في بدايات الحياة البشرية، كان الأفراد متناثرين متفارقين، لا يضمهم مكان واحد، ولا يربطهم رباط محدّد. وكان كل فرد – متي بدأ عنده الوعي في التفتح ـ يبتدر كل شئ ويبتدئ أى حلّ، في كل أمر يصادفه، ويقتضي منه وقفة لإنهاء مشكلة أو الوصول إلى نتيجة. وكلما كانت المواضيع تتكاثر والمشاكل تتوافر، كان يلجأ إلى حلوله السابقة أو يعاود محاولة الحل إن كان قد نسي الحل السابق أو الوضع الذي سلف منه، للقضاء على المشكلة. فإذا تكرر حل بذاته، في مسألة معينة، صار عادة فردية، وقد يصبح عادة جماعية، إن اتجهت إليها جماعة أو توافقت عليها مجموعات.
وبقدر ما تؤدي العادة إلى تسهيل الأعمال، للأفراد والجماعات، بتقديم الحلول السابقة، فإنها مع الوقت، تُسقط الارادة وتُضعف الوعى وتذبل التنبه. والمثل العصري في ذلك “قيادة السيارات”. فعندما يبدأ الشخص القيادة، لابد أن يُعلّمها له آخر، ويكون هو عند الانفراد بالقيادة متماسك الارادة شديد الوعى فائق التنبه. ومع الوقت تصبح القيادة عادة، تجري بصورة آلية، بغير إرادة ودون وعى ولا تنبه، إلا قليلا قليلا.
وتتكاثر العادات وتتضامم، عند الفرد والجماعة، سواء بسواء، حتي تغالب الارادة فتغلبها، ثم تقبض على العقل ولا تدع له مساحة للحركة، وتجعل من الشخصية مجرد أداة آلية (ميكانيكيّة) قولها مجرد رواسم (كليشيهات Clichés) متعارف عليها، او عبارات مصكوكة تعود عليها الجميع، أو شعائر مظهرية يتسرب منها العقل والضمير.
وعندما يصل الفرد أو الجماعة أو الأمة إلى هذا الحال، يفتقد أى مبادأة ويفتقر إلى أى مبادرة، ويصبح ادني الى الجمود والموات، الذي قد يجد فيه أكثر الناس، خِدراً (Anesthesia) يتوهمون أنه راحة، فلا يجمعون عقولهم في تفكير ولا يرهقون ارادتهم في تدبير، ومن ثم لا يفكرون في شئ ـ وإن كان يسيرا، ولا يتدبرون أمرا ـ إن كان جديداً. بذلك ينحدر الفرد أو الجماعة أو الامة الى الشمولية. وتعني الشمولية ـ في هذا الصدد ـ وجود نظام أو نظم للفكر والعمل والقول والاعتقاد يؤديها الفرد أو الجماعة أو الأمة، بتقليد لا تجديد فيه، وترديد لا تغيير به، فكل شئ في النظم والأقوال والشعائر مسلّمات (Postulates) يأخذها كما مارسها او قالها الأسلاف، دون أن يقدر، أو يسمح له الغير بمجرد التفكير فيها، أو حتي التساؤل عنها، أو عن جزئية بها، كبرت أو صغرت.
بهذه المثابة فإن المجتمعات والشعوب والأمم توغل في الشمولية، كلما قدم بها العهد، فيكون كل شئ فيها مسلمات راسخة، أو معتقدات رازحة، أو عادات ثابتة، أو محادثات جاهزة، أو عبارات غابرة. وتظل كذلك، إلى أن يقوم فيها مجدد أو مجددون، او يحدث لها لقاح ثقافي من ثقافة أخرى، تكون قد تجاوزت الشمولية لسبب أو آخر.
وتشتد دواعي الشمولية من خلال الضغوط الاجتماعية (Social Pressures)، التي يري بعض علماء الاجتماع، وأولهم إميل دوركايم (1858 – 1917) أن آثرها أشد على الناس من أثر العقائد، وهذا هو السبب الرئيس في دخول التراث الشعبي (الفولكلور Folklore) الى المعتقد، بما يُحدث اختلافاً بينه وبين الأصل، وبينه وبين غيره، تبعاً لتغاير الثقافات وتعاور التراثات.
