ينعقد في واشنطن هذه الأيّام مؤتمر تحت عنوان “الدفاع عن المسيحيين”. في المعلن، يستهدفُ المؤتمر حماية المسيحيين في الشرق، خصوصا بعد كلّ ما تعرّضوا له، أخيرا، من تهجير في العراق على يد “داعش”، أي الدولة الإسلامية في العراق والشام.
خيّر “داعش”، بعد احتلاله مدينة الموصل، المسيحيين المقيمين فيها وفي القرى المجاورة بين الجزية وإعلان إسلامهم.. والهجرة. فضّل معظمهم الهجرة. انتقل كثيرون إلى كردستان العراق، فيما قبلت الدول الأوروبية، على رأسها فرنسا، بضع مئات من المسيحيين العراقيين استقبلوا كلاجئين في بلد لا يعرفون لغته، كما يصعب عليهم التكيّف مع بيئته. كثيرون لجأوا أيضا إلى لبنان، حيث بذلت جهات دينية ومدنية جهودا كبيرة من أجل التخفيف من المعاناة ومن تلك المأساة الإنسانية.
عامل “داعش” المسيحيين بطريقة أفضل من معاملته الشيعة من أبناء المنطقة التي سيطر عليها، أو الإيزيديين وحتّى من بعض السنّة من بين الذين اعترضوا على تصرفات أفراد تنظيم لا يمكن وصفه بأقلّ من متخلّف وإرهابي.
لا شكّ أنّ المطلوب أكثر من أيّ وقت التصدي لـظاهرة “داعش” من دون تجاهل الظروف التي أدّت إلى نشوء هذا التنظيم، وانتشاره كالنار في الهشيم. هل كان “داعش” سيحقّق الانتصارات التي حقّقها، والتي مكنّته من تهديد أربيل لو كانت هناك حكومة عراقية قادرة على الوقوف على مسافة واحدة من جميع العراقيين، بدل إثارة كلّ أنواع الغرائز المذهبية والقومية بأبشع الطرق والوسائل؟
لم يكن ممكنا لـ”داعش” التقدّم في أية منطقة عراقية، وقبل ذلك في سوريا لولا حكومة نوري المالكي في العراق ونظام بشّار الأسد في سوريا. كان هناك رهان على “داعش” شاركت فيه غير جهة، بما في ذلك حكومة نوري المالكي ومن خلفها إيران، من أجل تصوير الثورة السورية بأنّها تهديد للأقلّيات، من منطلق أنّ النظام السوري كان حاميا للأقلّيات وللمسيحيين تحديدا.
من استخدم “داعش” منذ البداية، أي قبل تشكيل حكومة المالكي، كان النظام السوري الذي أراد ابتزاز الأميركيين في العراق بعد العام 2003. كان النظام السوري من أخرج الداعشيين على دفعات من سجونه كي يرسلهم إلى العراق، ثمّ ليقول للعالم، بعد السنة 2011، أنّ السوريين الذين انتفضوا في وجه الظلم مجرّد “إرهابيين” وأنّ حربه ليست على شعبه، بمقدار ما أنّها على الذين يريدون القضاء على الأقلّيات.
