خاص بـ”الشفاف”
الترجمة من التركية : مصطفى إسماعيل
تماماً قبل أسبوعين، في توقيت الظهيرة، أنا في جنوب أفريقيا وأنظرُ إلى الخارجِ في حافلةٍ تتجهُ من بريتوريا إلى حدود بوتسوانا. يرن هاتفي، إنه وليد جنبلاط يتصل بي من بيروت.
دونَ مَنحي إمكانية تحديد مكاني وما أفعله، ينغمسُ في الكلام بنبرة صوتٍ منفعلٍ “يحدثُ ما قلتهُ العام الفائت. مع مجزرة بانياس”، بدأ بشار بوضع حجر الأساس لتأسيس دولة علوية في الشريط الساحلي” …”.
لم يكُ لدي أدنى علمٍ بالتطورِ الذي يتحدثُ عنه! الشرح الساخن على الهاتف من وليد جنبلاط كأحد أقدم ساسة الشرق الأوسط وأكثرهم تجربة، ولإعطائه الثقلَ لتحليلِ الوضع أكثر من الخبر يجعلني لا أعلم ما حدث بدقة، ولكنه بإسراعه إلى الهاتف والاتصال بي أفهمني أنه حدث في سوريا تطورٌ دراماتيكي سيفتحُ الطريق على الاحتمالات.
قبل عدة أيام من ذلك، عثرتُ في مدونة Syria Comment لـ”جوشوا لانديس” التي تعدُّ من المدونات الأكثر تفصيلاً ودقة في المعلومات بخصوص الموضوع السوري، على معلوماتٍ كثيرةٍ بارزة في كتابته المعنونة بـ“هل مجزرتا بانياس والبيضا تعبير عن تطهير إثني بهدف خلق دولة علوية؟“. يترأس “جوشوا لانديس” مركز الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، زوجته علوية سورية، وهو من القلّة الأمريكية التي عاشت في سوريا، وبإمكانها الدخول إلى سوريا والخروج منها متى ما شاءت
يعطي “لانديس” في كتابته حيزاً لتحليلاتٍ خبيرة حول انعدام هدف تأسيس دولة علوية وراء “المجزرة المرتكبة بحق السنة” التي جرت في بانياس والبيضا التي في جوارها. حقيقة المجزرة التي يقدمها هو “تعميقُ طرح الصراع المذهبي على أنه لمصلحة الأسد، ليتم من خلاله جمع المقاتلين العلويين، وبتصعيدٍ كهذا تقدَّمُ رسالةٌ حول ما سيتعرضُ له العلويون في الغدِّ”!
طبعاً، فإن ارتكاب المجازرَ بحق السنّة يحملُ بحد ذاته إشارة للسنّة بضرورة مغادرة جيوبهم المتواجدة قي مناطق ذات كثافة علوية. التطبيقُ الأمثل في مناطق الصراع هو جرائم التطهير، كما حدث في منطقة الشرق الأوسط عام 1948 حيث حدثت مجازر من قبل الصهاينة فتحت الطريق أمام الفلسطينيين للهروب وترك منازلهم. ويوضح “لانديس” أن نموذج الممارسات بحق الأرمن في الأناضول عام 1915 مأخوذٌ بعين الاعتبار أيضاً.
في الكتابة المذكورة يُفنِّدُ “لانديس” كلامَ وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الذي فحواه أن جيش الأسد لجأ إلى التطهير المذهبي في بانياس رداً على هزائمه في أماكن أخرى من سوريا، مع توضيح أن قوات الأسد لم تُهزم! في حال هزيمة قوات الأسد في مناطق أخرى من البلاد، ستقدِمُ على تطهيرٍ مذهبي أكثر عنفاً في الشريط الساحلي، لكنه يدَّعي أن ذلك لم يحدث في بانياس!
المعلومةُ الموجعة أكثرْ – معلومة وليست تحليلاً – أنَّ المجزرتين في “بانياس” و”البيضا” لم يرتكبهما جيش النظام، بل العصابات التي يطلق عليها اسم “الشبيحة”. وأهمها وأكثرها تأثيراً تلك التي يتزعمها “محراج أورال”. يدعم هذا الإدعاء وجود تسجيلات فيديو. أيضاً هنالك مقطع فيديو لـ”محراج أورال” الذي يستخدم اسم “علي كيالي” قبل مجازر بانياس بعدة أيام يقول فيها “الطريق الذي سيوصل الخونة إلى البحر يمر من بانياس”! وهو بذلك يقصد “السنّة”، ويوضح ضرورة المجزرة التي سترتكب.
كتابة “لانديس” التي تتحدثُ عن تنظيمِ “شبيحةِ محراج أورال” المسمى “مقاومة سوريا”، تتحدثُ أيضاً عن وجود تنظيم “الجبهة الشعبية لتحرير لواء الاسكندرون” و”جبهة خلاص هاتاي” تضمُّ في عضويتها عرباً علويين من سوريا وهاتاي – طبعاً متداخلة مع النظام السوري – وهي جميعها تنظيماتٌ مسلحة.
تعرض كتابته أيضاً فحوى مقاطع فيديو تظهر اليساري السابق من أصل تركي، “محراج أورال”، ورجاله من العلويين السوريين.
