كان تصريح الرئيس الفلسطيني محمود عباس في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة ملفتاً للانتباه حينما قال: “أخشى أن يكون مبدأ الدولتين قد بدأ يتلاشى…”.
أي متابع للسياسات الإسرائيلية منذ اغتيال اسحاق رابين يتوصل للنتيجة ذاتها. حيث الهم الرئيسي للدولة الصهيونية إبعاد السلام والإبقاء على حالة العداء الدائم مع العرب. فيبدو أنها تعاني جدياً من هاجس يتعلق بوجودها إذا ما انتهت حالة الحرب. فلماذا تخاف السلام وهي كيان مدجج بأحدث أنواع السلاح ومدعوم من أقوى دولة في العالم؟
-1-
أولاً، لم تعد إسرائيل تتمتع بالوظيفة الاستراتيجية ذاتها التي كانت تتمتع بها في القرن الماضي، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة والتغيرات الاستراتيجية العميقة التي جرت على المستويين الدولي والإقليمي. وثانياً، أخذت ترى في هذه الحقبة العولمية التي يمر فيها العالم، حجم التناقضات التي يمكن أن تنشأ في ظل أي سلام قادم، بين دولة يهودية صرفة، ودول أخرى في المنطقة متعددة الديموغرافية القومية والدينية، وتناضل شعوبها لأن يعاد تأسيسها على قاعدة المواطنة والديموقراطية والحداثة.
إن الدولة الدينية التي تقوم على سيادة دين أو مذهب محدد فيها، وإن كانت لا تقتصر على إسرائيل في المنطقة، ولا تزال بقاياها موجودة في منطقة الشرق الأوسط، لكنها صار تنتمي إلى مرحلة عابرة في التاريخ؛ وتتناقض مع الحرية والديموقراطية والمواطنة والحداثة. وهذا النمط من الدول قريب من التلاشي كما هو الحال في أفغانستان وباكستان وايران والسودان….. لذلك لا نستغرب أن تدعم السياسة الإسرائيلية قيام إمارات ودويلات دينية ومذهبية في المنطقة، لكي تعطيها شيئاً من المصداقية كدولة يهودية؛ وهي في آن تدعم بقاء نمط الدولة العربية التسلطية باعتبارها عاملاً مؤهباً لانقسام وتشرذم شعوب دول المنطقة المحيطة بها.
في اعتقادي، إسرائيل على عكس ما يرى البعض، لا تتحمل تبعات سلام يقوم في ظله الاستقرار والتبادل التجاري وحرية انتقال العمالة، والتبادل الثقافي والاختلاط السكاني والزواج المدني. فهي أكثر من أي وقتٍ مضى، تشعر بالخوف من انصهارها في بحر شعوب إقليم الشرق الأوسط.
من هنا، علينا ألا نستغرب هذا التطرف الواضح في المجتمع الإسرائيلي، وانحسار نفوذ الحركات اليهودية اليسارية التي تدعو للسلام؛ والمفارقة أن الرفض الإسرائيلي القاطع لكل مبادرات السلام، يجري في زمن عربي راهن غير مسبوق بضعفه وانقسامه وتهلهله. فيبدو أن إسرائيل لم تُدخل في حساباتها، لاهي ولا الولايات المتحدة، أن رفض المبادرة العربية وعدم تحقيق السلام واتساع الفراغ العربي، قد أدى إلى تغيير موازين الجغرافية السياسية في المنطقة، ودخول لاعبين إقليميين آخرين بشكل مباشر في الصراع (إيران وتركيا)؛ الذي بدأ يتخذ طابعاً شرق أوسطياً، أكثر من كونه عربياً إسرائيلياً.
قبل الاحتلال الأميركي للعراق كان كيسينجر والمحافظون الجدد، يرون أن حل القضية الفلسطينية يمر (من بغداد). وها قد مرت سبع سنوات على احتلال العراق ولم ينفتح طريق السلام مع الإسرائيليين بل آفاقه موصدة والأمل يتلاشى، بعد أن ضربت إسرائيل عرض الحائط بالمبادرة العربية وخطة الطريق وجهود الرباعية الدولية. ولكن بعد تعثر الولايات المتحدة في وحولِ العراق وأفغانستان وباكستان وتفاقم التوسع الإيراني في المنطقة، أخذت أوساط المحافظين التقليديين والديموقراطيين تعتبر خلاص الولايات المتحدة من تورطها الشرق أوسطي ومن إرهاب القاعدة في الصومال واليمن وغيرها من البلدان، وحفاظها على نفوذها ومصالحها في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، يمرَّان (من القدس) أي عبر حل القضية الفلسطينية وقيام الدولتين. ووصل هذا الطرح السياسي إلى مداه الأقصى مع تسلم أوباما الإدارة الأميركية؛ الذي أخذ يشير في أكثر من تصريح له إلى أن حل الصراع العربي الإسرائيلي يخدم المصالح القومية للولايات المتحدة”. ولكن الكلام الأميركي لم ينجح في تحقيق أي شيء ملموس على الأرض. وقد عبر عن مضمون السياسة الإسرائيلية الرافضة لأي سلام بشكل واضح الجنرال المخضرم (يوسي بيليد) حين طالب الإسرائيليين بألا يخسروا “فرصتهم التاريخية” التي حصلوا عليها في عام 1948، وطالب بالمحافظة عليها “بأي ثمن ومهما طال أمد الصراع”. ولذلك كل مواهب جورج ميتشل التفاوضية والمهنية الموصوفة لم تجد أذاناً صاغية لدى الإسرائليين، واستأنفت هجمتها الاستيطانية لالتهام ما تبقى من فلسطين والقدس. ولم تأتِ أكلَها تصريحات أوباما ضد الاستيطان؛ فاستمرت إسرائيل في خطتها مما اضطر لأن يقول في تصريح شهير له: “يبدو أننا تفاءلنا أكثر من اللزوم بحل الصراع العربي الإسرائيلي”.
ثم جاء الشرط التعجيزي بمطالبة العرب باعترافهم بيهودية دولة إسرائيل مقابل السلام، في الوقت الذي يوجد في إسرائيل حوالي مليون ونصف من السكان العرب المسلمين والمسيحيين. وهذا يعني أن مفهوم(الجيتو) ورفض التعايش مع الآخر يشكل أساس السياسة الإسرائيلية. فقد انتقل مفهوم الجيتو لدى الإسرائيليين من مستوى الحي في مدينة إلى مستوى الدولة في الإقليم الشرق أوسطي. وبالإضافة إلى ذلك، ربما لديهم خوف، إذا ما وضع الصراع أوزاره، من قيام صراعات داخلية بين يهود شرقيين وغربيين، أو بين هويات يهودية مذهبية وإثنية قادمة من أنحاء العالم كله؟ لذلك تعارض إسرائيل إقامة دولة مواطنة ديموقراطية في فلسطين، يعيش على أرضها العرب واليهود. وكذلك تبذل كل ما بوسعها لتتنصل من خيار الدولتين. فلديها خوف من الديموغرافيا والزمن وتغير المعادلة الجيوسياسية. وخوفها هذا يدفعها إلى تثبيت الوضع الراهن الذي يساعدها على القضم التدريجي. ولذلك لم تجد أفضل من تبني استراتيجية رفض السلام والحفاظ على ديمومة الصراع مع العرب؛ باعتبارها تضمن استمرار دولتهم التسلطية وصراعاتهم المذهبية والعشائرية، وهي عامل رئيسي في الضعف العربي وعجزه على كل المستويات.
-2-
لكن استراتيجية رفض السلام أخذت تصطدم بتداعيات الفراغ الجيوسياسي الذي يتسع يوماً عن يوم في المنطقة. فخروج مصر والعراق من معادلة ميزان القوى الإقليمي أدى إلى دخول كل من ايران وتركيا على خط الصراع العربي الإسرائيلي. وقد بدأنا نشهد ملفاً إسرائيليا شائكاً(حرب 2006 مع حزب الله، عملية الرصاص المصبوب وتقرير غولد ستون، توتر العلاقات مع تركيا، مشاكل ثقة مع الدول الأوربية بعد اغتيال المبحوح..). وقد شاهدنا منغصات هذا الملف الإسرائيلي الناشئ في شكل ومضمون الهجوم الوحشي الأخير على قافلة الحرية في المياه الدولية، ولم يكن صدفة أن توجه الضربة المميتة للناشطين الأتراك. وإذا كان الهجوم الإسرائيلي قد اتسم برعونته ووحشيته، فقد غلف ارتباكاً وافتقاداً للرؤية؛ حين وُجِّه إلى قافلة سلمية وإنسانية، وترعاها دولة تجمعها مع إسرائيل علاقات تحالفية تاريخية، سياسية وعسكرية واقتصادية، عدا عن كونها عضواً رئيسياً في الحلف الأطلسي.
خلَّف سلوك إسرائيل، نتائج استراتيجية ليست في صالحها. من أولاها تفاقم اختلال العلاقات مع تركيا، أما النتائج في العواصم الغربية ودول الاتحاد الأوربي، على المستويين الرسمي والشعبي، فلم تصبُّ في الطاحونة الإسرائيلية. وكذلك الحال في المنظمة الدولية، فعلى الرغم من تعطيل الولايات المتحدة قرار الإدانة لإسرائيل، فتصريحات الأمين العام وموقف المجلس العالمي لحقوق الإنسان كانت في مجملها إيجابية وساعدت على تعويم مسألة حصار غزة على السطح لمعالجته وللمطالبة بتحقيق دولي حول الهجوم. وقد سارت في كل من لندن وباريس وروما وأثينا وعواصم أوربية كثيرة مظاهرات شعبية عارمة تندد بسلوك الدولة الصهيونية.
لم تكن الولايات المتحدة مسرورة من رؤية اتساع حجم الفجوة بين أهم حليفين تاريخيين لها في المنطقة. طبعاً هي من جهة لا ترغب أن ترى حليفتها تركيا على هذه الدرجة من الاستقلالية عن الغرب، ومن جهة أخرى لا تسرها هذه الإدانة العالمية الواسعة النطاق لإسرائيل بسبب العلاقة العضوية التاريخية التي تربطها بها، ولما يملكه اللوبي الصهيوني من تأثير كبير على قرار النظام الأميركي وانتخابات الكونغرس. وهذه العلاقة دفعت الإدارة الأميركية لأن تمسك العصا من وسطها وتأخذ على عاتقها ترقيع السلوك الإسرائيلي واحتواء تداعياته.
عكس الموقف الأميركي، بشكل أو بآخر، إحراجاً وتململاً من سياسة الحكومة الإسرائيلية. مضمون هذا الموقف عكسته تصريحات المسؤولين الأميركيين. وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تقول: إن الوضع لم يعد محتملاً في غزة، ولا بد من معالجة الحصار”. بينما نائب الرئيس بايدن يستهجن كل هذا الشجب للموقف الإسرائيلي، ثم يستدرك فيقول: لكن الوضع الإنساني في غزة يحتاج إلى معالجة. أما الرئيس أوباما يرفض الإدانة ما لم تظهر نتائج التحقيق، لكنه يرسل على الفور نائبه في مهمة عاجلة إلى مصر لاحتواء بشاعة الموقف الإسرائيلي، ولمنح الجناح العربي المعتدل (مصر والسعودية) شيئاً من الوجود في حمَّى السباق على الأدوار والنفوذ في المنطقة. نرى ذلك في تصريح بايدين بعد لقائه مع حسني مبارك: إننا الآن نتشاور مع حلفائنا لمعالجة الأوضاع الإنسانية والاقتصادية والأمنية والسياسية في قطاع غزة”. وكذلك جاء تسريع اجتماع مجلس الأمن واتخاذه قرار رزمة عقوبات رابعة على إيران ليسهم في احتواء السجال التركي الإسرائيلي. يتابع أوباما تجميل الموقف الأميركي، فيصرح لدى استقباله الرئيس محمود عباس:” إن الوضع في غزة لم يعد يحتمل، و إن الوضع بين اسرائيل والفلسطينيين سيحقق تقدماً قبل نهاية 2010″، ويتعهد بتقديم 400 مليون دولار لمساعدة للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. ولكن وزير الدفاع الأميركي (غيتس) يذهب في اتجاه آخر، فيحمَّل دول الاتحاد الأوربي مسؤولية الجنوح التركي الجديد ضد إسرائيل بسبب عدم إدخالها إلى الاتحاد.
-3-
كان للهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية، انعكاسات مثيرة للاهتمام على المستوى الإقليمي . ومن أهمها بروز حجم الدور الكبير الذي أخذت تحتله تركيا في المنطقة بانخراطها الفاعل في قضايا الشرق الأوسط خاصة في المسألة الفلسطينية. وهي ربما صارت تشكل أكبر من عامل توازن فاعل في المنطقة. طبعاً ما كانت لتحتل تركيا دورها الإقليمي هذا لولا عناصر القوة التي تمتلكها. فهي دولة لها وزنها في حلف الأطلسي وجيشها يشارك في مهمات عسكرية دولية في كل من افغانستان ولبنان، وتمتلك اقتصاداً يُعْتدُّ به أهلَّها للدخول في مجموعة العشرين الأكثر غنىً وتأثيراً في العالم. وموقعها الجيوسياسي يجعل منها الجسر الرئيسي بين أوربا وآسيا وممراً لأنابيب النفط من روسيا وايران وآسيا الوسطى إلى البحر الأبيض المتوسط. و عدا عن ذلك، فقد ساعدها ما تحمله من إرثٍ تاريخي إسلامي في الانخراط في القضية الفلسطينية إضافةً إلى توجهها الإسلامي المعتدل والديموقراطي العلماني. وهذا جعلها بالنسبة إلى محيطها دولة جذب وليست دولة نبذ، وسياستها تلقى ارتياحاً وقبولاً في السا حة العربية، خاصة أن مشروعها لا يهدف إلى تصدير نظام ايديولوجي أومذهبي أو شمولي.
تتحمل دول المنظومة العربية جزءاً كبيراً من مسؤولية الوضع الجيوسياسي الناشئ ، فقد فشلت في أن تشكل دوراً وازناً في المعادلة الإقليمية، فخلال حوالي خمسة عقود كانت تبدد كل القوى المتوفرة لديها من أجل تكريس الدولة التسلطية وإجهاض قيام الدولة الحديثة القائمة على الديموقراطية والمواطنة. وكذلك لا يوجد أدنى شك في أن الولايات المتحدة تتحمل جزءاً من هذه المسؤولية، حين تواطئت مع إسرائيل بشكل كامل وتركت لها الحبل على غاربه عسكرياً وسياسياً.
ضمن هذا الفراغ العربي غير المسبوق، من غير المستغرب أن يلقى الموقف التركي تأييداً كبيراً في الشارع العربي. ولكن ليست مسألة لا تثير الانتباه، أن يحمل المتظاهرون العلم التركي وصور رجب طيب أردوكان في العواصم العربية التي كانت قد رزحت حوالي خمسة قرون تحت الاحتلال العثماني..
هل يشكل الهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية ارتكاسة ايجابية لدى القادة العرب لكي يحزموا أمرهم من أجل التأسيس لقوة دولهم وليس لقوة سلطاتهم القمعية؟ وكذللك هل تدفع الخطوة التركية الطبقة السياسية الفلسطينية في كل من غزة ورام الله لكي تحزم أمرها على أجندة موحدة لمقاومة المحتل الإسرائيلي لإجباره على السلام العادل؟
في اعتقادي، إن إسرائيل أكثر ما تخاف السلام مع العرب وتبعاته عليها أخطر من أي حرب معهم. إن مقاومة الاحتلال مشروعة، ولكن شرط نجاحها وحدتها الوطنية والسياسية، بدونها لا تستطيع مراكمة الأوراق التي تجبر المحتل على التفاوض للوصول إلى السلم.
zahran39@gmail.com
• دمشق في 15/6/2010
خنق إسرائيل للسلام واحتدام الصراع على تعبئة الفراغ العربي
– مقال ممتاز ورؤية ثاقبة وتحليل علمي دقيق