من هنا، لا يمكن في أي شكل أخذ مؤتمر واشنطن على محمل الجدّ. من يتمعّن في اسمين من بين الذين يشاركون في تنظيم المؤتمر (السوري الأصل جمال دانيال واللبناني جيلبير شاغوري) يكتشف أنّ الهدف من المؤتمر ليس حماية المسيحيين في الشرق، والتأثير في الرأي العام الأميركي. الهدف من المؤتمر السعي إلى إعادة تأهيل النظام السوري، الذي كان أوّل من اضطهد المسيحيين في سوريا ولبنان. هل من لبناني يمتلك بعض الذاكرة يمكن أن يتجاهل إغراق النظام السوري لبنان بالسلاح، من أجل تحويل المسيحيين فيه إلى مجرّد طائفة تعمل في خدمة حافظ الأسد؟
من سلّح الفلسطينيين في لبنان كي يهاجموا المسيحيين؟ من سلّح قبل ذلك المسيحيين من أجل تعبئتهم في وجه المسلمين، وفي وجه الفلسطينيين الذين ارتكبوا وقتذاك الفظاعات؟ من هجّر معظم مسيحيي الأطراف من قراهم؟ من ارتكب مجازر القاع والدامور والعيشية وعشرات المجازر الأخرى التي استهدفت مسيحيين؟ من حاصر زحلة وحاول إفراغها من سكانها؟ من قصف الأشرفية طوال مئة يوم؟ من طوّق زغرتا وحاول الإيقاع بينها وبين محيطها؟ من سهّل اغتيال طوني فرنجية وأفراد عائلته؟ من اغتال بشير الجميّل ورينيه معوّض؟
هناك عشرات الأسئلة التي يمكن طرحها عن دور النظام السوري في السعي إلى جعل مسيحيي لبنان عبيدا لديه، وذلك بعد جعل مسيحيي سوريا الذين تناقص عددهم منذ العام 1970، يسعون إلى أن يكونوا في حماية العلويين وتحت رحمتهم.
من يريد، بالفعل، الدفاع عن مسيحيي الشرق لا يستطيع تجاهل الدور الذي لعبه النظام السوري في تهميش مسيحيي سوريا، والسعي إلى وضع اليد على مسيحيي لبنان. استفاد النظام السوري إلى أبعد حدود من الأخطاء التي ارتكبتها القيادات المسيحية في لبنان، لكنّ حليفه الأوّل والأخير كان دائما شخص أرعن اسمه ميشال عون.
استغلّ النظام السوري ميشال عون إلى أبعد حدود عندما كان خصما له وعندما صار حليفا له، أي أداة مسيحية عند “حزب الله” الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، الذي يشارك مشاركة فعّالة مباشرة وعبر آخرين في عملية تفتيت سوريا والقضاء على مسيحييها.
من حقّ مسيحيي العراق إيجاد من يدافع عنهم وعن قضيّتهم، التي هي قضية العراق وجزء من مأساته.
كذلك، ثمّة ضرورة ملحّة للبحث في وضع مسيحيي الشرق الذين لا تحميهم إلّا الدولة العادلة التي لا تميّز بين مواطنيها، على غرار ما كان عليه لبنان في الماضي القريب قبل أن يبدأ النظام الأقلّوي في سوريا إشعال الحرائق فيه وقتل كبار رجالاته، بدءا بكمال جنبلاط، وصولا إلى رفيق الحريري.. وتلك الكوكبة من خيرة اللبنانيين التي استهدفت بعده.
لكنّ ذلك ليس ممكنا عن طريق مؤتمر يسعى إلى استغلال جرائم “داعش” من أجل إعادة تأهيل النظام السوري والقوى التي تدعمه والترويج لحلف الأقليات. فالذين يقفون خلف المؤتمر، بمن في ذلك ممثلو الفاتيكان فيه، معروفون بتوجهاتهم ودعمهم لنظام يعتقد أنّ لعبة “داعش” كفيلة بإعادة الاعتبار إليه، خصوصا في ظلّ وجود إدارة أميركية لا تعرف شيئا يذكر عن الشرق الأوسط، أو عن مسيحيي الشرق.
نعم، ثمّة حاجة إلى اجتثاث “داعش”. لكنّ هناك، في الوقت نفسه، حاجة إلى الذهاب بعيدا بعض الشيء، ومحاولة فهم هذه الظاهرة الغريبة التي لا يمكن القضاء عليها في غياب حكومة شراكة وطنية في العراق من جهة، وسقوط للنظام السوري من جهة أخرى.
كلّ ما تبقى إضاعة للوقت ومناورات سياسية مرتبطة، إلى حدّ كبير، بصفقات يُتاجر من خلالها بالمسيحيين وتفوح منها، للأسف الشديد، رائحة النفط والغاز أكثر من أيّ شيء آخر.
إعلامي لبناني