“محراج أورال” يُعدُّ، بحسب الوحدات الأمنية التركية، المشتبهَ به في ارتكاب تفجيري “ريحانلي” التي أكثر من نصف سكانها عربٌ وسنّة. هل هنالكَ خللٌ في التنسيق بين الأمن والاستخبارات أثّر على الأحداث؟ هل كان يمكن منع وقوع هجمات “ريحانلي” التي أدت إلى فقدان نحو 60 مواطناً لحياته؟ يمكن مناقشة هذا، وبحثه، والمساءلة فيه، ومعاقب المهملين.
ما لا يمكن المجادلة فيه بهذا الخصوص هو: من الجاني؟ المسؤول هو نظام بشار الأسد في دمشق بطبيعة الحال، المنفّذ فعلاً هو “محراج أورال” ورجاله الذين ارتكبوا مجزرتي “بانياس” و”البيضا”.
أية مجادلة تسبق التأكد من هوية من يقف وراء الهجمات هي أشبه بوضع الحصان أمام العربة، ووضع عودٍ في التبن.
المشاهدُ الوحشية لأحد قادة “كتيبة عمر الفاروق “السنية – الإسلامية الثائرة في حمص في مقطع فيديو غير مألوف وهو يتناول قلب جندي سوري أيضاً صحيحة، وليست من صفات الكائنات العاقلة. يشابهه في الوحشية أخبار ومشاهد مجزرة بانياس التي عرضت قبل ذلك في نيويورك تايمز وكمانشيتٍ في انترناشيونال هيرالد تريبيون بتوقيعِ آن برنارد وهانيا مرتضى.
يفهم من هذه الجمل الأولى في تلك الكتابة الطويلة (لآن برنارد وهانيا مرتضى) نوع المجزرة التي اقترفت في بانياس: “بعد جمعه 46 جثة من شوارع المدينة السورية الساحلية، نسي عمر أعداد الضحايا، بحسب ما يقول. هو لم يتناول طعاماً منذ أربعة أيام، كان تلحُّ على ذاكرته مشاهدُ: جثة محترقة لطفل عمره بضعة أشهر، جنين أخرج من بطن امرأة حامل، الجثة الممددة لصديقٍ له وكلب يقعي قبالة رأسه “.
نحن إزاء “حرب مذهبية” اتخذت امتدادات بغيضة وشنيعة طالت مقاتلاً سنياً – إسلامياً يلتهم قلب جندي للنظام, وتنظيماً لـ”محراج أورال” الهادف إلى سلخ هاتاي من تركيا يبقرُ بطون النساء الحوامل لاستخراج أجنة سنّية، وأطفالاً في شهورهم الأولى تمَّ حرقهم.
أكثرُ من ذلك, نحن إزاءَ محاولاتِ “محراج أورال”، “القوة الضاربة” لبشار الأسد، لـ”إحراجِ تركيا “.
هل علينا تحميلُ الحكومة المسؤولية لأن “سياستها الخاطئة تجاه سوريا” تفتح الطريق أمام هكذا وضع؟ أم علينا تشخيصُ النظام السوري الذي لم يكتفِ بالممارسات الوحشية في بلاده بل يحاولُ تصديرها إلى تركيا؟ علينا ألا نخلط العيدان بالتبن.
متعلقاً بسوريا، والنقطة التي وصلتها سوريا، أين أرتكبتْ الأخطاء؟ ما الذي يمكن فعله؟ ما هو “الصح”؟ علينا مناقشة هذا. وعلينا الانتقاد أيضاً. ننتقد من؟ ومتى؟ وبأي قدرٍ؟ لكن علينا ألا ننسى: الأحداث في سوريا بدأت في 15 مارس / آذار 2011 بمظاهراتٍ لشعبٍ أعزل. لكن نظام الأسد استخدم السلاح ضد الشعب وقمع كل تظاهرة بدون رحمة. بشار الأسد هو الذي شاء تحويل الصدام المسلح في سوريا إلى “حرب مذهبية” لأجل إطالة عمر سلطته. وبشار الأسد هو الذي يريد تصدير “الحرب المذهبية” القائمة في بلاده إلى تركيا.
بداية, علينا الإشارة إلى “السجل الدموي” للنظام السوري، ورؤية هذا النظام كمسؤولٍ عن تفجيري “ريحانلي”، وفهمِ أن النظام الذي لم يوقف الأطفال والأجنة في بانياس همجيته لن يوقفه شيء في “ريحانلي”.
علينا تفريق العيدان عن التبن، علينا اتخاذ موقف من النظام السوري ورفاق دربه أمثال “محراج أورال”. بعدها يمكننا مناقشة ما نريد مناقشته، ونقدُ من نريدُ انتقاده.
علينا الحيلولة دون اندلاعِ صراعٍ سني – علوي في تركيا. إذا لم نحاسب النظام السوري بأي شكلٍ على حدث ريحانلي”، وإذا لم تتم “إعاقة” النظام، فإن حدث ريحانلي سيتكرر! الخطرُ الأساس يكمن ها هنا”.
إذا تمت محاسبة النظام على حدث “بانياس”، يمكن حينها مساءلته حول حدث “ريحانلي” أيضاً.
إذا أمكننا فعل ذلك، حينها يكون للحديث عن زيارة أردوغان لواشنطن ونتائجها معنى.
إقرأ أيضاً: