صراعات وحروب طويلة. غير أنّ أمرًا مائزًا يفرق بين دول هذه المنطقة وبين الدول الوطنية الحديثة. هذا الأمر له علاقة بالانتماء الإثني والطائفي والقبلي وبهوية الأفراد في مجتمع بشري ضمن حدود المكان في دولة عصرية. وفوق كلّ ذلك له علاقة بطبيعة النظام الذي يتقدّم، يتزعّم ويتسيّد على البشر والشجر والحجر.
جزيرة العرب هي مهد «العروبة»، بمعنى طبيعة الأفراد المنتمين إليها إثنيًّا وثقافيًّا. لقد خرج العرب من الجزيرة العربية، قبل الإسلام وبعده، مكتسحين مناطق شاسعة في الجوار ومستوطنين فيها. إنّ الخروج من الجزيرة العربية لم يشكّل بأيّ حال خروجًا من الطبيعة البريّة والصحراوية للأفراد. إنّ طبيعة هؤلاء الأفراد بقيت متشبّثة بنعراتها القبلية الصحراوية في جغرافيا ليست صحراوية. لقد حملت تلك القبائل العابرة لحدود الجزيرة كلّ ما ورثته من الصحراء إلى مواقعها الجديدة. بكلمات أخرى، هكذا حملت تلك المجموعات أطباع التصحّر معها زارعة ايّاه في بيئتها الجديدة.
جدير بالتذكير أيضًا أنّ هذه الأطباع لا تختفي حتّى لدى المهاجرين آلاف الكيلومترات وراء البحار. بهذا السياق، يمكن العودة إلى رواية لطيفة مستندة إلى مشاهدات الكاتب اللبناني أحمد بيضون عن جالية لبنانية واحدة في الولايات المتحدة. والكتاب يُقرأ من عنوانه، كالقول الشائع، فقد وسم الكاتب روايته الصغيرة واللطيفة هذه بعنوان: «بنت جبيل ميشيغان». إذ إنّ عدد المهاجرين من هذه البلدة اللبنانية والموجودين في أميركا هو أكبر من عدد سكّان البلدة في لبنان. والمضحك في الأمر أنّ هؤلاء المهاجرين والمتحدّرين من هذه البلدة قد نقلوا معهم إلى ما وراء البحار كلّ العلاقات التي كانت قائمة في الوطن الأصل بين عائلات تلك البلدة. بكلمات أخرى، لا الزمان البعيد ولا المكان البعيد قد قضى على تلك الأطباع المتجذّرة فيهم. وعلى ذلك قس، فيما يتعلّق بسائر الجاليات العربية في أنحاء العالم.
وهكذا، فإنّ الكيانات العربية المصطنعة، ورغم الشعارات الرنّانة التي ملأت الأثير في هذا المشرق عن الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة، وما إلى ذلك من سجع بلاغي يدغدغ العواطف، لم تفلح في بناء دولة وطنية عابرة للنعرات القبلية والطائفية والإثنية. إنّ هذا الفشل، الوطني من جهة أولى والعروبي من جهة أخرى، مردّه إلى انعدام الصدق في التوجّهات، شعارًا وممارسة في آن معًا.
لقد حاولت الشعارات أن تُخفي خلفها كلّ تلك الممارسات الخارجة من القبلية المتصحّرة، غير أنّ جمهرة المواطنين في تلك الأقطار كانت تعرف حقيقة زيف تلك الشعارات وتشعر بحقيقة ممارسات تلك الأنظمة على جسدها. لقد شكّل الاستبداد في يد المستبدّ صمغًا واهيًا فقط، ويحاول بعسكره ومخابراته أن يلصق مجتمعات مكبوتة لم تخرج بعد من طورها القبلي. وفي الحقيقة، كيف لها أن تخرج من الطور القبلي إذا كان الحاكم في صميم سلطته قبليًّا من ألفه لى يائه.
ليس هذا فحسب، بل إنّ كلّ الّذين أشبعوا الناس شعارات ليبرالية ويسارية كانوا في حقيقة الأمر جزءًا من هذه المنظومة الفاسدة. لقد شكّل هؤلاء جوقة زاجلة وداجلة دعمًا لأنظمة الاستبداد هذه. لهذا السبب، لم تفلح هذه التيارات في الدخول إلى أفئدة الناس بغية خلق بديل عصري لهذه المجتمعات، بل ظلّت في نظر العامّة وبحقّ في خانة الأنظمة المستبدّة.
لا يمكن للاستبداد أن يدوم. لهذا السبب، فحينما يحصل الانفجار في هذه الكيانات المصطنعة، تتهاوى الدولة وينفرط عقدها لتظهر مكوّنات وأطباع المجتمع على حقيقتها. هكذا، تختفي الحدود الفاصلة بين الكيانات وتظهر الشيع والقبائل المتناحرة العابرة لكلّ هذه الحدود التي رسمها الاستعمار. هذه هي الحال التي نشاهدها اليوم في هذه البقعة من الأرض.
وقد يسأل سائل، فما العمل في هذه الظروف؟
الخروج من هذه الحال ليس بالأمر السهل. لكن، وابتغاء البدء في مداواة هذا الداء، علينا جميعًا الاعتراف أوّلاً بهذه الحقائق التي انطبعت عليها مجتمعاتنا منذ القدم. ثانيًا، يجب وضع مبادئ وأسس تُجمع عليها المكوّنات البشرية لهذه المجتمعات. لا يمكن البدء ببرنامج العلاج إلاّ على أساس من الإجماع الدستوري بطمأنة المركّبات الطائفية والإثنية في هذه الكيانات. رأس الحكمة في هذه الطمأنة هو مبدأ فصل الدين، كلّ دين، عن الدولة. ثمّ يأتي مبدأ تداول رئاسة الحكم بين المركّبات الطائفية لهذه المجتمعات، بحيث لا تتجاوز الرئاسة دورتين انتخابيّتين، أي ثماني سنوات فقط. هذا في حال حصل الرئيس على ثقة الجمهور بسبب إنجازاته، ثمّ يُحال بعدها الرئيس إلى التقاعد، بلا لفّ أو دوران. وهنالك بالطبع أمور أخرى ليس هنا المجال لتفصيلها.
إنّ من يرفض القبول بهذه المبادئ الأساس للحكم لا يمكن الثقة بنواياه، ومعنى ذلك أنّ الاحتراب الطائفي والقبلي في هذه المجتمعات لن يتغيّر وسيظلّ عاملاً مركزيًّا في تشتّت هذه المجتمعات وشرذمتها. ومعنى ذلك أيضًا أنّ الدماء ستسيل بين فترة وأخرى، قد تطول وقد تقصر.
لقد آن الأوان لخروج هذه المجتمعات من ظلمائها إلى النور المعاصر.