قبل نحو عقدين من الزمن، و لأسباب سياسية معروفة، لم يكن هناك ما يعتد به من الروابط أو الاتصالات أو علاقات التعاون ما بين فيتنام وأقطار الخليج العربية، باستثناء الكويت.
غير أن هذا المشهد بدأ يتغير تدريجيا، و تحديدا منذ مطلع التسعينات التي شهدت أحداثا و متغيرات دولية مثيرة، اضطرت فيتنام إلى التأقلم معها عبر الانفتاح على العالم و تبني سياسات خارجية أكثر واقعية و مرونة، و القيام بإصلاحات اقتصادية شملت الأخذ بمبدأ اقتصاد السوق و التخلص من مظاهر حقبة التخطيط المركزي الطويلة و وضع نظام مالي و مصرفي جديد و غيرها من الإجراءات التي لعب فيها رئيس الوزراء الحالي “نغوين تان دونغ” دورا هاما، بدليل اختياره مؤخرا من قبل مجلة “وورلد بيزنيس” المرموقة ضمن الشخصيات العشرين الأكثر تبنيا للإصلاح والانفتاح و الأكثر جهدا في مجالات التنمية على مستوى القارة الآسيوية.
هذه التحولات، التي كان من شأنها بروز فيتنام خلال فترة قصيرة كإحدى أسرع دول جنوب شرق آسيا نموا و بمعدلات سنوية تراوحت ما بين 7- 8 بالمئة، و تحولها إلى احد أهم مراكز الجذب الاستثماري و السياحي في القارة الآسيوية، شجعت الخليجيين على طرق أبواب فيتنام بحثا عن فرص الاستثمار و التعاون و التبادل، محاولين على ما يبدو اللحاق بالأوروبيين و اليابانيين والأمريكيين الذين سبقوهم إلى ذلك فجنوا فوائد وامتيازات كثيرة.
صحيح أن الخليجيين تأخروا كثيرا في هذا المجال، إلا أن الفرص كانت ولا تزال سانحة ومغرية في ظل الاستقرار السياسي و الاجتماعي الذي تنعم بها فيتنام و حاجتها إلى المزيد من الاستثمارات الاجنبية للارتقاء بقطاعات عديدة، و اتخاذها مؤخرا للعديد من الخطوات القانونية والإدارية الهادفة إلى مكافحة الفسادين الإداري و المالي و تعزيز الشفافية تحت ضغط المؤسسات الدولية المانحة و تمشيا مع شروط قبولها في العام الماضي في منظمة التجارة العالمية. هذا فضلا عن اهتمام خاص من الجانب الفيتنامي بتعزيز آفاق التعاون مع دول الخليج في ظل ما تشهده الأخيرة من حراك و نمو اقتصادي و ما تراكم لديها من فوائض عائدات النفط، بدليل إقدامه في السنوات الأخيرة على إنشاء علاقات دبلوماسية كاملة مع معظم الأقطار الخليجية، و نيتها افتتاح ممثليات جديدة لها في المنطقة إضافة إلى سفارتها في الكويت و قنصليتها العامة في دبي، وإلحاحه على فتح ممثليات للدول الخليجية في هانوي و مدينة هوشي منه (سايغون سابقا) حيث لا توجد لهذه الدول أي تمثيل، و ذلك من اجل تسهيل الحصول على التأشيرات و التصديقات.
و يمكن في سياق الإشارة إلى زيادة اهتمام الخليجيين بفيتنام ايراد العديد من الأمثلة أبرزها: قرار “شركة المملكة القابضة” السعودية التي يملكها الأمير الوليد بن طلال في أوائل العام الجاري استثمار أكثر من 65 مليون دولار في بناء الفنادق و المنتجعات السياحية في مناطق “دا نانغ” و”نانوي” و “هوشي منه” من اجل مواجهة التدفق السياحي المتزايد على فيتنام من أوروبا واليابان، وحاجة البلاد إلى المزيد من الفنادق الفاخرة. و افتتاح أول خط جوي مباشر ما بين الخليج وفيتنام بمبادرة من الخطوط الجوية القطرية التي صارت تسير منذ مارس المنصرم أربع رحلات في الأسبوع ما بين الدوحة و”هوشي منه” التي بدلت ردائها الثوري و تحولت اليوم إلى مدينة كزموبوليتينية تعج بالحركة والنشاط و المجمعات التجارية الحديثة و المسارح و أماكن الترفيه الراقية و مظاهر العولمة. و تعهد الكويتيين مؤخرا بضخ أكثر من 500 مليون دولار في قطاع النفط الفيتنامي من اجل بناء مصفاة للتكرير في مقاطعة “تانه هوا”، فضلا عن إعلانهم عن قرب إضافة فيتنام إلى قائمة الدول الثمانية و الثلاثين التي يحصل رعاياها على تأشيرات الدخول بمجرد وصولهم إلى المنافذ الكويتية، و ذلك بهدف تعزيز التواصل و التعاون مع الشعب الفيتنامي.