وقبل أن تحدد الدراسة آثار الشمولية، وأكثرها بغيض وأقلها مفيد، فإنها تضرب بشأنها مثلا واضحاً ثابتاً. فمفهوم الزمان كان لدى جميع الأمم والشعوب، ملتبسا بالدهر أو القدر. وفي التراث العربي أنه روى عن النبي(صلى) قول الله “لا تسبوا الدهر”أو الزمان” فأنا الدهر”. وفيه : (يا لائمي في هواه، والهوى قدر)، (زمن قاسي، غدر بيهم)، (إمتى الزمان يسمح يا جميل؟)، (من سره زمن ساءته أزمان)، (يا دهر فيم فجعتني بحليلة؟)، (يا دهر ما أقساك يا دهر)، (وما تسع الأزمان علمى بأمرها)، (ألم يخبرك أن الدهر غول؟)، (دهر علا قدْر الوضيع به)، (آه يا زمن !).
وعندما قال السيد المسيح (لا أحد يعرف الازمنة والاوقات إلا الله وحده) فهم الناس من ذلك ما كانوا وما زالوا يقيمونه من مطابقة بين الزمان والوقت، من أن الزمان وقت قصير أو طويل، وهو الدهر، وهو العصْر، وهكذا (المعجم العربي الأساسي، مادة : زمان)، هذا مع أن الفلسفة تقيم فاصلا بين الزمان والوقت. فالزمان فيها أمر وجودي يتصل بالشعور، في حين أن الوقت هو مدي الساعات أو الأيام التي تقاس بها الحوادث.
وقد رزحت هذه المسلمة عن الزمان في الفكر البشري مدي التاريخ. والمسلمة بديهية لا تقبل الجدل (المرجع السابق: مادة سلم). وكان من نتيجة ذلك أن قال بها اسحاق نيوتن (1643- 1727) الذي يعتبره البعض أكبر عقلية ظهرت في علم الفيزياء، فصّور الزمان والمكان على أنهما مطلقان وأنهما حقيقتان منفصلتان إلى أن اقترح لورنتز فكرة تداخل الزمان والمكان، ثم بني البرت اينشتاين على هذا المفهوم نظريته عن النسبية الخاصة (عام 1916) فصور الكون (المادي) على انه فراغ ذو أربعة أبعاد تتحدد الاحداث فيه بثلاثة إحداثيات (مكانية) وإحداث زمني رابع. وبهذا خرج الزمان من مفاهيم القدر والدهر وما ماثل، وصار بُعدا يختلط بالابعاد المكانية.
ذلك مثل مهم، والامثلة كثير. فلقد كان الزمان في العقل البشري، وعلى مدى التاريخ، عند أكثر الناس، ومازال حتي اليوم، عند هؤلاء وفي المعاجم الحديثة للغة العربية، هو الدهر، وهو القدر، وهو العصْر (Age)، حتى ثبت من علم الفيزيقيا الذي نشأ في أحضان الاستنارة وبين جناحي عصر النهضة، ما يقطع بأنه بُعْد رباعى، في هذا الكون المادي، وقد تكون ثمت أكوان تنبني على أبعاد أكثر، ويكون الله سبحانه لا نهائي الأبعاد. وهكذا يتسلسل التنوير وتتدرج النهضة بما يؤدي الى نقض مسلمات، وتقويض بديهيات، تُبني عليها الثقافة الشمولية.
ومتي صح ذلك في الأفهام، أمكن بيان بعض نقائض الثقافة الشمولية :
(أ) فهي تقوم على مسلمات متكاثرة وبديهيات متضافرة، تقبض على العقل وتشل الإرادة، فلا يمكن للفرد إلا إذا كان مخلصاً (بفتح اللام، أي كان من الذين نالوا الخلاص) أن ينفذ منها أو يخْرج عنها أو يجُادل فيها.
(ب) وثقافة كهذه تجعل من كل فرد فيها صاحب اطلاقات، ليس لديه فيما يرى شئ نسبي. وهو ما يطبع الجميع بالدكتاتورية والطغيان، ويجعل من كل فرد مستبدا في القول والفعل.
(جـ) ونتيجة لكون أبناء الثقافة الشمولية طغاة في تفكيرهم وفي تقديرهم وفي أعمالهم وفي أقوالهم، فإنه لا يمكن أن تقوم فيهم إلا حكومة ديكتاتورية، سواء كانت من المدنيين أم من العسكر. أو على أحسن تقدير، تقوم عليهم حكومة القِلة (التى تسمي في العلوم السياسية اوليجارشيه، وهي كلمة مركّبة من أصل يوناني. أليجوس ومعناها الفئة، واركى ومعناها : الامر أو الحكم). وحكومة القِلّة في الاصطلاح السياسي هي كل حكومة تنحصر السلطة السياسية فيها في يد القِلّة، سواء كانت قلة عسكرية أو دينية أو غيرها، ويقصرها البعض على حكومة القلة من الأغنياء والتجار.
ويكون من الصعب جداً – إن لم يكن من المستحيل – إقامة حكومة ديمقراطية في هذه الأمة، لأن الحرية تتعارض وتتناقض مع طبيعتها ذات الطغيان، فتثير فيها هذه الحكومات الديمقراطية روح الفوضي والمعارضة، وتطلق فيها اتجاهات من الرفض والصد وعدم التعاون، والخصومات المستمرة دون أى سبب معقول.
(د) ويسهل أن يقوم على حكم هذه الأمم طاغية، مدنى أو عسكرى، يعمل على أن يفرض نفسه في رؤاها ليلاً ونهاراً، بكل وسيلة ممكنة. ويكون عمله دعائياً وخطابياً، يخلط فيه بين النصر والهزيمة، والصواب والخطأ، والجد والهزل، والحقيقة والخيال، والأسود والأبيض.. وهكذا. ولا يسمح بالوجود حوله إلا لعدد من الناس موالين له ولو كانوا غير أكفاء. ويؤدي هذا الى عدم السماح للكفاية والنزاهة بالظهور، ولا بتكوين صفوف جديدة من الاداريين والحكام.
(هـ) وتقع المجتمعات الشمولية، أمما كانت أو شعوباً، في ضربين من الجنون عظيمين، هما جنون الفصام النفسي (شيزوفرينيا Schizophrenia) والجنون النفسي (سيكوباتيه Psycopathy). ومؤدي ذلك أن تكون هذه الشعوب أو تلك الأمم، غير متزنة، تتسم بالرعونة وتتصف بالعدوانية، مزدوجة التصرفات والمعاييرٍ، تحكمها الأيدلوجيات، وتجرفها الشعارات، وتأسرها المظاهر، وتقتلها الشعائر. عقلها في الآذان وفعلها في خبر كان، فهي ظاهرة صوتية وفقاعة غازية. تعيش في الأوهام خارج نطاق الأحداث، بعيداً عن الزمان والمكان، وتتمحض تصرفاتها الى مجرد التمني Wishful thinking، ويحكمها على الدوام هذاء الاضطهاد Delusion of persecution أى الشعور بأن الغير دائم التآمر عليها.
(و) ويكون الفرد في هذه الثقافة الشمولية بلا رأي محدد، ولا قول واضح، ولا فكر على الاطلاق. تسير شخصيته في حلزونية إلى الأسفل، وتتخلخل ارادته أمام السلطة أو المال أو اللذة، يقيّم الناس بالتورّم السلعي والانتفاخ العارض، ولا يستطيع ان يميز بين الحقيقة والرياء.
إن مساوئ الثقافة الشمولية، أكثر من أن تحصى، ونتائجها على الدوام سلبية بغيضة، ولا يمكن القضاء عليها إلا بتفكيك ما يمكن تفكيكه مما هي عليه من مسلمات (Postulates) غير صحيحة ويتأكد بالعلم والعقل أنها وهم في وهم، على أن تحل الحقائق بدلا من الأوهام، وتصبح الاحتمالية عوضاً عن اليقين في كل شئ، وهو ما عبّر عنه الإمام الشافعي بأن قال (رأيي هذا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
saidalashmawy@hotmail.com