انها لفضيحة كبرى، وبكل المعايير، تلك المراوحة حول النزاع السياسي الراهن في لبنان. مجرياتها القريبة، حرب تموز، التي خيضتْ بالرغم من ارادتنا، ومآلها مسلسل التخوين والاعتصام وحريق الدواليب السامة، وشحنات اسلحة، واخيرا تفجيرات مفخّخة بآمنين من الاهالي على الطريقة العراقية… كل ذلك على وقع تصريحات وتدخلات خارجية، اقليمية ودولية، لم يعد قادة النزاع يتورّعون عن البوح بها بلا مواربة ولا استحياء. فلا حرج في الحروب!
حتى الشكليات المتعارف عليها يتم تجاوزها. خذ رقصة الديبلوماسيين المعنيين مباشرة وبقوة في النزاع اللبناني. السفير المعني يتكلم كأن الساحة ساحته، ساحة اجداده. السفير ينصح دائما، السفير يحذر. السفير حمل رسالة. السفير يعيد انتاج السياسة في لبنان… في الكواليس قد تجري اشياء اكثر اثارة للخجل. ولكن ما يبلغنا كاف لإثارة المخيلة التابعة، للحثّ على القبول بالتبعية، على «تطبيعها». فالتبعية ليست حكراً على الاستعمار، ولا التطبيع يتمّ مع الصهيوني وحده.
والرقصة هذه تضبطها مواقف «المركز» وقراراته. بوش وخامنئي. كلاهما اعلنا صراحة بأن لبنان ساحة منازلة بينهما، او احدى ساحاتها. الامر معروف ومتداول. ومقبول. كل طرف محلي لبناني يتلقّف اقوال «مركز» خصمه المحلي، «الوطني». يزايد عليه، ويتناسى ان «مركزه» ايضا له ما يناظره من تدخل منهجي ومنظّم في شؤون البلد الذي يقول انه بلاده… الحبيبة.
رقصة اخرى: زيارات قادة النزاع الى «المركز». ولا حاجة الى سرد امثلة عن زيارات لهذا «المركز» او ذاك، والتشاور معه حول النزاع. ولا حاجة ايضا للإسترسال في وقائع واقوال قبل الزيارة وبعدها: فلا زيارة للمركز إلا وتكون نتيجتها مزيدا من التصعيد مع طرف النزاع المحلي، اي «الوطني». وكأن المركز «مكّن» الزائر على ابن بلده…
ثم بعد ذلك يأتونك بـ»مشاريع حلول». هل يمكن احصاء مشاريع الحلول؟ خصوصا تلك «المقترحة» بعد زيارة، هي دائماً تحريضية، الى «المركز»؟ الم تلاحظ ذلك؟ أم ان شدّة الاعتياد على الشيء تجعله «عاديا»؟ مع انها كذبة «عادية» إضافية… يسامح عليها قانون الغاب السياسي الذي نحن فيه.
«عادية» أيضا، تلك التحليلات للنزاع الغائصة في تفاصيل النزاعات الداخلية الحاصلة في «المراكز» الكثيرة، لتستنتج منها سلوك اطراف النزاع اللبناني المقبل.
قرأتُ ملفا عن التبدلات الداخلية المرتقبة في ايران اليوم واحتمال ازاحة احمدي نجاد («المراهق») لصالح رفسنجاني («الحكيم»). وكانت خلاصته حتمية عودة رفسنجاني الى الحكم، و»استحقاقا مفصليا» لـ»حزب الله»… «عاديا»، مرة اخرى!
والامر تجاوز الكتابات «الثقيلة»؛ وصرت تسمع الآن عن «طبخة حامية تعدها القوى الاقليمية» او عن»حل متوقع بدليل التوافق الدولي»… بغية «الخروج من الازمة اللبنانية». لا يهمّ ان يكون حصل التوافق ام لا. المهم ان اللبنانيين يفكرون سياسيا وكأن ارادتهم مسلوبة تماما… تماما، اي بالمطلق.
خذ ذاك الاستنتاج الآخر لأحد كبار المحللين اللبنانيين، بعد زيارة عمرو موسى الى سورية، بأن «الكرة الآن قي الملعب السعودي-الايراني وأي بدائل او اقتراحات وسطية لتجاوز الازمة تعجز عنها القيادات اللبنانية سواء في الموالاة او المعارضة»؛ كلمة تمسّ ارادة القادة وشرفهم السلطوي. ولا من يحتج منهم على النيل منهما…
وبتسليم كهذا، يديم اللبنانيون إستلابهم. ويكونون هم المسؤولين عن المزيد من الاستلاب. فيصنعون بذلك واقعهم المستَلَب؛ واقع من يتتظر الفرج من ارادة الغير. بمئة حجة وحجة، واهمها اننا «طول تاريخنا هكذا…». من دون ان يخيفنا هذا التاريخ، من دون ان يحرضنا على السعي من اجل ان يكون غير ذلك. ذلك أن الامر «عادي». ولا إلتفاتة من احد بأن هذا التسليم للارادة الخارجية؛ التسليم الفردي ومن بعده الجماعي، هو من صنف المعارك اللاإستقلالية بإمتياز. معارك ضد الاستقلال. الاستقلال الذي يبدأ بارادة الفرد الحرة، وينتهي بارادة الجماعة الحرة. لا الحرية الطوباوية التي عهدناها في مراهقتنا؛ بل الحرية الممكنة، في عالم تكثر فيه الخيوط، وتتداخل العريضة منها بالدقيقة. الحرية الممكن صياغتها في وعينا على الاقل، والتي قد تنقذنا من غواية الاسترسال بالتسليم المطلق لإرادة غيرنا.
تصوّر مثلا ان النقطة «العالقة» في مشاريع الحلول المقترحة هي: المحكمة او الحكومة. اي، يحلّ كل النزاع، إن اعطي حق الفيتو في الحكومة لـ»حزب الله» وجماعته، ثم التوقيع بالمقابل على مشروع المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري ورفاقه. وعقدة النقطة «العالقة» هذه هي في التزامن: ايهما يقَّر قبل الآخر؟ المحكمة ام الحكومة؟ فاذا افترضنا ان «توافقات» اقليمية ودولية افضتْ الى هذا «الحل»، فماذا من بعده؟ الى اين يأخذنا؟ ما هي آفاقه؟ هل تكون شروطه مؤقتة، وقد تتغير هذه الشروط؟ او، هل هذا «الحل» هو انعكاس لعودة التوازن الاقليمي-الدولي، ام انها برهة هدنة؟ قبل اشتعال نيران حربهما؟ ام قبل التسوية النهائية؟
حاول ان تستعين بصاحب فراسة في امور السياسة. واسأله عن المستقبل القريب. يجيبك بكل صدق: ان الامور سوف تبقى على ما هي عليه الآن. بين تصعيد وآخر، بين مفاجأة واخرى، الى ان تعود المنطقة فتتوازن… بعد حرب او بالصفقات.
معقول؟ معقول ان نرهن ارواحنا، وبهذه الدرجة من الوضوح والصراحة، لنزاعات غيرنا… ومن دون ان يرفّ لنا جفن؟ انعدام غيرتنا الوطنية؟ وقاحة تجاه انفسنا؟ شيء من الصبيانية؟ أم مجرّد إعتداد وخفّة؟
الكل الآن يحب لبنان، يموت بلبنان… وبالحياة. الكل يتنافس على إقناعنا بأنه هو الذي يحب لبنان اكثر. أن تحبه كل هذا الحب، ان يقترن حبك له بحبك للحياة، ثم ان تسلم رقبته الى غيرك، فتلك معضلة شبه رياضية؛ يفكّها اللبنانيون لو وصفوا بدقة الـ «لبنان» هذا الذي يحبون. لماذا يحبونه؟ كيف يحبونه؟
الحياة