تفيد إستطلاعات رأي “سرّية” في إيران (آخر إستطلاع رأي “علني” أجراه الباحث الإيراني عبّاس عابدي في سبتمبر 2003، وهو ما يزال في السجن منذ ذلك التاريخ) أن أكثر من 85 بالمئة من الإرانيين يعتبرون تحسّن الوضع الإقتصادي أولويتهم المطلقة. وبالمقابل، فلا تزيد نسبة مؤيدي حصول إيران على سلاح نووي على 20 بالمئة من الإيرانيين.
وتفيد الإستطلاعات أن 11 بالمئة من الإيرانيين فقط يعارضون إنتخاب جميع مسؤولي الدولة بالإقتراع الشعبي المباشر، بما فيهم “المرشد الأعلى”.
ويعتقد 80 بالمئة من الإيرانيين أن خلق وظائف جديدة ومكافحة تضخّم الأسعار ينبغي أن يكون أولوية الحكومة. أما الأولوية الثانية في نظر الشارع الإيراني فهي تحسين العلاقات مع الغرب.
ويؤيد 50 بالمئة من الإيرانيين حصول بلادهم على سلاح نووي، ولكن هذا التأييد ينخفض إلى 15 بالمئة في حال حصول إيران على دعم دولي لتطوير طاقتها النووية السلمية مقابل ضمانات بعدم السعي للحصول على أسلحة نووية.
وفي حين يؤيد 60 بالمئة من الإيرانيين الدعم الذي تقدّمه حكومة بلادهم لجماعات مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، فإن 30 بالمئة فقط يعتبرونها مطلباً “مهمّاً جداً”. بالمقابل، يتذمّر إيرانيون كثيرون من تبذير الأموال على المغامرات الخارجية بدلاً من إنفاقها لتحسين أوضاع الشعب الإيراني أو لإعادة إعمار المدن والقرى التي دمّرتها الزلازل قبل سنتين.
وباتت نسبة كبيرة من الإيرانيين تخشى من أن تؤدّي سياسات النظام المغامرة، وتصريحات أحمدي نجاد “الصاعقة”، إلى توريط إيران في حرب جديدة بعد الحرب المديدة مع العراق التي أسفرت عن ما يقارب مليون ضحية من الإيرانيين!
ومع أن هذه الإستطلاعات تظلّ غير قابلة للنشر داخل إيران، فإن أصداءها باتت تتردّد حتى في أعلى مستويات النخبة الحاكمة كما تقول مراسلة جريدة “الفيغارو” في مقال نشرته الجريدة اليوم.
فقد عرضت عرضت مراسلة جريدة “الفيغارو” في طهران، دلفين مينيو، صباح اليوم (الإثنين) التذمّرات الواسعة النطاق التي تثيرها سياسات أحمدي نجاد وتصريحاته حتى على مستوى مرشد الثورة نفسه، وفي مجلس الخبراء ومجلس تمحيص مصلحة النظام.
وتقول مراسلة “الفيغارو”: “العالم كله بات يعرف التعابير الصاعقة التي يستخدمها أحمدي نجاد: من الدعوة إلى محو إسرائيل عن الخريطة إلى الزعم بأنه لا وجود للمثليّين في إيران، وإلى تصريحاته حول الذرّة. ومنذ انتخابه قبل سنتين، فقد نجح أحمدي نجاد في إعطاء إنطباع بأنه هو الذي يقود سياسة إيران الخارجية. والحال، فسلطاته الحقيقية محدودة. وهذا ما أشار إليه المرشد الأعلى، آية الله خامنئي، حينما عبّر بصورة علنية في الأسبوع الماضي عن تأييده لانتقادات الطلاب للرئيس الإيراني؟ وقال خامنئي: “أنا أؤيد هذه الحكومة.، ولكن ذلك لا يعني أنني أوافق على كل ما تقوم به. وإذا كنا نقول أحياناً أنه لا ينبغي أن تقوم معارضة ضد مسؤولي البلاد، فذلك لا يعني أنه لا يجوز توجيه النقد لهم”!
(والواقع أن تصريحات خامنئي كما نشرتها وكالة “إرنا” الرسمية شملت نقطة أخرى مهمّة لا تشير إليها مراسلة “الفيغارو”: فقد تحدّث خامنئي، أثناء استقباله لطلاب جامعة طهران عن مسألة “ضدّية ولاية الفقيه”! وقال أنه “إذا كان البعض لا يؤمن بولاية الفقيه، فذلك لا يعني أنهم ضدها”!! وعدا الغرابة في أن خامنئي أعطى الطلاب “ترخيصاً” بعدم الإيمان بولاية الفقيه، فهذا يعني أن احتجاجات الحركة الطلابية في طهران كانت موجّهة ضد هذا المبدأ الذي يشكل الركيزة السياسية والشرعية للنظام الإيراني.)
وتضيف مراسلة “الفيغارو”:
“إن تصريحات خامنئي، الذي نادراً ما يتحدّث عن الخلافات الداخلية، تكشف وجود حالة إستياء ضمن الطبقة السياسية-الدينية الحاكمة من تصريحات أحمدي نجاد العدوانية التي تتجاوز صلاحياته الحقيقية، والتي يمكن أن تمثّل تشجيعاً للمحافظين الجدد في واشنطن لتوجيه ضربة عسكرية لإيران. وحسب الدستور الإيراني، فالرئيس الذي يتم إنتخابه لمدة 4 سنوات بالإقتراع المباش لا يتمتع بصلاحيات واسعة. ولا تتّخذ قراراته صفة نهائية إلا بعد نقاشها في البرلمان، وبعد إقرارها من جانب مجلس الخبراء ومجلس تمحيص مصلحة النظام.
“وفوق أحمدي نجاد، فإن المرشد الأعلى، الذي تنتخبه هيئة من رجال الدين، يمسك أعنّة السلطة الحقيقية على مستوى الجيش والشرطة والعدالة. ويمكن للمرشد أن يعزل رئيس الجمهورية. كما أن القرارات المتعلقة بالطاقة النووية لا تعود إلى أحمدي نجاد، بل يتم إتخاذها بصورة جماعية في ما بين المرشد والبرلمان والمجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يديره علي لاريجاني.
” وأثار موضوع تخصيب اليورانيوم بالذات ما يشبه التمرّد العلني ضد أحمدي نجاد في أعلى مستويات السلطة في الأيام الأخيرة. فقد أعلن المفاوض الإيراني السابق في الموضوع النووي، حسن روحاني، أن “ولاية كل مسؤول تصل في يوم من الأيام إلى ختامها. إن البلاد ليست ملكاً لشخص واحد”. وأضاف حسن روحاني أنه “لا ينبغي إعطاء الفرصة لإعدائنا لزيادة أعدادهم.” وهذه إشارة مباشرة إلى تصريح أحمدي نجاد الذي قارن فيه البرنامج النووي الإيراني بـ”قطار فَقَدَ فرامله”.
“وهذه أول مرة يوجّه فيها حسن روحاني، اهو عضو في أعلى هيئتين في البلاد، أي في مجلس الخبراء وفي مجلس تمحيص مصلحة النظام، الرئيس نجاد مباشرة. وإذ تأتي تصريحات روحاني غداة لقاء بوتين مع كوندوليزا رايس، فإنها تعكس خشية الإيرانيين من أن تنحاز روسيا، التي كانت حتى الآن تعارض فرض مزيد من العقوبات ضد إيران، إلى أعضاء مجس الأمن الآخرين.
“وفي طهران نفسها، يعتقد الخبراء أن على الغربيين أن يهتمّوا بالإيديولوجية السائدة التي تمثّلها النخبة السياسية-الدينية بدلاً من التركيز على التصريحات الإستفزازية للرئيس نجاد. ويقول عالم الإجتماع سعيد مدني أن “الرئيس لا يمثّل كل وجهات النظر. فهنالك عدد كبير من الأجهزة الأخرى التي تملك نفوذاً كبيراً”. إن الطبيعة المعقدة والغامضة للنظام الإيراني تظهر أن الإتجاه “المحافظ والبراغماتي” الذي يمثله آية الله هاشمي رفسنجاني هو الإتجاه الغالب. ويدافع رفسنجاني عن حقّ إيران في امتلاك الطاقة النووية، ولكنه يصرّح علناً بتفضيله التوصّل إلى صيغة تسمح للمجتمع الدولي بالشعور بالطمأنينة تجاه إيران. وكان تعيينه في سبتمبر الماضي على رأس “مجلس الخبراء” – الذي يشرف على عمل “المرشد الأعلى”- أفضل تعبير عن أولوية “السراي” الإيراني: وهي بقاء النظام. وبالمقابل، وبكلام أستاذ العلوم الإجتماعية حامد رضا جلايبور، فإن أحمدي نجاد يمثّل اليوم أضل ذريعة يمكن للغربيين أن يستخدموها للإطاحة بالنظام الإيراني”.