أصحاب نظرية ان إسرائيل «شرّ مطلق» هم أصحاب فكر مطلق، لا يريدون ان يعرفوا شيئا عن النسبية، لا يستطيعون ان يعتمدوها. ينظرون إلى أنفسهم على انهم الخير المطلق. لا يشكّون لحظة، مثلا، بأن هذا الخير قد يعتريه عيب أو نقص أو شك. هم مستنتجون منذ اللحظة الأولى لتعيينهم الشر المطلق بأن ذكاءهم هو أيضا مطلق؛ اذ عرفوا أين الداء (أي الشر) وأين الدواء (أي الخير) وبأن شجاعتهم هي المطلقة، وكذلك نزاهتهم الخ. الشرّ المطلق مقابل الخير المطلق، الذكاء، الشجاعة، النزاهة… كلها مطلقة مقابل الغباء المطلق… وبما أن العداوة مطلقة، فعليها ان تكون واحدة، مركزية، لا أطياف فيها، ولا تلاوين؛ فقط حلفاء لها، عملاء، أبديون، مثل الشر. تلك هي عصارة تفكيرهم في ما يتعلق بالتعامل مع العداوة.
هذه النظرية لها تاريخ عريق في منطقتنا. لكنها الآن، بعدما استأنفنا علاقتنا بما نتصور انه تاريخها، بعدما حلّت على رؤانا مقولات الدين، المطلقة بدورها، عادت النظرية فاحتلت بؤرة التفكير واللغة وكل صيغ التعامل مع إسرائيل. الرؤية الدينية، صاحبة المطلقات الدنيوية والأخروية، هي الوعاء الأصيل لنظرية ان إسرائيل شرّ مطلق؛ والعود أحمد…
ماذا ينتج عن هكذا «نظرية»؟
بإزاء إسرائيل، رأس حربة «الشر المطلق»، ليس في مقاومتها غير القتل. القتل المطلق، لا تمييز فيه بين بريء وغير بريء. التدمير الشامل، النهاية المطلقة؛ محو وجود إسرائيل، ببشرها وحجرها: تلك هي أولى منطلقات النظرية. وتتمتها المنطقية، مع استمرار وجود إسرائيل، هو الوسْواس المطلق الذي يصيب مقاومي هذا الشر المطلق، الوسواس من دنسه؛ أوضح تعبيراته عُصاب «مقاطعة» إسرائيل، وقد تصاعد هذا العُصاب مع تصاعد هيمنة التيارات الدينية على مقاوميها. أتفه الإشارات، حتى مجرد المعرفية منها، يثير عواصف الغضب المحق؛ و»محقّ» لأنه متدثّر بمعطف الخير المطلق: فالخير المطلق يبرر واجب الجهل المطلق بالعدو، التجاهل المطلق له، حامل الشر المطلق.
من الطبيعي في هذا التفكير ان تنسحب صفة الشرّ المطلق على الذين لا يشاطرونهم تفكيرهم، الذين لا يرون في أصحابه خيراً مطلقا؛ أي غير الموافقين على هكذا مقاومة لإسرائيل، الناقدين لها، الواقفين ضدها في المبدأ وفي السياسة. وبما انهم، اي المقاومون هؤلاء، هم من معسكر الخير المطلق، كما يزعمون، فان أقل اعتراض عليهم من القبيل المشار إليه، هو بالمنطق المجرد والمطلق آتٍ من معسكر الشر المطلق؛ في هذه الحالة، بوسع الأطفال ان يستنتجوا بأن المعترضين على معسكر الخير المطلق هذا، هم من الصفوف الإسرائيلية نفسها، أي شرّ مطلق.
من هنا العنجهية التي يتعامل بها المقاومون الراهنون لإسرائيل مع غير المقاومين من أبناء جلدتهم. همْ خير مطلق، بوجه شر مطلق، لا يضم إسرائيل فحسب، بل الذين لا يرون فيها شرا مطلقا. من هنا قوة التكفير والتخوين، من هنا الارتباط الحميم بينهما، أي بين التكفير والتخوين؛ الخائن بنظر الخير المطلق ليس مجرد خائن لوطنه، بل كافر بدين الله الذي لا يقول بغير قتل أصحاب الشر المطلق. من هنا أيضا «الضعف» المعنوي الذي يجابه بواسطته الشكّاكون منطق «أشرف الناس»، أعلى الناس شأنا، لا لسبب سوى اقتناع هؤلاء الإشراف بفكرة انهم يتفوقون خيرا على من هم بدونه.
مساكين هؤلاء يصبحون، عندما يودّون التعبير عن نبذة من رأيهم بالعدو الإسرائيلي، المكرّس على انه محور الشرّ: يضطرون، لكي يفلتوا من مقصلة التكفير والتخوين، ان يقدموا لهذه النبذة من رأيهم بلائحة طويلة من النعوت الجاهزة حول إسرائيل: البربرية، المتوحشية، المعتدية… ثم يمضون في التأتأة وأنصاف الكلمات والتلعثم… والويل لهم اذا كان نفس هذا الرأي قد صدر من إسرائيل. (علما بأن البراهين التي يرفعها أهل الخير المطلق على انتصارهم مصدرها إسرائيلي!). التطابق بالرأي مع الإسرائيلي؟ هذا الدليل الساطع على العمالة والكفر! ذلك ان الشر المطلق لا ينطق الا بالباطل، والرد الوحيد الملائم له، هو مناقضة إرادة أصحابه ورأيهم، كيفما كانت هذه الإرادة: إسرائيل تريد شيئا؟ الأمر الطبيعي جدا، ان كنت تقاومها، ان يكون ما تريده أنت هو عكسه تماما. ينطبق هذا الموقف الجوهري على الصغير والكبير مما تراه إسرائيل، أو لديها القرار أو الرغبة بالقيام به.
ومن الطبيعي أيضا ان يكون لأصحاب محور الخير المطلق الحق المطلق بمقاتلة الذين لا يرون، على غرارهم، ان إسرائيل شرّ مطلق. تتأجل، عند اللحظة اللازمة، المنازلة الكبرى مع هذا الشر، لتندلع منازلة لا تقل عنها وجوبا: هي الحرب ضد الخونة العملاء، القائلين بغير الشرّ المطلق. بل تكون هي أمر اليوم وغدا وبعد غد، هي مهمة نضالية طبيعية، لا غبار على أخلاقيتها القصوى؛ لا تستطيع ان تفهم بغير ذلك هجمة دعاة المقاومة اللبنانيين اليوم على إخوتهم في الوطن، ألفاظ التهديد بالقتل، التي تعتري معظم خطابهم وخطاب إعلامهم المرئي والمكتوب. هي ليست حرباً أهلية، بحسبهم، تلك التي يخوضونها، حرب بين إخوة الوطن الواحد، «الوطن المسخ»؛ بل هي حرب ضد إسرائيل، ضد عملائها وجماعتها والداعين إلى الكفّ عن مقاومتها بهذه الطريقة، أو إلى مجرّد إقامة السلام معها.
ومع ذلك تدبّ الفوضى داخل هذا النظام الذهني الطاغي: اذ يتحول الذي يقاوم إسرائيل، صاحب الخير المطلق، حامل قضية الضحايا، حامل الحق بعينه، إلى جلاد، لا يعترف ميدانيا الا بمنطق القوة. لم يعد على حق بسبب عدالة ما يقاوم من اجله، بل بقوة سلاحه الذي أرعب عدوه الإسرائيلي، وأرعب في طريقه أيضا الشاهد «المحلي» على هذا الإرهاب. ان محور الخير، بحربه ضد الشر المطلق يتمرّغ في وحل القوة العارية، في وحل الشر؛ ولا تربكه الفكرة، مع انه يفترض بها ان تنسف صفة الخير الذي يرفع عاليا رايته…
هذه الانزلاقة لا يُعرف لها قاع. ودروس التاريخ لم تكن يوما مفيدة الا بعد حصول الكارثة وتنطح اصحاب المواعظ ذات المفعول الرجعي لتفسيرها. وتجد في إسرائيل ما يغذّي تعميق هذا القاع. إسرائيل ليست موضوعيا محور شرّ، كما يراها مقاومونا. ولكن إسرائيل قامت على فكرة ان العرب المحيطين بها لا حق لهم لا بالحياة ولا بالأرض؛ مجرد سكان لأرض قذفتهم إليها الأقدار السياسية وتصورهم لدينهم ولتاريخهم. هم أيضا يرون اننا الشر بعينه، يميزون في الداخل، ويتوسعون على الأطراف ويطلقون العنان لآلتهم الحربية المدمرة اذا ما خدشتهم أية شظية لانفجار او لعملية انتحارية. وحرب 2006 تبين كم إنهم أيضا لا يميزون بين مكونات المحور الذين يرونه شرا مطلقا، ويتدرّبون حثيثا من أجل تكملة هذا التصور وتطبيقه على الأرض. انها طبعا حلقة مفرغة. محوران يتقاتلان: والاثنان يؤمنان بأنهما محور خير يواجه محور الشر.
ولكن الفرق البسيط بين مقاومينا وإسرائيل هو ان هناك بداخلها، من مواطنيها، من لا يعتبرها ارض الخير المطلق. الروائي الإسرائيلي، دافيد غروسمان، المقيم في إسرائيل، والذي قتل ابنه في حرب تموز عام 2006، وكان قد أصدر بيانا مع روائيين آخرين، هما عاموس أوز ولهيوسوا، يدعون فيه إلى وقف إطلاق النار والتفاوض على حل؛ دافيد غروسمان الذي اتهمه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق شامير عام 1984 بـ»الخيانة» على اثر صدور روايته «الهواء الأصفر» التي يروي فيها معاناة الفلسطينيين في ظل قوات الاحتلال الإسرائيلي، نال منذ يومين جائزة السلام التي يمنحها معرض فرانكفورت الدولي، قال في كلمة: «وحده السلام يسمح لنا، نحن الإسرائيليين، ان نشعر بشيء غريب علينا تماما: الشعور بحياة مستقرة». هل نتصور حالا عربية نظيرة لحالة دافيد غروسمان؟ حالة أديب ينادي بالسلام مع رمز الشرّ المطلق، من دون ان يختفي من الوجود؟
فيما نحن غائصون في إثارة زوبعة على رواية إسرائيلية صدرت بالعربية، ومنع ترجمة مؤلفات روائيينا إلى العبرية، وتجريم أي لقاء، أي سلام، اي اقتراب، أي نظرة… إلى ما يمت إلى الإسرائيلي بصلة، نحمي بالوسواس تدنيسنا، نحن محور الخير، من شظايا محور الشرّ المطلق…
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل
خير مطلق هنا… خير مطلق هناك نزار المالكي — nizarmaliki@yahoo.com الاستاذة دلال، تحية عربية ملؤها الاحترام ابعث بها اليك من مدينة القدس المحتلة على شجاعتك الادبيةوعلى اصرارك على قول الحق او ما تؤمنين به انه الحق دون مواربة او مجاملة. انا شخصيا لا اعتقد ان كل ما ورد في مقالتك هذا صحيح ولكني احترم حقك في نشر ارائك واكبّر فيك وقوفك ضد التيارات الرائجة عندما تعتقدين انك على حق وأُجِلّ اصرارك على نشر تحليلاتك وان خالفت اراء الاغلبية العظمى من اخوتنا فالحق ليس دائما مع الغوغائية او مع من يتجاهلون الوقائع. قرأت قبل مدة وجيزة المقال الذي نشرته في اعقاب… قراءة المزيد ..