(الصورة: البترون تستقبل جنود الجيش المنتصر بعد معركة “نهر البارد”)
*
وجدي ضاهر – “الشفاف” – خاص
إذا كان التنافس على المقاعد المسيحية هو السمة الغالبة للانتخابات النيابية اللبنانية الحالية ، فإن دائرة البترون تمثل تحديا لقوى 14 آذار وقوى 8 آذار على حد سواء لما لهذه الدائرة من خصوصية مسيحية حيث ان غالبية الناخبين هم من المسيحيين ، كما ان هذه الدائرة تمثل تعبيرا عن المأزق الانتخابي للقوى المتنافسة.
تتمثل دائرة البترون بمقعدين نيابين للطائفة المارونية يشغلهما حاليا النائبان بطرس حرب عن القوى والشخصيات المسيحية المستقلة في قوى 14 آذار، والنائب طوني زهرا عن كتلة “القوات اللبنانية”.
ولكي نوضح صورة المأزق الراهن لدى قوى 8 و14 آذار لا بد من القاء نظرة سريعة على توزيع المقاعد النيابية في القضاء خلال المسيرة البرلمانية اللبنانية.
انقسمت دائرة البترون وفق ثنائية انتخابية بين جُردها وساحلها، فقام تمثيلها على نائبين احدهما من تنورين من عائلتي حرب او يونس، ونائب من الساحل من عائلتي عقل او ضو.
مرشحون كثر سعوا الى خرق هذه الثنائية الا ان مساعيهم باءت بالفشل. وحده النائب السابق الراحل جورج سعادة من قرية “شبطين” في وسط البترون استطاع خرق الثنائية بين الجرد والساحل بعد ان تحالف مع النائب بطرس حرب. فأمّن، الى جانب اصوات محازبيه في “الكتائب اللبنانية”، اصوات النائب حرب في الجرد وفاز في الانتخابات عام 72 واخرج سايد عقل النائب في حزب “الكتلة الوطنية” من الندوة النيابية.
سعادة وحرب استمرا نائبين بفعل التمديد للمجلس النيابي اللبناني، حيث حالت الحروب المتكررة دون اجراء انتخابات نيابية حتى العام 1992 حين استجاب النائبان جورج سعادة وبطرس حرب لنداء مقاطعة الانتخابات الذي اطلقه البطريرك الماروني فخرجا بالمقاطعة.
وفي حين عاد النائب حرب الى الندوة النيابية عام 1996 وفي الدورات التي تلتها، خسر جورج سعادة في الدورات الانتخابية التي تلت واصيب بمرض عضال وفارق الحياة.
عشية الحرب الاهلية اللبنانية ظهرت قوى سياسية في دائرة البترون الانتخابية كان ابرزها نمو حزب “الكتائب اللبنانية” في موازاة نمو تيارات يسارية ابرزها الحزب “التقدمي الاشتراكي” برئاسة كمال جنبلاط، والحزب الشيوعي اللبناني وبعض المنتمين لحزب “الوطنيين الاحرار” بزعامة الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون. إلا أن هذه التيارات اليسارية منها خصوصا لم تأخذ مداها في تكريس وجودها السياسي. وهي كانت تدعم المرشح المناوئ للمرشح الكتائبي، وفي الغالب كانت تصوّت للنائب السابق سايد عقل وسعت عام 72 الى ترشيح وسيم حرب من تنورين في وجه ابن عمه النائب بطرس حرب. الا ان الاخير فشل في الانتخابات بعد ان تبنت عائلة حرب ترشيح المحامي بطرس لخلافة عمه النائب الراحل جان حرب.
ومع انطلاق شرارة الحرب الاهلية وسيطرة حزب الكتائب اللبنانية المطلقة على المناطق المسيحية عملت ميليشيات الحزب المذكور على تصفية جميع القوى السياسية في القضاء بالقتل والتهجير والاقصاء.
ومع اغتيال النائب الشمالي طوني فرنجية عام ، 1978ومشاركة ميليشيا الكتائب البترونية في العملية، وإثر اجتياح القوات السورية للقضاء، تم نقل السيطرة الميدانية على نصف قضاء البترون من ميليشيا الكتائب الى ميليشيا المردة التابعة لآل فرنجية وتهجير الكتائبيين، مقاتلين وغير مقاتلين.
سيطرة آل فرنجيةعلى نصف القضاء استمرت الى ما بعد اتفاق الطائف وحل الميليشيات عام 1990.
