اليوم يجلس في قصر «ملاقانيان» الرئاسي بمانيلا منذ عام ونيف رئيس حازم وصارم إسمه «رودريغو دوتيرتي» ينحدر من جزيرة ميندناو الجنوبية ويتفاخر بأن أجداده كانوا من المسلمين. هذا الرئيس ربما كان الوحيد بين أسلافه الذي اعترف علانية وبلغة صريحة في أواخر نوفمبر المنصرم بأن «ظلما تاريخيا» لحق بمسلمي الفلبين، وأنه يتعهد بتصحيح الخطأ وإحياء عملية السلام المجمدة، لتجنب وقوع أعمال عنف أسوأ من تلك التي شهدتها مدينة مراوي (أهم مدينة مسلمة في إقليم ميندناو وكانت على مدى الأشهر الخمسة الماضية مسرحا لقتال عنيف بين قوات الجيش والشرطة من جهة ومسلحين مسلمين متشددين من جهة أخرى أسفر عن 1100 قتيل ودمار هائل في البنى التحتية)، بل وأيضا لقطع الطريق على جماعات العنف والتوحش الداعشية من تأسيس موطئ قدم لها في الفلبين في أعقاب خسارتها لمعاقلها الشرق أوسطية. ومما تعهد به الرئيس دوتيرتي أيضا عقد جلسة خاصة للكونغرس الفلبيني لتمرير قانون حول السلام في جنوب البلاد بحضور مختلف الأطراف المعنية. غير أن الرئيس الفلبيني أكد من جهة ثانية ضرورة المحافظة على الجمهورية، الأمر الذي فسره المراقبون بأن أي حل يجب أن يكون ضمن إطار الدولة القائمة. وبعبارة أخرى إمكانية قبول مانيلا بمنح الحكم الذاتي لمسلمي البلاد دون منحهم الحق في الإنفصال.
هذا التعهد غير المسبوق من زعيم فلبيني يغرينا بفتح ملف المطالب الإنفصالية في أقاليم الفلبين الجنوبية والصراع المسلح الدائر بشأنها، بهدف تبيان ما حدث من تطورات في القضية أولا، ثم لإستعراض عدد من العوامل التي حالت دون تحقيق السلام المنشود.
المعروف أن «حركة مورو للتحرير الوطني» دخلت في صراع مسلح مع حكومة مانيلا منذ عام 1972 من أجل إقامة دولة منفصلة في جنوب الفلبين للأقلية المسلمة، تارة بحجة هيمنة المسيحيين الكاثوليك على مقدرات المسلمين وممارسة التمييز ضدهم، وتارة أخرى بحجج تاريخية مفادها أن هذا الجزء من الفلبين كان في قرون ماضية دولة مستقلة وتم إلحاقها بجمهورية الفلبين الحالية عنوة ودون إرادة أهلها.
ورغم المحاولات والوساطات الكثيرة التي بـُذلت في أوقات مختلفة من جانب بعض الدول الإسلامية مثل ليبيا والمملكة العربية السعودية واندونيسيا أو من جانب تجمعات إقليمية مثل تكتل آسيان ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ورغم الاتفاقيات العديدة التي وقعت ما بين المتمردين وحكومة مانيلا لوقف إطلاق النار أو لتنفيذ برنامج يؤدي إلى تمتع الجنوب الفلبيني بالحكم الذاتي في إطار الدولة الفلبينية (مثل اتفاقية طرابلس الغرب لعام 1986 واتفاقية جدة لعام 1987 واتفاقية جاكرتا لعام 1995 )، فان الأوضاع لم تستقر والمواجهات المسلحة بين المتمردين وقوات الجيش الفلبيني لم تتوقف، وخطط تنفيذ الحكم الذاتي وتنمية المنطقة راوحت مكانها.
ويمكن أن نعزي الفشل هنا إلى عدة عوامل من بينها:
أولا: الاختلاف حول طبيعة الحكم الذاتي وحدوده الجغرافية، وحول وضع ملايين المسيحيين في الجنوب والذين يعيشون مع المسلمين في مقاطعات ومناطق متداخلة.
ثانيا: انعدام الثقة ما بين الطرفين المتحاربين ولجوء كل طرف إلى إتهام الطرف الآخر بسوء النية.
ثالثا: وجود ضغوط على السلطة المركزية في مانيلا من قبل الأغلبية المسيحية ومؤسسة الجيش لعدم التساهل مع مطالب المتمردين واعتبار أي تساهل بمثابة خيانة لدماء القتلى من المدنيين والعسكريين، ودليلنا هنا هو أن الكونغرس الفلبيني تهرب من سن التشريعات الكفيلة بتنفيذ إتفاقية سلام تم التوصل إليها في عام 2014.
رابعا: إختلاف المتمردين أنفسهم حول حدود التنازلات وصيغ الحل مثلما يحدث دائما في الحركات المسلحة حينما تبرز فرص السلام، فتقبلها مجموعة معتدلة وترفضها أخرى متشددة. وأفضل دليل على هذا الشق هو ما حصل في عام 1996 حينما وقعت مانيلا اتفاقية جيدة مع زعيم حركة مورو للتحرير الوطني البروفسور «نور ميسوري» فانشق بعض رفاقه عنه رافضين الاتفاقية ومشكلين «جبهة مورو الإسلامية» بقيادة «سلامات هاشم الذي توفي عام 2003 وخلفه قائد التنظيم الحالي الحاج مراد إبراهيم، وذلك بهدف مواصلة الكفاح المسلح حتى نيل كامل مطالبهم المتمثلة في إقامة كيان مستقل. والمفارقة أن مارفضته «مورو الإسلامية» قبل سنوات عادت لتقبل به اليوم، وهو ما يذكرنا بما حدث على صعيد القضية الفلسطينية مثلا.
خامسا: ظهور حركة «أبو سياف» الهوجاء على الساحة وركوبها موجة الدفاع عن حقوق مسلمي الفلبين وقيامها بتخريب السلام الهش في بعض المناطق عبر ممارسة الابتزاز والتهديد و خطف الأجانب، علما بأن قادة هذه الحركة أعلنوا مؤخرا مبايعتهم لزعيم تنظيم داعش الإرهابي «أبوبكر البغدادي» الذي رحب بالخطوة وعدّها بداية لتأسيس دولة الخلافة في جنوب شرق آسيا.
سادسا: التدخلات السلبية لبعض الدول في القضية. فعلى سبيل المثال قامت ليبيا زمن نظام الجماهيرية البائد بالوساطة بين حكومة الرئيس الأسبق ماركوس والمتمردين المسلمين، لكنها في الوقت نفسه كانت تقدم الدعم لزعيم حركة «أبوسياف» المدعو «القذافي جنجلاني»، الأمر الذي مكن هذه الجماعة المتطرفة من البروز والتخريب وإفشال جهود السلام.