مسألة المرأة في الاسلام بالغة الدقة والصعوبة، لما يعتقده البعض من ارتباطها بالعقيدة، والتزامها النصوص. لكن، يبدو ان الاصح في معالجة هذه المسألة وكل مسألة اخري، بمنأى عن النصوص ومبعدة عن التراث. ففي هذا وذاك يجد كل حكم حكماً يقابله، او نصا يرجحه، ونصا يعارضه.
فإن قال قائل (مثلاً): ان الله غفور رحيم، رد الآخر قائلاً: ان الله شديد العقاب. وان قال القائل: ان الله يغفر الذنوب جميعاً، رد الآخر قائلاً: ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. وان قال القائل: قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا، رد الآخر قائلاً: لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم. وان قال قائل “الجنة تحت أقدام الامهات”، رد الآخر قائلاً “النساء ناقصات عقل ودين”… وهكذا.
ان النصوص والاحكام، وتفسيرها وتأويلها وتطبيقها، يتضمن نتاج عقول متغايرة، وأفكار متباينة، وأمكنة متباعدة، وأزمنة متعاورة، حتي لتكاد تشمل كل شئ ثار أو أثير، وكل أمر طرأ او استجد، فيما يبدو للبعض انه تعارض او تناقض، لكن الامور تبدو جلية والواقعات تظهر واضحة، حين يرتبط النص والرأي بالظروف التاريخية (Historical Context) وهي ظروف غير ثابتة ولا ساكنة، ولكنها بالأحري دائمة الحركة والتغير، فيما يقتضي إحداث تغير محسوب فيها، والا اضطربت الطبيعة الجارية، للمجتمعات والافراد، الى ان يتحايلوا عليها باصطناع المخارج او اللجوء الى الحيل او تدعهم تحت وطأة الجمود وسبات الممات.
في بداية التاريخ البشري، كانت المسافدة (العلاقة الجنسية بين الرجل والمراة) علاقة عابرة للرجل، لكنها كانت تؤدي – فيما لو نشأ حمل – الى ارهاق الأنثي به تسعة أشهر، تعقبها الولادة التي غالباً ما تخلّف وهنا وضعفاً للمرأة التي صارت أما، والتي تنشغل من ثم في الرضاعة والتربية، حتي يشب الوليد ويصبح رجلاً. ولربما حدث الحمل عدة مرات تؤدي كل مرة فيها الى ذات الدورة، وتصير التربية ثقلاً مهما تتولاه المرأة. خلال هذا الحمل والثقل والرضاعة والتربية، كان الرجل خفيفاً، يجري بحثاً عن الرزق في الصحاري والجبال وفي البحار والانهار.
تلك هي الفترة التي كانت الأسرة فيها تُنسب الى الأم Maternity. ومازال ذلك يظهر حين يقال: اللغة الأم Mother Language، الوطن الأم Motherland، وأمهات الحوداث The most Important events، وأمهات المسائل The main proplems، وأمهات الفضائل The Principal Virtues، وهكذا بعد ذلك، ونتيجة للتطور التاريخي نشأت مرحلة الرعي Pastoral ومرحلة الزراعة Farming، كل في مكان وكل في مجال، وبهذه المرحلة بدأت تنشأ الأسرة التي تكون ذات أب يقيم معها ومسئول عنها، وبهذا بدأت المرحلة الابوية Paternal .
ونظراً لأن هذه المرحلة استطالت كثيراً فقد بدا للغالبية من الناس انها هي الاصل، في حين انها كانت مجرد مرحلة فيه، مهما طالت واستدامت.
بدأ العصر الصناعي، في اوروبا، بثورة البخار في القرن السابع عشر. وفي بدايته كان العمل على الآلة يقتضي مجهوداً عضلياً لا يقوم به الا الرجال. وفي بعض الاحوال، في الصناعات التي لاتقتضي مجهوداً عضلياً كبيراً انفتح المجال للاطفال، ثم اتسع بعد ذلك للنساء، خاصة بعد تطور الميكنة Automation وصيرورتها في حاجة الى الانتباه لا في حاجة الى المجهود العضلي. ثم جاء التطور الاخير بأدوات التقنية Technology من حاسوبات Computers وآلات أو طائرات او اسلحة تدار بالحاسوب. وبظهور هذا العصر وانتشاره اينما كان، بدأ عصرالمساواة بين المرأة والرجل، إذ قد تكون المرأة اكثر مهارة من الرجل او أوفر عقلاً أو أعلى رتبة، وقد تصبح في بعض الظروف هي التي تسعي لرعاية الاسرة مالياً.
ونتيجة لظهور المدارس الداخلية Boarding Schools، اتخذت التربية شكلاً آخر، اذ تستطيع المرأة لو ألحقت اولادها بهذه المدارس، أن تتفرغ للعمل تماماً. والى جانب ذلك، ونتيجة لوجود عوامل كثيرة من الاحتكاك بين الشخصيات فيما لو طالت المدة في المعاشرة، فقد اتجه كثير من النساء للحصول على ولد شرعي Legitimate son تقطع بعده رابطة الزوجية، وهو ما يهدد العلاقة الاسرية تماماً.
ظهرت الشرائع الثلاث: اليهودية والمسيحية والاسلام في العصر الزراعي (والرعوي) فكانت الاحكام فيها تتلاءم وتتواءم مع الظروف التي ظهرت فيها تلك الشرائع. ولأنه يوجد لدى كثير من المؤمنين بهذه الشرائع ميل قوى لإعتبار مبادئها ثابتة لا تتغير فقد تعلقوا بها، وكان من مقتضي ذلك – بالضرورة – ان يستنكروا ما تطور اليه المجتمع، ويعتبرون انها (التطورات) تهدد المعتقدات وتهدم الايمان، لكنهم لا يفكرون ابدا في ان النصوص الدينية كانت تواجه واقعاً، ولا تثبّته، تحل مشكلة توجد بعدها مشكلة أخري تقتضي البحث عن حل آخر، لان استعمال قواعد الحل السابق قد يُفضي الى بقاء المشكلة او الى زيادة تعقيدها.
في اليهودية أدرك الاحبار اللاويون (وهم من أصل مصري) ان احكام التوراة قد تصبح مع مرور الوقت غير قابلة لتطبيقٍ يُوجد حلولاً للمشاكل والمسائل التي تستجد، فأنشأوا قواعد جديدة، وجُمعت هذه القواعد تحت اسم “التلمود” الذي يعني تعاليم الاحبار. ولكي يضفوا شرعية على تعاليم الاحبار فقد قالوا ان الوحي مستمر بعد موسى عليه السلام، يظهر في تعاليم الاحبار، أي التلمود. وفي الوقت الحالي حين يتكلم المتحدث عن التوراة، فإنه يعني التلمود، التي حلت في كثير من الاحكام محل التوراة.. ولتقديم مثل واحد من التجديد الذي أحدثه التلمود في احكام التوراة، ان هذه كانت تنهي عن ثمن الدم (الدية) وتأمر بالقصاص، اما التلمود فقد غيّر هذه القاعدة وأجاز الدية، في القتلي وفي الجروح.
في أحد اناجيل المعرفة او العرفانية (Gnosticism) قال السيد المسيح لتلاميذه (هل تعرفون علامة الله فيكم ؟ إنها الحركة) وفي القرآن عن الله سبحانه (كل يوم هو في شأن) اى إنه حركة مستمرة كل يوم وكل لحظة. وفي علم الفزياء الحديث ان كل شئ مادي يتفكك الى ذرات Atoms (والذرة غير الفتات) والذرة تنحل الى جسيمات Particles، وهذه الجسيمات ذات طبيعة خاصة، قد تبدو مادية وقد تبدو كهربية، وفيها صفات الكون الاساسية من ذاتية وحركية وشعور واتجاه الى التوحد بالكل.
يعني كل ذلك ان القواعد لا بد ان تتغير بتغير الواقعات، وان المبادئ لا بد ان تتحرك بتحرك الحياة. وفي القرآن مما يراه البعض دليلاً عن ان المرأة أدني من الرجل ولا تساويه آية، ثم عقد الزواج ونظام المواريث. فثم آية تقول (الرجال قوامون على النساء… بما انفقوا) سورة النساء:34. فالقوامة هنا منوطة بالانفاق. فإذا كان أساس القوامة هو الانفاق، فماذا لو كانت الزوجة هي التي تنفق، لثرائها او إرتفاع دخلها من العمل، او لبطالة الرجل او عجزه او مرضه ؟ هل يقال في ذاك (النساء قوامون على الرجال بما انفقوا)؟
والزواج في الاسلام عقد مدني، بمعني انه يتم بتراضي طرفين اوكلائهما دون تدخل من سلطة دينية، إذ لا سلطة دينية في الاسلام. وتحل عقدة الزواج بالطلاق (الارادي) او بالتطليق (من المحاكم) أو بالوفاة. والطلاق غالباً ما يكون في يد الزوج، يحل به عقد الزواج في أية لحظة، لكنه يمكن كذلك ان يكون في يد الزوجة او في يد طرف ثالث (إلا ان يعفون او يعفوا من بيده عقدة النكاح) سورة البقرة:237. وهذا ما نميل إليه، وما اثبتناه منذ سنة 1985 في حديث لمجلة مصرية ثم بعد ذلك سنة 1990 في كتابنا (معالم الاسلام). ووجهة نظرنا في ذلك ان الشعوب الشرقية حامية الطباع، وقد يحل رابطة الزوجية، بإيقاع الطلاق، من بيده عقدة النكاح – زوجاً كان او زوجة – في ثورة غضب، ثم بعد ذلك يندم بشدة، ومن ثم يكون الاوفق وضع الطلاق في يد المحاكم.
ونظام المواريث في القرآن تغيّر أربع مرات. وقد حدث أن ذهبت امرأة الى النبي تشكو له ان زوجها توفي ووضع عم ابنتيها يده على كل التركة، وقالت في ذلك ان البنات يتزوجن على المال. وقد ظلت المرأة تتردد على النبي وتذكّره بالواقعة قائلة “بنات سعد يا رسول الله”. وإثر ذلك نزلت الآية التي تجعل حق البنت الواحدة في التركة هو النصف، وحق الابنتين هو الثلثان. وفي واقعة بنات سعد، يلاحظ ان التركة تقسم على تلاث انصبة متساوية، واحد للعم (تعصيباً) واثنين للابنتين (بالاسهم).
وعلة توريث الاعصاب (الرجال من ناحية الأب) انهم في المجتمع العربي – حيث نزل القرآن – كان العصب، ابا كان او اخا او عمّاً مسئولا عن بنات ونساء القبيلة، وبهذه المثابة كان لابد له من الانفاق عليهن إذا لم يكن لهن مورد.
وبعد مرور اكثر قليلاً من قرن (مائة عام) وجد الفقهاء صعوبة في تطبيق هذا النص ونصوص الميراث عموماً، لاتساع الديار الاسلامية واحتمال تنقل العم (مثلاً) الى جهة نائية غير معروفة، مما يجعل التصرف في التركة مستحيلاً، ونتيجة لذلك فقد ابتدع الفقهاء نظام الوقف الاهلي، وهو نظام غير مذكور في القرآن ولا ورد في حديث للنبي (متواتر او مشهور) وبمقتضي نظام الوقف يجوز لصاحب الاعيان ان يحرر وثيقة يجعل فيها ملك أعيانه لله بحيث لا يجوز التصرف فيها بالبيع او بعقود نقل الملكية عامة، ومن ثم يعيد توزيع الانصبة على الورثة وقد يعطي من التركة لغير وارث. بهذا جاز للواقف ان يجعل نصيب زوجه النصف بدلاً من الثمن او يساوي بين الذكور والبنات في توزيع أسهم الوقف عليهم، او يخص الصغير من أولاده بأسهم اكثر مما يخص به الكبير الذي اكتملت تربيته، وهكذا، أصبح الوقف بديلاً عن أحكام المواريث في القرآن، واعتبره البعض نظاماً دينياً شرعياً، مع انه نظام فقهي غير شرعي.
وفي العصر الحالي، تبدلت الامور وتغيرت الاحوال، لتتقرر المساواة التامة بين الرجل والمرأة في كل مجال، ولا يقاوم ذلك الا من كان من بقايا المجتمع الرعوى او المجتمع الزراعي. ولم يعد من الممكن لعاقل او سوىّ ان يجعل للرجل الجاهل موضعاً أعلى او أرقي من المرأة المتعلمة المثقفة الراقية ـ واللاتي برز بعضهن في مجالات مهمة فكانت عاملة او كاتبة او سياسية، وأثبت بعضهن في كل ذلك كفاية ومهارة.
ان محور التقدير الانساني انتقل الى العقل، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ومن يُرد ان يحكم على مجتمع فلينظر فيه إلى وضع المرأة، من حيث إنها انسان، فضلاً عن أنها الأم والاخت والابنة والصديقة والزميلة، فإن وجد هذا الوضع سوياً فالمجتمع سوىّ، أما إن لم يجده كذلك او وجد فيه عوارا، فإن ذلك أبلغ حكم بأن المجتمع غير سوىّ وفيه عوار ومرار.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة