مع شهر رمضان الكريم، أفضّل حديثاً أخفّ على قرّاء هذا المقال الأسبوعي. ومن ذلك التواصل مع القرّاء والأصدقاء، ومُتابعة ما يصلني من أخبار الوطن الحبيب.
وأبدأ بزميل عزيز، لم أسمع منه أو عنه من عشر سنوات، وهو د. إكرام يوسف، أحد خُبراء الإدارة الأوائل في مصر والعالم العربي. وقد أرسل لي إلكترونياً نقداً لاذعاً على مقال الأسبوع الماضي “مُبارك وائتلاف المنظمات المصرية في المهجر…” (21/8/2009). فهو لم يعجبه لا المقال، ولا فكرة أن يقوم المصريون في الخارج بأي نشاط يخص الداخل المصري. وأخيراً، فقد استخف بكاتب المقال (أي أنا سعد الدين إبراهيم)، وحقّر من شأني تحقيراً شديداً. وهذا شيء نادر، حيث أن مُعظم القرّاء ينوّهون ويمدحون. وحتى من يختلف وينقد، فإنه يفعل ذلك بشكل مُهذب وغير مُسيء لمشاعر الكاتب.
وللأمانة، فإن رسالة إكرام يوسف لم تزعجني بقدر ما أثارت شوقي لمعرفة ما إذا كان صاحب الرسالة هو نفسه الشخص الذي عرفته قبل ثلاثين عاماً. فهو لم يُشر من قريب أو بعيد بما يوحي بهذه المعرفة الشخصية. ولذلك حرصت على الرد على صاحب الرسالة الإلكترونية الغاضبة أسأله إن كان هو نفس الشخص الذي أعرفه، ولم أسمع عنه أو منه طوال سنوات، ورد الرجل بسرعة، مؤكداً أنه ما زال حياً يُرزق، وأنه تجاوز الثانية والثمانين من عُمره، وفقد زوجته بعد مرض طويل استغرق ستة عشر عاماً، وأن ولده الأوحد مُهندس معماري شهير، يجوب العالم شرقاً وغرباً، ولا يراه والده كثيراً.
وبعد هذه العُجالة عن أخباره الشخصية، عاد د. إكرام يوسف لسيرته الأولى في الهجوم والسُخرية عليّ. ولا أدري لماذا لم أشعر بغضب مُقابل. وليس هناك من تفسير لهذا التسامح من جانبي، غير استعادة المأثور الشعبي الذي يقول “إن ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب”. وضاعف من تسامحي تعاطف إنساني لزميل فقد شريكة عُمره، وهجره ابنه الوحيد.
كذلك اتضح من رسالته الثانية أنه يُتابع كل ما اكتبه، ويأخذ منه موقفاً نقدياً شديداً. من ذلك أنه استرجع ما كتبته عن باراك أوباما طيلة العامين الأخيرين. وأكثر من ذلك ذكّرني بخلاف علني في أحد مؤتمرات الإدارة بأحد منتجعات البحر الأحمر قبل عشرين عاماً، حول مشروع الاتحاد العربي المُقترح وقتها بين مصر والعراق والأردن واليمن. بل ورجع بالذاكرة إلى أكثر من خمس وثلاثين سنة، حينما تزاملنا في مُهمة استشارية بجنوب السودان، في أعقاب توقيع اتفاقية أديس أبابا (1972)، التي أوقفت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وحادث السيارة الذي تسبب هو فيه، وكدت بسببه أفقد أصابع يدي اليُمنى. والذي جعل زميل أخر هو د. عاطف عبيد (الذي أصبح رئيساً لوزراء مصر فيما بعد) يُطلق عليه اسم “إجرام” يوسف! فتحية إلى هذا الزميل المُشاكس، وأطال الله في عُمره.
* وتحية إلى مُفتي الديار المصرية
رغم وضوح النص القرآني الكريم، “لكم دينكم ولي دين”، والنص الآخر “فمن شاء فيلؤمن ومن شاء فليكفر”، والنص الثالث “لا إكراه في الدين”، إلا أن بعض المسلمين المُعاصرين يتزمتون، لدرجة المرض النفسي الهستيري إذا غيّر مسلم أو مسلمة من دينه أو دينها إلى دين آخر. وهو ما لمسناه مؤخراً حينما غيّرت المُحامية نجلاء الإمام ديانتها من الإسلام إلى المسيحية. لذلك أتت فتوى د. علي جُمعة مُفتي الديار المصرية في أوانها لتؤكد ما أقرّه الله سبحانه وتعالى، وسطره الرسول صلي الله عليه وسلم، في مُحكم قرآنه.
وحسناً فعل د. علي جُمعة ذلك في مقال ظهر له مؤخراً في صحيفة “الواشنطن بوست” الأمريكية، الأكثر انتشاراً والأقوى تأثيراً في الرأي العام الأمريكي. وهو بذلك يدفع عن الإسلام بعض ما لحق به من تشويه على أيد الجهلة والمتطرفين من أبنائه.
وكما يقول أحد أعلام الفكر الإسلامي المُستنير، وهو الأستاذ جمال البنا، أن “الحُرية” هي القيمة المركزية في الإسلام. فقد أعطى الله سُبحانه وتعالى للإنسان هذه الحُرية في كل شئون الدنيا، ومنها العقيدة، حتى فيما يخص “الألوهية”، فمن شاء أن يؤمن فيلؤمن، ومن شاء أن يكفر فليكفر. لذلك جاءت فتوى د. علي جُمعة، لا لتأسيس جديد، ولكن لإجلاء مبدأ أصيل من أصول الدين.
* الُحُب عبر سيناء
في نفس الأسبوع الذي نشر فيه د. علي جُمعة فتواه حول حُرية تغيير الدين، نشر الصحفي اللامع إبراهيم عيسى رسالة فتاة مصرية مسلمة تعرضت لمُعاملة بشعة من ضُباط أمن مصريين مسلمين، أثناء عودتها من رحلة سياحية في أحد مُنتجعات سيناء. وكان سبب ذلك هو سفرها في نفس سيارة أحد أصدقائها من الأقباط المصريين. وبدأت مهزلة المهانة والتعذيب، عندما توقفت سيارة الأصدقاء عند حاجز تفتيش أمني طلب الضابط المسئول فيه من رُكاب السيارة إبراز رخص القيادة، وبطاقات الهوية. وعندما استنتج من فحص الأسماء وخانة الديانة، أن الفتاة مسلمة وزميلها السائق مسيحي، بدأ مسلسلاً من الأسئلة الشخصية الحرجة ـ من قبيل أين كانا يُقيمان، وكم ليلة قضياها معاً في ذلك المُنتجع؟ ثم طلب منهما، أن ينزلا من السيارة، واصطحبهما إلى مكتب رئيسه، وهو ضابط شرطة آخر أعلى رتبة. وسألهما الضابط الأعلى رتبة نفس الأسئلة الشخصية السمجة. ثم طلب من الشاب (المسيحي) أن ينتظر خارج المكتب، وانهال على صديقته (المسلمة) توبيخاً وتأنيباً، لمُصادقتها (وهي المسلمة) لذلك الشاب (وهو مسيحي)، وعما إذا كانت أسرتها تعلم بهذه “الصداقة الآثمة”؟. وعبثاً ذهبت احتجاجات الفتاة، بأنها مواطنة راشدة، عُمرها ثلاثين سنة، وقد كفّت أسرتها عن التدخل في حياتها وشئونها الخاصة، بما في ذلك اختيار أصدقائها، وأن والديها وأخوتها لا يسألون عن ديانة أصدقائها وزملائها ورؤسائها!. وبعد عدة ساعات من التعطيل والتوبيخ والتحذير، غادرت الفتاة المسلمة وصديقها المسيحي مكتب شرطة جنوب سيناء، تودعهما نظرات غضب هؤلاء الضُباط الغيورين على “دينهم” من هذه “الصداقة الآثمة”!.
طبعاً، ما كان للكاتب إبراهيم عيسى ولا ليّ أن أخوض في هذا الموضوع إلا لأنه ناقوس خطر، ضمن مئات نواقيس الخطر التي تُنبه إلى ما يُهدد وحدة المجتمع المصري، ويُمزق نسيجه الوطني. فحينما يصل التزمت والتعصب والتمييز إلى الجهاز الأمني، فإن تلك تكون مُصيبة المصائب. فهذا الجهاز هو المُكلف بحفظ النظام العام، وبُمراقبة تنفيذ القانون. فلو تعرض مواطن عادي (مسلماً كان أو غير مسلم) لهذه الفتاة وتدخل في شئونها الخاصة، فإن المفترض أن تلجأ لجهاز الشرطة ليحميها من هذا التدخل، لأنه مثل أي اعتداء على كيانها الجسدي والمعنوي. فلمن تلجأ هذه المواطنة لحماية هذه الحقوق؟
إن تسرب التعصب الديني إلى أجهزة الأمن قد يكون في بداياته. وحسناً فعلت هذه الفتاة الشجاعة في اللجوء إلى محكمة الرأي العام، مُمثلة في هذه الحالة بصحيفة الدستور، ورئيس تحريرها، لكي تتحول إلى قضية رأي عام.
وأني وغيري من قرأ عن تلك الواقعة، نتوقع من وزير الداخلية أن يُصدر بياناً، إما للرد على هذه الادعاءات أو التحقيق فيها، أو إصدار أوامر صريحة للإقلاع عن تلك المُمارسات التمييزية المبنية على ديانة أي مواطن. فالقاعدة الأخلاقية والدستورية والقانونية، هي أن المواطنين أمام القانون سواء. ولعل الضابطان اللذان تعرضا للفتاة المسلمة وصديقها المسيحي، يُراجعان نفسيهما، ويُجيبان في أعماقهما وأمام ضميريهما على السؤال التالي:
“هل لو كانت الفتاة مسيحية، وكان صديقها مسلم، فهل كانا سيُعاملنهما بنفس الطريقة؟”.
إن الإجابة الأمينة على هذا السؤال للضابطين، بل ولكل من يقرأ هذا المقال، هي التي تكشف إلى أي مدى كانت تلك المُعاملة هي الاستثناء، وليست القاعدة. وفي النهاية ما زلت أتطلع إلى بيان من وزارة الداخلية، وإلى إجابات القرّاء.
وعلى الله قصد السبيل، ورمضان كريم.
semibrahim@gmail.com