سمير فرنجية ليس آخر الرجال المحترمين (والتعبير لفيلم لعب فيه نور الشريف دور أستاذ مدرسة في الصعيد المصري ياخذ الصف في رحلة إلى القاهرة حيث تختطف طالبة من أمام برج القاهرة) ولكنه أحدهم دون شك، وهم ما زالوا كثر في لبنان والمنطقة عامةً وليس في صفوف 14 آذار فقط.
لم يكن المجلس الوطني الذي أنتخب سمير فرنجية رئيساً له سوى آخر اكتشاف للثنائي فارس- سمير. ذلك أن أزمات ثورة الأرز، ومنها بالطبع أزمة العلاقة بين جمهور هذه الثورة العريض والمتنوع وبين الأحزاب المشاركة، التي بدأت عملياً منذ أن تدفق مئات ألوف اللبنانيين إلى ساحة الحرية في ظاهرة استثنائية، ظهر فيها المتدفقون ولو ليوم واحد أنهم موحدون وأنهم لبنانيون أولاً وأساساً، وشكلت شعارات الحقيقة في اغتيال الحريري والمطالبة بخروج الجيش السوري أحد تجليات الخلطة الجماهيرية الرائعة، رغم المضمرات المختلفة التي لعبت أدواراً أساسية أو ثانوية في هذا الحشد الغير مسبوق.
فكيف لأحزاب وتيارات طائفية بالإجمال، وإن كانت سيادية، أن تستوعب هذا الكم الغاضب ودلالاته خصوصاً في بلد كلبنان مصاب بلعنة الموقع، علما أن الزخم وقوة الدفع للجماهير المتدفقة أججها خطاب السيد نصر الله في الحشد الكبير في ساحة رياض الصلح في 8 آذار 2005 والذي يلخص بالقول، الأمر مازال لنا رغم حزنكم وغضبكم ومظاهر الالتفاف حولكم، هل نتفاجئ بعد ذلك أن يختار القتلة مجددا سمير قصير صاحب شعار الانتفاضة على الانتفاضة ثم العلماني جورج حاوي ثم جبران تويني صاحب شعار سنبقى موحدين بعد محاولة فاشلة مع الصحفية الجريئة مي شدياق، ثم تكر السبحة لتطال الوزير الكتائبي المتنور بيار الجميل وآخرين وصولا لرئيس شعبة المعلومات وسام الحسن والسياسي الحداثي المتميز محمد شطح.
لن نستعيد الأحداث والتطورات السياسية في العشر السنين الأخيرة في لبنان والمنطقة، إلا أننا نذكر بالعناوين والمحطات الرئسية التي أتت بعد الأغتيال وتشكيل حكومة السنيورة الأولى.
- حرب 2006 والتي مكنت حزب الله وراعيه الإيراني من تغيير ميزان القوى داخليا ولو على جثت اللبنانيين، الشيعة منهم خصوصاً، وثبتت دويلة الحزب التي تمددت في محاولة للسيطرة على قرار البلد وصولا ل7 أيار وتداعياته، خصوصا على طرابلس وخزان 14 آذار البشري.
- المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومجرياتها والدور الكبير الذي لعبته وماتزال في السياسة اللبنانية.
- الانتفاضات العربية الفريدة والتي تحولت إلى أزمات دامية ونزاعات أهلية يختلط فيها الطائفي والمذهبي والإتني، خصوصاً في سوريا والعراق بفعل العوامل الإقليمية والدولية ومن ثم تحولها إلى مطحنة جيو- سياسية.
- انشقاق القاعدة وهبوب العاصفة الداعشية ونمو المجموعات الإسلامية المتطرفة بموازاة وبمواجهة التطرف الشيعي وعلى خلفية تصاعد منسوب المظلومية السنية عموما، وتراجع القوى والمجموعات المعتدلة والتي شكلت السمة الأبرز لانطلاق الربيع العربي الذي ووجه بالقمع العاري في سوريا خصوصا.
- تدخل حزب الله وغيره من الميليشيات مع النظام السوري الفئوي بإشراف إيراني ودعم روسي، ما ساهم في تأجيج الجانب المذهبي في الصراعي الإقليمي وفي رفع وتيرة النزاع السني الشيعي في لبنان، فضلا عن تورم أزمة اللاجئين وتداعياتها المختلفة وهي مرشحة لمزيد من المضاعفات، خصوصا مع اقتراب معركة دمشق وانهيار النظام السوري دون تسويات سياسية.
