نقطتان أثارتا حفيظة الأكراد من جديد. النقطة الأولى: تشكيك نوري المالكي بدستور العراق على انه أنجز في “زمن غير طبيعي”، في حين يرى الأكراد ان الدستور فقط يمكن أن يساهم بإعادة بعض من حقوقهم، ويمكن أن يلعب دور “حكم” أو ” حافظ” بينهم وبين الحكومة المركزية. التشكيك بالدستور يعني ان العلاقة بين الأكراد والمكونات العراقية السياسية الأخرى على حافة الهاوية، وصارت قاب قوسين أو أدنى من مرحلة أخرى من الصراع الداخلي.
تجدر الإشارة (وحسب الأكراد) ان نوري المالكي كان عضو مجلس النواب العراقي وكان مسؤولاً عن ملف كتابة الدستور.
النقطة الثانية: إصرار المالكي على تقوية صلاحيات الحكومة المركزية على حساب الصلاحيات الإدارات المحلية (الفرعية) في وقت لا توجد أي إدارة فعلية غير إدارة حكومة إقليم كردستان العراق، وفي حين ان إقليم الجنوب /أو البصرة لم تنجز بعد والأهالي هناك يحضرون أنفسهم للنزول إلى الشارع مطالبين بتشكيل الإدارة الخاصة بهم. والحق ان تشكيل إدارة البصرة وغيرها ربما يطول لأن فكرة تشكيل الإدارة الخاصة لم تتبلور بعد في الذهنية السياسية لمكونات السياسية في تلك المنطقة. إن التبعية السياسية لتلك المكونات السياسية لجهات إقليمية هي، ربما، سبب أساسي في إعاقة بلورة الإدارة الخاصة بالشيعة في الجنوب.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا،هو: لو كان هناك إقليم يحكم ذاته في الجنوب(الشيعة)، هل كان المالكي سيطلب زيادة صلاحيات الحكومة المركزية؟ الواقع يقول ان طلب المالكي زيادة صلاحيات الحكومة المركزية يعني ان الشيعة سوف لن يؤسسوا إداراتهم الذاتية في جنوب العراق، ولعل كل الدعوات التي تصدر من قبل بعض الأطراف على تؤسس إدارة ذاتية في البصرة يذهب هباء منثوراً. الملم للواقع العراقي السياسي والجيوسياسي يعرف ان طلب المالكي لزيادة صلاحيات المركز سببه هو ان يبقى الشيعة على رأس الحكومة المركزية حتى تستطيع الدولة أن تكون صاحب أي قرار ولعل هذا يفيد إيران. بمعنى آخر، إن إيران تريد من العراق ان يكون لها، وان يكون خاضعا لقرارها، وتقسيم العراق إلى إدارات مع زيادة صلاحية هذه الإدارات لا تستفيد إيران منه.
في الحقيقة ان لإيران تأثيراً بالغاً في القرار العراقي(الشيعي). ولعل الصدام الأخير بين البيشمركة والمالكي سببه كان إيران. وكان المراد من طرد البشمركة من خانقين هو ان تبقى خانقين تحت سيطرة المالكي حتى لا تخسر إيران هذه المنطقة المهمة بالنسبة لها وذلك لبناء منطقة آمنة لها في الحدود على غرار ما تطلب تركيا على حدود كردستان. وإذا كانت حجة تركيا منع عناصر العمال الكردستاني، فان حجة إيران، وبالعكس، هي سهولة الدخول إلى العراق.
وتجدر الإشارة ان المالكي انتقد في كلمة أمام مؤتمر النخب والكفاءات العراقية السبت الفائت تعاظم صلاحيات الأقاليم على حساب المركز وأكد ان الدستور الذي كتب خلال ثلاث سنوات وأنجز برضى جميع المكونات وصوت عليه تقريبا 80% من الشعب العراقي هو السبب. وقال ان الدستور “كتب في ظروف غير طبيعية مطالبا” وأنه حان الوقت لـ”وضع النقاط على الحروف” لئلا “تصادر الدولة”، نائيا بنفسه عن ما ورد في الدستور من تقسيم “خاطئ” للصلاحيات.
بيد ان الوقائع العراقية الحيّة أثبتت ان العراق لا يمكن بلسمة جراحه إلا عبر إيجاد التوازن بين المركز والأقاليم. ولعل تجربة الحكم المركزي ما زالت أمام أعين العراقيين، وهي تجربة وان تباهى أهلها بصحتها وأهميتها إلا إنها كانت سببا لتشرذم العراقيين وسببا لظهور العنصريات والهويات القاتلة بدلا من الثقافة التعايشية.
ثمة من يرى بان المالكي استرجع الحراك السياسي إلى نقطة الصفر الذي بدأها العراقيون في مؤتمر لندن قبل سقوط النظام العراقي بسنة، حيث استطاعت القوى العراقية في هذا المؤتمر والمؤتمرات التي تلته تأسيس ” الشراكة السياسية”. وكانت هذه الشراكة نقلت العراقيين على السكة الأخرى من الحراك السياسي الديمقراطي. كانت عهداً جديداً بين المكونات العراقية بامتياز. الكل تنفسوا الصعداء بعد اللقاءات الحميمية التي جمعت العراقيين على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم. إلا أن الان يظهر أن هذه القوى العراقية نسيت ما تم نسجه لبناء الحكم الجديد. الآن يعترض نوري المالكي على الصيغ المتفقة عليها بين الأكراد والقوى العراقية.
الفيتو والشراكة السياسية..
قبل شهر قال المالكي:”لا يمكن للدولة أن تقوم دون سلطة مركزية والشراكة السياسية لا تعني أن يضع طرف فيتو ضد طرف آخر”.
في كتاب” الديمقراطية التوافقية: في مجتمع متعدد”، لآرنت ليبهارت الصادر عن معهد الدراسات الإستراتيجية في بغداد وبيروت، وفي معرض الحديث عن ” الفيتو”، يرى ليبهارت ان هناك ثلاثة أسباب لعدم كون خطر” الفيتو” خطراً جدياً بقدر ما يظهر. الأول،أن الفيتو هو فيتو متبادل تستطيع كافة القطاعات الأقلية أن تستعمله. ويستعمل كلهون مصطلح” سلبية متبادلة” كمرادف للأكثرية المتراضية. والإفراط في استعمال الفيتو من قبل الأقلية مستبعد لأنه قد ينقلب ضد مصالحها الخاصة أيضاً. الثاني، أن مجرد كون الفيتو متاحاً كسلاح ممكن يمنح شعوراً بالأمان يجعل استعماله مستبعداً: “إن إعطاء كل مصلحة، أو قطاع، قوة الحماية الذاتية، يحول دون نشوء أي صراع أو نزاع بينها على الغلبة، وبذلك… يقمع كل شعور يحسب أنه قد يضعف التعلق بالكل”. ولذلك يذهب جون س . كلهون إلى أن كل قطاع “يرى ويشعر بأنه يستطيع ترقية ازدهاره الخاص بأفضل السبل عبر مصالحة الإدارة الطيبة عند الآخرين وترقية ازدهارهم”. أخيراً، سوف يعترف كل قطاع بخطر الطريق المسدود والجمود اللذين قد يترتبا على الاستعمال غير المحدود للفيتو: “إذ يشعر كل قطاع بوطأة الضرورة الملحة لتفادي تعطيل عمل الحكومة… يضطر كل قطاع للنظر إلى التضحية التي قد يتوجب عليه تقديمها والمتمثلة بالتنازل عن مصلحته الخاصة تأميناً للمصلحة والسلامة للجميع، بأنها ضئيلة قياساً على المضار التي قد تنزل بالجميع، وفي الجملة مصلحة وسلامته الخاصتين، إذا ما تشبث معانداً بخطة عمل مغايرة.”
ويمضي ليبهارت بالشرح ويقول: المشاركة في الائتلاف الواسع تتيح ضمانة سياسية هامة لقطاعات الأقلية، لكنها ليست حماية مطلقة ولا خالية من العيوب. ينبغي للقرارات أن تتخذ في الائتلافات الواسعة، وعندما تتخذ هذه القرارات عبر أكثرية الأصوات، فان تمثيل الأقلية في الائتلاف يمنحها فرصة لتقديم اقتراحاتها بأقصى ما يمكن من قوة لشركائها في الائتلاف، لكنها قد تهزم مع ذلك أمام أصوات الأكثرية… ولذلك فلا بد من إضافة الأقلية إلى مبدأ الائتلاف الواسع، ولا يمكن لغير هذا الفيتو أن يمنح كل قطاع ضمانة كاملة للحماية السياسية.
بيد ان المالكي يطرح أفكاراً مغايرة عن تطبيقات الفيدرالية في الدول الأخرى، ومن يدري ربما أراد المالكي ان يضيف إلى النظريات المطروحة شيئاً من تجربته السياسية.
والحال.. إن الشراكة السياسية لها معنى واسع و كبير في القاموس السياسي ولكنها لا تبنى بسهولة. فهي تبنى بعد سلسلة من النقاشات و السجالات العميقة بين الأطراف. ومن المستبعد أن تؤسس الشراكة دون رضى طرفي المعادلة ودون مراعاة مصالحهما المشتركة. فالشراكة عقد سياسي ومراعاة كل طرف للطرف الآخر في مصالحه و تطلعاته. وهنا تكون الشراكة السياسية قوية. والفيتو هنا “فرملة” وسد منيعا أمام ظهور استبداديات والتطاول على مصالح الأقلية المؤتلفة . الفيتو هو آلية لمنع مخالفة العهد أو العقد. والسؤال هو: لو لم يكن هناك “فيتو”، ماذا بوسع الطرف المعني بالشراكة (الأقلية) أن يفعل؟ فهذا الطرف (الأقلية) له آلية وحيدة للحفاظ على مصالحه وهي “الفيتو” ومن خلال هذا “الفيتو” فقط يمكن الحفاظ على الشراكة.
المالكي الذي قال (في بداية حكمه) انه سيسعى لإزالة مفردات تسهم في إيجاد الشرخ وانه سيتعامل مع الأوضاع بروح عراقية، يواجه منذ بداية مهمته إشكالات الطائفية والمحاصصة لأنه يبدو انه ما زال أمام العراقيين مسافة واسعة لفهم مقومات الشراكة والقبول بالآخر ونبذ الأنانية والتفكير في إطار ضيق. ومع ان الكل يؤكدون على الوحدة، لكن تصرفاتهم لا توحي بذلك. والحال، قد يتساءل السائل،هل سيزول التحالف الشيعي الكردي؟
العلاقة مع الشيعة..
في الحقيقة ان ما يصدر عن المالكي سوف لن يكون له تأثير مباشر على التحالف الشيعي الكردي. ولعل الأكراد ينظرون إلى الشيعة على أنهم مثلهم عانوا العذاب والاضطهاد لفترات طويلة في العراق، وهذا الاضطهاد الطويل افرز نوع من العلاقة الوطيدة، والإفراط بها يمتد إلى الجانب الأخلاقي.
والحق ان هنالك إتجاهين في الوسط الشيعي في مقاربة للمسألة الكردية: اتجاه له علاقة تاريخية مع الأكراد ويربطه بهم بأكراد علاقات مصيرية، وهو اتجاه يمثله المجلس الأعلى للثورة الإسلامية برئاسة عبد العزيز الحكيم. لم ينس الأكراد الفتوى التي صدرت من المرحوم باقر الحكيم عندما نظر إلى قتلى الأكراد في المعارك مع نظام صدام حسين على أنهم شهداء واعتبر قتل الأكراد حراماً، في وقت لم تكن هناك أي جهة تقف ضد سياسات صدام حسين. هذه الفتوى التي صار عمرها عقوداً من السنين صارت جسراً متيناً يربط الأكراد بالشيعة.
واتجاه ثانٍ، وهو اتجاه يعادي الأكراد في أكثر المحطات السياسية ولا يقف مع تطلعات الأكراد في الحصول على حقوقهم. وربما يمثل هذه الاتجاه التيار الصدري ومن لف لفه، ومن ضمنه المالكي الذي صار رئيساً للوزراء بفعل دعم الكتلة الصدرية له. الصدريون الذين يُتهمون بأنهم يعملون بالـ”ريمونت كونترول” من إيران. حتى في الاجتياح التركي لأراضي كردستان لم يكلف الصدريون أنفسهم في إدانة عمليات الأتراك.على عكس من ذلك وقفوا ضد سياسات الأكراد. ويرى الأكراد ان تعثر حل قضية كركوك وبقائه معلقاً سببه موقف التيار. ونفوذ الصدريين القوي في أوساط الشيعة المستوطنين في كركوك استطاع ان يعكر صفوة الأكراد مع الحكومة المركزية. مع ان الأكراد حاولوا دائما ان يحكم على العلاقة بينهم وبين الصدريين علاقات طيبة وهم وفي أكثر من محطة أعربوا عن تقديرهم للدور الذي لعبه آل الصدر في تاريخ العراق. لكن كل الجهود صارت لا شيء، ولعل السبب هو التبعية السياسية والتدخلات الإقليمية.
وعلى عكس ذلك، حاول بعض الأطراف العراقية رشوة بعض الأقلام الغربية وصرنا نقرأ مقالات مفادها ان “الأكراد وسعوا مناطق نفوذهم لتشمل ( 300 ميل) من الأراضي خارج حدودهم”. فيما رأى آخرون ظاهرة انتشار “البشمركة” في تلك المناطق، وتحدثوا عن “محاولة لتغيير الطبيعة السكانية فيها”، مع إن وجود البشمركة في المناطق المتنازع عليها كان باتفاق بين الأطراف الثلاثة. و البشمركة استطاعت أن تؤمن الأمن والاستقرار. ولو كان الأكراد وسعوا مناطق نفوذهم لما كانوا يطالبون بتنفيذ المادة الدستورية (140). والحق أن هذه المناطق مسماة في الدستور مناطق متنازع عليها، وهذا يعني قانونياًً بأنها مناطق محل نزاع وخلاف، ولا يمكن لا للحكومة المركزية ولا الإقليمية ان تقرر مصيرها. وحتى يحسم الأمر يمكن ان يكون للغالبية السكانية ان يقرر مصيرها.
المعطى الجديد..
يمكن القول ان الأكراد استطاعوا ان يضيفوا حلقة الأخرى في اللعبة السياسية. ولعل حديث مسعود البرازاني في الولايات المتحدة على ان الأكراد يوافقون على القواعد الأميركية في الأراضي كردستان في حال فشلت الولايات المتحدة في توقيع اتفاقية الأمنية مع العراق مصدره الخوف من السياسات الغامضة للحكومة المركزية من القضايا المعلقة للأكراد.
يمكن القول ان عدم تفعيل اللجنة الخاص بمادة (140) – إجراء الإحصاء، ومن ثم تنفيذ الاستفتاء، وتقرير مصير المناطق المتنازع عليها- دفع الأكراد للبحث عن معطى جديد في اللعبة وهو قبول الأكراد بصب قواعد الأمريكية في الأراضي كردستان.
والحق أنه إذا كان مصدر مخاوف الأكراد من خروج القوات الأميركية هو ان الوضع بين الأكراد ودول الجوار مهزوز وغير مريح، فإن إصرار الأكراد اليوم لتوقيع الاتفاقية الأمنية (أو إيجاد قواعد أميركية في أراضي إقليم كردستان) مصدره الخوف من عودة حكم الاستبداد والديكتاتورية.
بقي القول ان الخيار الصحيح اليوم هو إسراع على إجراء الاستفتاء في المناطق عليها، حتى لا يضطر الأكراد ان يقولوا كلام آخر! والحق ان الأكراد يقولون في مجالسهم بأن حدودهم جبال حمرين هذا يعني بأن مناطقهم الأساسية تتجاوز حدود المناطق المتنازع. وبالرغم من ذلك، لا تعير النخبة السياسية الكردية الانتباه إلى ما يقوله شارعهم. الواقع يقول ان الذي يحافظ على التوازن وعلى السير في العملية السياسية بشكل هادئ هو العودة إلى تطبيق الدستور. وهو الخيار الوحيد القادر على صد كل التجاوزات. وكان من المفترض أن يوجه المالكي خطابه إلى القوى التنفيذية لتطبيق الدستور حتى يحافظ على الشراكة السياسية. الدستور وحده يحمي الشراكة ويحدد العلاقة الصحيحة بين المركز و الأقاليم.
faruqmistefa@hotmail.com
* صحافي، وكاتب سياسي كردي سوري