ولكن، في هذه الاثناء، طرأت تحولات دراماتيكية على حزب الكتائب كان ابرزها خروج ميليشيا “القوات اللبنانية” من رحم ما كان يعرف بالقوى النظامية الكتائبية او ميلشيا الكتائب التي اصبحت لاحقا حزب القوت اللبنانية.
بترونياً، تولي النائب والوزير الراحل جورج سعاده رئاسة حزب الكتائب، حيث عمل على تكريس الحزب بمقوماته المادية والمعنوية لصالح الكتائبيين من المنطقة. وفي يقينه ان الحزب التاريخي اصبح من الماضي وسعى الى تعزيز حضوره السياسي الحزبي والشخصي في البترون كما عمل على تطوير الحزب. ولكن للأمانة التاريخية لا بد من اعادة قراءة تجربة سعادة في رئاسة الكتائب حيث استطاع الفوز برئاسة الحزب في مواجهة قائد القوات اللبنانية سمير جعجع الذي حاول بدوره وضع يد القوات على حزب الكتائب من جديد من خلال ترشحه لمنصب رئيس الحزب.
كما سعى سعاده الى تحويل حزب الكتائب الى مؤسسة لا ترتبط بشخص مؤسسها، مشددا على مقولة الانتقال بالحزب “من حزب المؤسس الى حزب المؤسسة”.
سعادة، الذي فارق الحياة، خلفه الكثيرين في حزب الكتائب وفي اقليم البترون، ونجله سامر كان لا يزال طري العود فسعت والدته ليلي ارملة سعادة الى الترشح للانتخابات للابقاء على ارث زوجها السياسي الى حين اشتداد عود ابنها سامر. وسعت جاهدة الى تكريس بيت سعادة كبيت سياسي بتروني في مواجهة تحول العديد من الكتائبيين في القضاء الى القوات اللبنانية، حيث خسر بيت سعاده العديد من الانصار والمحازبين وتحول العديد من الكتائبيين الى قوات لبنانية ومن بينهم النائب الحالي طوني زهرا.
في موازاة ذلك شهدت انتخابات العام 1992 تحولا رئيسيا في انتخابات قضاء البترون، حيث تحالف النائب الكتلوي سايد عقل مع الوزير سليمان فرنجية. وهذا الامر فاجأ الكثيرين خصوصا حزب الكتلة الوطنية الذي كان اخذ قرار جازما بمقاطعة الانتخابات، فما كان من النائب السابق عقل الا ان استقال من الحزب واكد تحالفه مع فرنجية وفاز في انتخابات المقاطعة المسيحية.
تحالف عقل مع فرنجية كان خارج السياق الطبيعي. فعلاقة بيت فرنجية في البترون تشكلت تاريخيا مع عائلة ضو المنافس التقليدي لعائلة عقل. الا ان ضرورات كسر المقاطعة المسيحية من جانب مرشح كتلوي املت على فرنجية تحالفه مع عقل في حين ان عقل الذي اقصاه النائب سعاده عن الندوة النيابية منذ العام 72، ونكل انصار الكتائب بمحازبيه طوال فترة سيطرتهم على المنطقة كان يتحين الفرصة للانقضاض على خصمه الانتخابي جورج سعاده في اول فرصة. وقال عقل، عقب إعلان فوزه عام 92، ان هذا المجلس هو الافضل لانه لا يضم اي كتائبي.
على جبهة “التيار الوطني الحر” ، لم يكن تمثيل هذا التيار في البترون معبّراً. فقد كان حضوره يقتصر على جماعة من الشبان من الذين استهوتهم طروحات العماد عون في الحرية والسيادة والاستقلال. وشكلت هذه الطروحات نافذة للتعبير عن امتعاض البترونيين من سيطرة الاحزاب على مقدرات القضاء، سواء الكتائبية منها قبل العام 1978 او ميليشيا المردة في ما بعد. فانضمت جماعة من الشبان البترونيين الى تيار عون قبل ان ينتظم في ما يشبه الحزب حاليا، كما انضم العديد من مناصري الاحزاب اليسارية الى تيار عون في رد فعل على ممارسات الكتائب وقواها النظامية في حقهم في خلال “حرب السنتين”. حيث صرح الراحل جورج سعاده في احد مهرجانات الحزب في البترون في ملعب مدرسة القديس يوسف ان “من ليس كتائبيا ليس لبنانيا، ومن ليس منا فليرحل عنا”.
انتخابات العام 2005 شكلت المحطة الاولى لمشاركة تيار العماد عون في الانتخابات النيابية. فترشح صهره الوزير جبران باسيل على لائحة الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية مع نزار يونس من تنورين.
شكلت نتائج الانتخابات مفاجأة بترونية نظرا لحداثة وجود تيار عون في المنطقة، اضافة الى ان الحيثية السياسية بالمفهوم الانتخابي التي يمثلها باسيل لا تتجاوز كونه صهر العماد عون.
المفاجأة البترونية تمثلت في ان جميع التيارات والاحزاب السياسية في الدائرة اقترعت لباسيل: من انصار جورج سعاده، الى اليساريين، الى انصار النائب السابق سايد عقل الذي سحب ترشيحه في الدورة السابقة، اضافة الى عائلات يونس وعائلات اخرى في جرد البترون، فضلا عن التعاطف الذي امنته الكنيسة المارونية لتيار عون يوم قال البطريرك “اصبح للمسيحيين زعيم”.
الانتخابات الحالية تشهد تغييرات ابرزها على جبهة قوى 8 آذار، حيث تشير المعلومات الى ان الوزير جبران باسيل، صهر العماد عون ومرشحه من دون منازع في هذه الدائرة، قد لا يترشح الى الانتخابات المقبلة في ظل عزوف المرشح نزار يونس عن الترشح. وقد رفض الوزير باسيل ان يحل احد اشقاء المرشح يونس، سواء المحامي عصام او نقيب الاطباء السابق والمنتمي للتيار الوطني الحر الدكتور فائق يونس، بدلا منه، مما يحرم باسيل من وجود رفيق قادر على منافسة المرشح القوي في جرد البترون البرلماني النائب بطرس حرب.
وفي المعلومات فان الوزير السابق سليمان فرنجية الذي يسعى على خط تشكيل لوائح المعارضة في دائرة البترون، لما له من نفوذ في المنطقة، قال لنزار يونس: “انت تترشح مع الوزير باسيل هو يفوز بالمقعد النيابي وانت تخسر”. فما كان من يونس الا ان حزم امره واعلن صراحة عزوفه عن الترشح للانتخابات بقرار لا رجعة عنه.
وتشير المعلومات انه ازاء اصرار يونس على الانسحاب فان الوزير باسيل قد يعزف بدوره عن الترشح ويرشح الطبيب البتروني جورج رستم بدلا منه.
اما على جبهة قوى الرابع عشر فالصورة تبدو اكثر تعقيدا، وتحمل مزيداً من الارباك للنائب بطرس حرب، المرشح الاقوى في القضاء.
فالنائب حرب يشغل المقعد النيابي عن المنطقة منذ العام 1972، وهو تخلّف دورة واحدة بالمقاطعة وليس بالخسارة.
والنائب حرب الى عراقته في الممارسة البرلمانية، هو الاقوى على صعيد القضاء بفعل حجم العائلة التي ينتمي اليها والتي اسلسلت اليه لواء قيادتها ولعمّه النائب الراحل الشيخ جان حرب من قبله.
النائب الحالي عن دائرة البترون في كتلة القوات اللبنانية، طوني زهرا، من قرية “كفيفان” في وسط البترون، فاز على لوائح قوى 14 آذار في الدورة الانتخابية السابقة واثبت هو الآخر جدارته كنائب وفيّ للقوات من جهة ولخط ثورة الارز من جهة ثانية.
ولكن تبرز مشكلة سامر سعاده مجددا، الذي يصر مع انصاره على الترشح، مما يضع ترشيح النائب زهرا على المحك في انتظار اتفاق قوى 14 آذار على لوائح موحدة.
وإزاء ذلك، ما ستكون عليه ردة فعل انصار سعاده او محازبي القوات اللبنانية في حال تم الاتفاق على سحب هذا المرشح أو ذاك؟ هل سيحجمون عن التصويت، ام انهم سيصوتون بكيدية سياسية على غرار ما حصل في الدورة السابقة من قبل انصار سعادة؟
والى ذلك ايضا، لمن سيصوت انصار النائب السابق سايد عقل في حال عزف عن الترشح في هذه الدورة ايضا؟
لمن سيصوت انصار الاحزاب اليسارية؟
ولمن ستصوت عائلات تنورين الاخرى التي لن تدخل المنافسة الانتخابية هذه الدورة بانسحاب المرشح نزار يونس؟
إن الصورة الحالية تشير الى ان قوى 14 آذار تخوض معركة غير متكافئة لصالحها في معزل عن الاتفاق على سحب سعاده لصالح النائب زهرا، أو في حال قرر سعاده الاستمرار في ترشحه منفردا. إذ ان تشتت الاصوات التي تم تصنيفها معارضة في الدورة السابقة يعطي النائبين حرب وزهرا افضلية وسبقا انتخابيا.