- موقف المجتمع الدولي والولايات المتحدة خصوصاً لجهة توظيف هذه الصراعات وإذكاء بعضها ومقاربة النووي الإيراني والعلاقات مع إيران عموماً ومسألة الإرهاب من منظار المصالح الباردة التي لاتقيم وزنا للحقوق والحريات ولا تحركها المآسي والويلات مهما اشتدت، فضلا عن استهتارها بصالح العرب عموما ومصالح حلفائها في الخليج خصوصا.
وللتذكير فإن الولايات المتحدة استغلت هلاك الاف السوريين بالأسلحة الكيميائية لعقد صفقة نزع هذه الأسلحة بدعم روسي تطمينا لإسرائيل وإنعاشا مؤقتا للنظام السوري، ما أدى إلى انتعاش القوى المتطرفة على حساب قوى الإعتدال وازدياد همجية النظام في آن. ومن حينها ونحن نشهد تراجع الجيش الحر والقوى الليبرالية.
- قضية الأقليات ومقارباتها المختلفة والتي تتحول بفعل الاستبداد من جهة والتطرف بضفتيه السنية والشيعية من جهة أخرى وبفعل التوظيف السياسي الدولي والإقليمي، خصوصا والإيراني الإسرائيلي والتركي إلى عوامل تفجير إضافية، علما أن أداء المدافعين عن نظرية تحالف الأقليات يؤدي إلى زيادة المآسي عند الجميع، خصوصا عند الأقليات. أليس من المفارقة والعبث ان تندب بعض القوى المسيحية هجرة وآلام مسيحيي العراق وسوريا بينما تعمل على تعطيل بعض مؤسسات الدولة بدءا برئسها وهو الرئيس المسيحي الوحيد في المنطقة؟علما أننا لا نعفي الأحزاب المسيحية في 14 آذار من المسؤولية، خصوصا بالنسبة لمجلس النواب وتشريع الضرورة ومشروع القانون الأرثوذوكسي المسخ ومهزلة الإستطلاع وغير ذلك، ومسايرة بعض طروحات الفدرلة وإن بلغة مزدوجة واوهام استيعاب مسيحيي الشرق عند البعض.
بالعودة إلى أزمة 14 آذار في شقها التنظيمي(والذي يعكس بالواقع أزمة بنى أحزابها الطائفية والسياسية والفكرية، فضلا عن أزمة العمل الديمقراطي والعمل السياسي العابر للطوائف عموما) نشير إلى أن الأمانة العامة لم تستطع أن تمتص سوى جانباً من الأزمة، رغم أنها تكونت في البداية من مستقلين وعلمانيين واصحاب سوابق يسارية، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى شبه مكتب للأحزاب، ما جعل منسقها أسير تناقضات ومواقف وأزمات هذه الأحزاب.
الجمهور الأوسع لـ14آذار مصاب بالإحباط عموما،ً ومن المبالغة تحميل الأحزاب فقط
المسؤولية، إذ حينها سنعتقد أن المجلس الوطني “سيشيل الزير من البير” وهو ما ليس
صحيحاً ولا اعتقد أن أحداً ممن عمل على إنشائه يراهن على ذلك، فالنقاش بدأ باكرا حول وظيفته وأهدافه وعلاقاته بالأحزاب والأمانة العامة والمجتمع المدني ومكونات المجتمعين اللبناني والعربي عموما.
دعونا نتفق منذ البداية على أن المجلس يريد أن يحاكي لحظة 14 آذار 2005 باعتبارها لحظة وطنية ديمقراطية شاركت فيها جميع المكونات، بما فيهم قسم كبير من المكون الشيعي، ما جعلها إلى حد كبير لحظة عابرة للطوائف وحتى للفئات والمناطق، وهذا ما تكرر لاحقا في معظم الانتفاضات العربية قبل أن يخرج العسس والعفن من مجتمعات مأزومة بفعل الإستبداد والدكتاتورية وجمود الفقه، وبفعل تداعيات العولمة والنيوليبرالية وأسواق فالتة من عقالها ونخب فاسدة حولت الفساد من آفة إلى ثقافة.
هي هذه اللحظة التي يجب على المجلس الوطني إعادة التقاطها باعتبارها نقطة إجماع ومن ثم التواصل مع ما يشبهه في البلدان العربية الأخرى، وخصوصاً في سوريا حيث يقترب الوضع من لحظة الحقيقة التي ينتظرها الجميع ويخشى تداعياتها الكثيرون، خصوصاً إذا حصلت دون ترتيبات سياسة مرعية، إذ قد تؤسس لفوضى عامة تؤدي لمزيد من القتل والدمار والتفكك وربما الفدرلة والتقسيم.
هل سينجح المجلس العتيد في التقاط اللحظة ومن ثم إعطاء جرعة أمل للمحبطين؟هل يمكن ان يجتذب جانبا من المكون الشيعي ومكونات مسيحية وغير مسيحية جديدة؟ وهل سينجح بالتواصل مع فئات معتدلة ومستقلة في سوريا وفي غيرها من البلدان العربية بما يقوي جبهة الإعتدال العربية بمرحلة التحولات الكبرى، وبتعبير آخر هل سيساهم في إدارة جبهة الإعتدال العربية بمواجهة جبهات التوحش الذي تتقاطع على إدارته قوى التطرف والإستبداد وقوى إقليمية ودولية؟ هذه مسائل مرتبطة بقدرة قيادة ومكونات المجلس على التفاعل مع التحولات المذكورة، خصوصا لجهة النجاح باستنهاض جماهيري واسع لحماية البلد ومؤسساته المعطلة من التداعيات، علما أن المجلس يمكن أن يتحرر من الإعتبارات الفئوية والزبائنية والمذهبية في مقاربة الأزمات والقضايا الحياتية خصوصا، ما يستدعي إيجاد وسيلة لتنظيم النغم بين صرخة الإقتصاديين في البيال وصرخة هيئة التنسيق وبقية القطاعات والمكونات في الشارع. حينها سيشكل المجلس جاذبا لفئات متنوعة وواسعة من المجتمع المدني هي بالإجمال محبطة ومربكة وتخترقها أمراض معظم النخب بما فيها نخب الطبقة السياسية، رغم تمتع قسم كبير منها بالحيوية وبعض الفعالية.
لنعترف أن احزاب 14 آذار تعاني من أعطاب شتى، رغم مواقفها الإجمالية السيادية وتأييدها لإنتفاضات الربيع العربي وقوى الإعتدال والتنوع فيها والأثمان التي دفعتها نتيجة هذه المواقف. ومع أن هذه الأعطاب ستظهر إشكالية العلاقة بين المجلس والأحزاب التي لن تهضم مستوى عال من الإستقلالية، رغم وجود ضابط إيقاع الأمانة العامة، إلا أن المجلس يمكن أن يؤدي لتحسين أداء قوى 14 آذار عموما، خصوصا إذا استطاع استحضار الجمهور السيادي واختراق الجمهور الآخر.
المجلس الوطني ليس حزباً ولن يكون بديلاً عن تشكيل أحزاب سياسية عابرة للطوائف في مراحل لاحقة. ربما يساهم في إعادة إطلاق الحركة الديمقراطية الحزبية المباشرة، وبهذا المعنى فإن المجلس هو تأسيسي وانتقالي في آن خصوصاً أنه لن يستطع اجتذاب فئات واسعة من الشباب،عصب التغيير، في مراحله الأولى التي ستقوم على تجميع بعض المستقلين وأصحاب السوابق اليسارية، بمراقبة لصيقة ومزعجة!
لم تقبل مديرية أمن القاهرة بالبحث عن الطالبة المخطوفة وحين قال لهم نور الشريف أن ملك
السويد ووزير داخليته بحثا شخصيا عن صبية فقدت في بلده أجابه الضابط المسؤول “إذهب إذن وابحث عنها في السويد”. ترى اليس مثيرا أن نعرف ماذا يمكن أن يفعل سمير فرنجية والمجلس الوطني في بلد مخطوف بالجملة، علما أن الخاطف معروف؟ لن نحسده على هذه المهمة، بل سندعو جميع المنكفئين والمشككين والمحبطين إلى مد يد العون، وهو قطعا بحاجة إلى إياد كثيرة.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس- لبنان