وفي السياق نفسه يمكن الإشارة إلى عوامل أخرى مساعدة لجهة تعزيز التواجد الخليجي على الساحة الفيتنامية و تنمية التبادل و التعاون الثنائي، منها: توقيع السعودية و فيتنام على أول اتفاقية للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري و التقني بين البلدين منذ تأسيسهما لروابط دبلوماسية في عام 1999 ، و ذلك أثناء زيارة وزير الدولة السعودي للشئون الخارجية نزار بن عبيد مدني لهانوي في مايو 2006. ومنها أيضا توقيع قطر و فيتنام في فبراير الماضي على أربع اتفاقيات حول العمالة و الطيران و الازدواج الضريبي و حماية الاستثمار، و ذلك أثناء زيارة الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني وزير الخارجية القطري آنذاك لهانوي.
أما الكويت المعروفة خليجيا بأسبقيتها في العديد من المجالات، فلم تكتف بكونها أول بلد خليجي يؤسس علاقات دبلوماسية مع هانوي و ذلك منذ عام 1976 ، و يستقبل على أراضيه أول سفارة فيتنامية في المنطقة ، ويقوم بمبادلات تجارية مع فيتنام ( بلغت قيمتها في العام الماضي نحو 380 مليون دولار)، و يقدم لها القروض و المساعدات من خلال الصندوق الكويتي للتنمية العربية (ستة قروض بقيمة إجمالية زادت على 100 مليون دولار، كان آخرها قرضا في العام الماضي بقيمة 11.6 مليون دولار لتمويل مشروع للري في إقليم “داك لاي”) ، و يفتتح اكبر مصارفها التجارية (بنك الكويت الوطني) مكاتب له في فيتنام، و إنما صارت أول بلد خليجي يبعث برئيس وزارئه إلى فيتنام. و الإشارة هنا بطبيعة الحال إلى الزيارة التي قام بها الشيخ ناصر محمد الأحمد الصباح في أواخر الشهر الماضي إلى هانوي، و التي تخللتها توقيع بروتوكول حول إنشاء لجنة وزارية مشتركة للتعاون الاقتصادي و العلمي و التقني، و اتفاقية حول الازدواج الضريبي و حماية الاستثمار، و أخرى حول التعاون ما بين غرفتي تجارة و صناعة البلدين، وقرار كويتي بافتتاح سفارة في هانوي و قنصلية في مدينة “هوشي منه” قريبا.
ومن المسائل المتداولة بكثرة بين الجانبين الخليجي و الفيتنامي، مسألة استقدام دول الخليج للعمالة الفيتنامية، والذي شرعت به ابتداء المملكة العربية السعودية قبل عدة سنوات ضمن سياستها الرامية إلى تنويع مصادر الاستقدام و تخفيف الاعتماد المكثف على رعايا دول شبه القارة الهندية ممن باتوا يشكلون أكثر من مليوني نسمة. ورغم أن إجمالي حجم العمالة الفيتنامية في السعودية لم يتجاوز منذ ذلك الحين الرقم 500 ، لأسباب ذات علاقة بعدم وجود سوابق مشجعة و عدم إجادة الفيتناميين للغة الإنجليزية أو أي لغة أخرى مشتركة، فان مصادر وزارة العمل السعودية تقول أن بامكان أسواق العمل في المملكة استيعاب أكثر من مائة ألف عامل فيتنامي ماهر في السنوات القادمة. و من جهة أخرى أبدت قطر في العام الماضي اهتمامها بالعمالة الفيتنامية، حيث قال وزير خارجيتها أن بلاده تتطلع إلى استقدام أكثر من 60 ألف عامل من فييتنام في السنوات القادمة. أما دولة الإمارات، فطبقا لنائب وزير التجارة الفيتنامي الذي زارها مؤخرا واجتمع فيها مع رجال أعمالها، تستقدم ما معدله 3000 عامل فييتنامي في العام، جلهم من العاملين في مجال الإنشاءات و مصانع الألبسة و بقدر اقل في الصناعة الفندقية المزدهرة. و مما أضافه المسئول الفييتنامي، أن بلاده تحاول إرسال المزيد من عمالها المهرة و غير المهرة إلى الإمارات و دول الخليج والشرق الأوسط، أسوة بما تفعله حاليا مع ماليزيا و تايوان و اليابان والولايات المتحدة، مضيفا أن فييتنام قطعت شوطا جيدا في مجال إعداد عمالتها للعمل في القطاعات الخليجية ذات الطلب المتزايد على العمالة الوافدة مثل القطاعات الفنية و الصحية ، والخدمة المنزلية، و أنها الآن بصدد التعامل مع العائق المتبقي الوحيد و هو تدريبهم على مهارات اللغة الإنجليزية.
elmadani@batelco.com.bh
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية