تخبرنا سرديات التاريخ، أنه ما من أمّة قام لها شأن في الماضي أو الحاضر، إلا واتصلت وتداخلت مع الأمم والحضارات المجاورة والمعاصرة لها، وأفادت من موقفها غير المتحيّز من ذلك التماس والاحتكاك. تلك الحتميّة المباشرة للتطور الاجتماعي، كانت دوماً شرطا أساسياً من شروط النهوض الحضاري. إذ إن المقابل الضروري لعملية التواصل والتفاعل، ما أوجزه الأنثروبولوجي البارز رالف لنتون، في عبارته الشهيرة، بأنه “لو تركت كل جماعة إنسانية تحبو بمفردها في طريق التقدم، بلا عون من غيرها، لكان هذا التقدم بطيء الخطى، لدرجة يستحيل فيها وصول أي جماعة من تلك الجماعات إلى مستوى متطور. وإنما كل ما تستطيع أن تنجزه هو الاقتراب من العصر الحجري القديم “.
ولم يكن العرب ابتداءً أمة منعزلة منفردة أو منكفئة على ذاتها، لا في الأطراف المتاخمة لثقافات الآخرين، ولا في مركز الجزيرة العربية المنعزل جغرافياً. ففي الأطراف أقام العرب صلات وثيقة مع الفرس عن طريق دولة المناذرة في الحيرة ودومة الجندل والبصرة، وأخرى مع الروم البيزنطيين (اليونان) عن طريق دولة الغساسنة شمال الجزيرة العربية، أما في الجنوب فاتصلوا بثقافة بلاد الحبشة. أما المركز، فبحسب المؤرخ أمين مدني، فإن سكان وادي القرى وأرض اليمامة استغلوا جغرافيتهم فكانوا همزة الوصل بين الدول العربية في الشمال والدول العربية في الجنوب، مما مكنهم من معرفة ثقافة الجنوبيين والشماليين على السواء، وأن يستوردوا بالتالي من الأمم التي اتصلت بهم واتصلوا بها الطريف من ثقافتها وآدابها وآرائها، ويصدروا إليها ذخائرهم، في الفكر والمادة.
وإضافة إلى الصلات الحضارية للعرب مع الفرس والروم والأحباش، تداخلت بلاد العرب -قبل الإسلام- مع ثقافات السريان واللاتينيين والآراميين والعبريين، تداخلا أخذ أشكال المصاهرة والتجارة والسفارة والهجرة والحروب وعلاقات الجوار المتنوعة. كما عرف العرب تواصلاً ثقافياً موازياً مع الهند والصين حتمته طرق المعاملات التجارية.
وأسهمت عملية التفاعل تلك في تغيير العديد من الأنماط الحضارية السائدة لدى العرب؛ إن ثقافياً، أو أنثروبولوجياً، أو معرفياً، كما أنها أسهمت في إعادة تأسيسها جميعاً على قيم جديدة. ولعل مبحثاً واحداً، وهو التواصل اللساني، أو أثر التداخل الثقافي على اللغة العربية، يعطي فكرة واضحة، عن عمق ذلك الأثر، وقوّة تفاعله، وحضوره الواسع النطاق إلى يومنا هذا. ففي دراسة لمسعود بوبو حصر فيها ما أخذه العرب – قبل الإسلام- من الأمم الأخرى في اللغة والمفردات والمصطلحات، مما هو صالح للاستعمال المعاصر، ويدخل في صميم اللسان العربي؛ أنه ما يراوح المئتين وخمسين مفردة عربية أخذها العرب من الفرس، وما يراوح المئة وثلاثين مفردة عربية أصلها يوناني، وما يراوح الستين مفردة أصلها هندي، وما يزيد عن العشرين مفردة أصلها لاتيني.
فيما بعد، ومع حضور لحظة الإسلام، الذي أضاء نوره من غار حراء، ممزقاً ظلمات الجاهلية والتشرذم في الجزيرة العربية، صير إلى ترسيخ قيم التلاقح الإنساني والتداخل الثقافي، والقضاء على عزلة المجتمعات إلى غير رجعة. فكان قول الله تعالى “يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، حاسماً، وبمثابة التأسيس الديني لجوهر تلك القيم، والتي تجاوز بها الإسلام حدود القبلية الضيقة، إلى آفاق الكونية الرحبة.
حتى رأينا في هذا السياق بالذات، أول تطبيق عملي لتلك القيم في نموذج التآخي بين الأنصار والمهاجرين. إضافة إلى ما وردنا من مرويات من ارتباط مولى كزيد بن حارثة بالزواج من سيّدة من سيدات مكة، وهي زينب بنت جحش القرشية. وحرص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، على تزويج جويبر، وكان من سود البشرة، من فتاة عربية عريقة النسب العربي، هي الدلفاء بنت زياد بن لبيد، كذلك تزويجه المقداد بن الأسود، وهو مولى، من ضباعة ابنة الزبير بن عبدالمطلب، وهي ابنة عم النبي.
هكذا لقد مثلت قيمتا العدالة والمساواة في العقيدة الإسلامية، الأرضية الأخلاقية التي شيّدت عليها أسس الحضارة الإسلامية، والتي وصلت ذروتها في مقولة أبي الفلاسفة العرب، الكندي الذي رأى أنه “ينبغي لنا ألا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنّا والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطلب الحق من الحق، وليس ينبغي بخس الحق ولا تصغير قائله ولا بالآتي به”.
فالحضارة الإسلامية إنما قامت على نتاج التداخل الثقافي على أرباضها الجغرافية، وعلى وقع حركات المد والجزر التاريخية للأمم العظيمة التي جاورتها. أو تحديداً مع تفاعل الأمم التي وصلها مدّ الفتوحات الإسلامية، التي – أي الفتوحات – لم تكن تنطلق من رغبة في التهام الأراضي والخيرات، بل دفعتها رغبة العرب في الأخذ من حكمة وصناعات ومعارف الأمم الأخرى. فكان حضور الذهنية العربية ذات البديهة الوقّادة، الدافع إلى استيعاب ثقافات تلك الأمم المختلفة وتقاليدها الحضارية، وقبولها.
وانغماس العباسيين في الترجمة وجمع المعرفة واستدعائها من الأمم الأخرى، ومن ثم إعادة إنتاجها، مكنّهم من تشييد حضارتهم على أسس كونية؛ سواء في مصادر المعرفة، أوفي منتجاتها. حتى كانت مراكز الحضارة الإسلامية، بوتقة للثقافات، والأديان، والأجناس، والمعارف – الكونية. فكان مثلاً يجتمع في مجلس واحد بالبصرة في أوج الحضارة الإسلامية بالمشرق، “عشرةٌ لا يُعرف مثلهم، كل في مشربه، فكان يجتمع؛ الخليل بن أحمد صاحب العروض (سنِّي)، والسيد ابن محمد الحميري الشاعر (شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (ثنوي)، وسفيان بن مجاشع (صفّري)، وبشار بن بُرد (خليع ماجن)، وحماد عجرد (زنديق)، وابن رأس الجالوت الشاعر (يهودي)، وابن نظير (نصراني متكلم)، وعمرو بن أخت المؤيد (مجوسي)، وابن سنان الحرّاني الشاعر (صابئي)، فتتناشد الجماعة أشعاراً وأخباراً. (عن كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي).
لقد كان إشراف السلطة الأخلاقية المباشر على تطبيقات آلية التثاقف، سبباً في تمكين الأمم المنضوية تحت سلطان الإسلام، من مبادلة التفاعل، فكان منهم – والحديث لويل ديورانت – “الكثرة الغالبة من الشعراء، والعلماء، والفلاسفة الذين جعلوا اللغة العربية أغنى لغات العالم في العلوم والآداب. وإن كان العرب الأصليون أقلية صغيرة بين هؤلاء الفلاسفة، والعلماء، والشعراء”.
وعلى هذا فأهم جامعي الحديث كان بخارياً، وواضع قواعد اللغة “العربية” سيبويه (إمام العربية) كان من أصل فارسي شيرازي، وأهم من ترجم مصنفات العلوم من اليونانية والسريانية إلى العربية، قسطا بن لوقا البعلبكي، وحنين بن إسحق وابنه إسحق، كانوا من السريان.
والفيلسوف والطبيب العملاق ابن سينا كان فارسياً، والفيلسوف الفارابي كان سمرقندياً، وابن باجه كان سرقسطياً، وابن رشد كان قرطبياً أندلسياً، والغزالي كان خراسانياً، وابن تيمية كان حرّانياً، وأعظم مؤرخي القرون الوسطى – الشبيه بليفي في الغرب – أبوجعفر محمد الطبري كان من أصل فارسي قزويني، وإلى آخر اللائحة الطويلة.
لقد عرف تاريخ المجتمعات الإسلامية تنوعاً ثرياً في الأنماط الأنثروبولوجية والمعرفية والثقافية والنفسية والذهنية والحضارية، وهو تنوع لانزال نشهد بعض ملامحه الأساسية حتى في أشدّ لحظاتنا سوداوية ومناهضة للاختلاف.
إن من مهددات التنوع، طمسها باسم وحدة الهوية والمعاني، أو وحدة العقيدة المذهبية، أو أحكام النقاوة العرقية، أو نداءات الخصوصية الثقافية المنغلقة. إن ازدياد مظاهر ممانعة التنوع تلك، والرغبة الجامحة في إلغائه على مستوى الخطاب الحضاري العام، إنما هو انقلاب على منظومة قيمية حضارية عريقة، وتفريط فيما تبقى من مكتسباتها، وهو ما سيعيدنا، بالضرورة، إلى أشدّ مواقع السيرورة الحضارية انغلاقاً. وهنا وجب علينا الانتباه.
mahmoud_sabbagh@hotmail.com
* عن الوطن السعودية
http://www.alwatan.com.sa/daily/2007-02-19/writers/writers05.htm