يكثر الحديث في كلام العرب في العصر الحديث عن النّضال والكفاح. ويُخيّل للمرء أحيانًا أنّ العرب أجمعين قد أضحوا مناضلين ومكافحين، إذ لا تخلو الأخبار على شتّى أنواعها من الحديث عن المناضل الفلاني والمكافح العلاّني.
ولمّا كانت اللغة في نهاية المطاف حاملة للمعاني التي تجول في أذهان النّاس على مرّ العصور، وجدت أن أعود إلى هذه الأصول في اللغة العربية لسبر أغوارها واستنباط ما تتضمّنه من الدّلالات التي أنشأها السّلف فيما مضى من عصور، واستلهمها الخلف في هذه الأيّام مُسبغًا عليها من لدنه ما ارتأى من إسقاطات تثور، وعلى الألسن تدور.
إذن، فما دامت الحال على هذا المنوال، فلنبدأ بالخوض في أصل النّضال. فالنون والضّاد واللام أصل في العربية يفيد المباراة في إصابة الأغراض. فيقال ناضله مناضلة ونضالاً. وقد ذكر الجوهري في الصحاح وابن منظور في اللسان: ” ناضله: أي راماه. يُقال ناضلتُ فلانًا فنَضَلْتُهُ، إذا غلبتُه… وَفُلان يناضل عن فلان، إذا تكلّمَ عنه بعُذْرِه ودفعَ“. كما ورد أيضًا المصدر ”نيضال“: ””بل وحتّى نيضالاً، أي ”باراه في الرّمي“، كما يذكر ابن منظور في اللّسان. أمّا سيبويه، يذكر ابن منظور، فيقول في ”نيضال“ هذه إنّها فِيعال، على مثال ”لغة الذين قالوا تحمّل تِحمالاً، وذلك أنّهم يوفّرون الحروف ويجيئون به على مثال قولهم كلّمتُه كِلاّمًا. غير أنّ ثعلب يذهب إلى أنّ الياء في نيضال هذه هي إشباع للكسرة ”فأتبعها ياء، كما قال الآخر: وإنّني حيثما يثني الهوى بصري – من حيثما سلكوا أدنو فأنظُورُ… أتبعَ الضمّةَ الواوَ اختيارًا. وهو، على قول ثعلب، اضطرارًا.“
وهكذا نرى أنّ النّضال، بما هو مباراة في المراماة صوب الأغراض، قد يصلحُ أن يكون فرعًا من فروع الألاعيب الأمميّة الّي تلتئم كلّ أربعة أعوام، وهي المسمّاة بلغة الأعاجم ”ألاعيب الأولمپيادة“ التي تُشدّ إليها الرّحال من كلّ فجّ عميق، ويجتمع فيها العدوّ والصديق. فمن يدري، لعلّ وعسى يعود ذوي القربى مُعزّزين محمّلين بميداليات النّضال معلّقة في صدورهم كالنياشين.
وإذا كانت هذه هي الحال في مسألة النّضال، فما هو شأن الكفاح؟
نعود مرّة أخرى إلى ما دوّنه لنا السّلف بشأن هذه الأصول اللغوية في لغة العرب. فإذا كان النّضال يشير إلى المراماة صوب الأغراض يتنافس فيها العرب فيما بينهم، فإن الكفاح والمكافحة يفيد المواجهة بينهم. فالمكافحة، كما يروي لنا ابن منظور في لسانه هي: ”مُصادفةُ الوَجْه بالوَجْهِ مفاجأةً. كَفَحَهُ كَفْحًا وكافحه مُكافحةً وكفاحًا: لقيَهُ مُواجَهةً… والمُكافحة في الحرب: المُضاربة تلقاء الوجوه“. وهنالك من يجمع بين الكفاح بالحاء والكفاخ بالخاء بذات الدلالة. فيُقال: كفَحَهُ بالعصا كَفْحًا، أي ضربه. أمّا الأزهري فيقول: ”كفحته بالعصا والسيف، إذا ضربته مواجهة، صحيح. وكفختُهُ بالعصا إذا ضربته بالعصا، لا غير.“
ليس هذا فحسب، بل إنّ الأصل اللغوي ”كفح“ يفيد معنى التقبيل خلسةً. يُقال: كافَحها كِفاحًا قَبَّلها غَفْلَةً وِجاهًا. وَكفحَ المرأَة يَكْفَحُهَا وكافَحها: قبلها غفلةَ“. ويستند الأزهري إلى حديث أبي هريرة، أنّه سئل: ” أَتُقَبِّل وأَنت صائم؟ فقال: نعم وأكفَحُها“. كما يفيد الأصل أيضًا إلجام الدابّة، إذ يُقال: أكفحت الدابّة إذا تلقيتها باللّجام لالتقامه. ومن هنا جاء أنّ ”كفيح المرأة“ هو زوجها.
وهكذا نرى أنّ أصل النّضال هو المباراة بين شخصين في المراماة نحو غرض. بينما الكفاح هو المواجهة بين الشخصين، حتّى إنّ التقبيل خلسة، بمعنى عنوة، هو صنف من أصناف الكفاح في عرف السّلف الـ“سالح“.
ولمّا كان النّضال، أو النيضال كما رأينا، هو المباراة والمراماة، فقد ارتأيت أن أنهي الحديث في هذه المسائل اللغوية بنضال شعري. فها أنذا أسير على هدي الشّعراء من السّلف، وقد آليت أنا أيضًا أن أشبع العين ضمّةً وأُتْبعَها واوا:
فَإنَّنِي حَيْثُما يَرْوِي الرَّدَى نَظَرِي – مِنْ حَيْثُمَا ظَلَمُوا أَبْكِي فَأَشْعُورُ.
والعقل ولي التوفيق!