كنا نستمع لهواة تأليف و إلقاء الشعر في “كافا مينوس” وهي عادة واظبنا عليها مساء أول أربعاء من كل شهر، ويحتضن الكافا الميناوي في مثل هذا اليوم بضع عشرات من عشاق الشعر وبينهم أجانب وبيارتة وأصحاب سوابق يسارية ممن انتعشوا مؤخراً مع عودة أغاني الشيخ إمام إلى ميدان التحرير في القاهرة. في هذا اليوم بالذات رددنا جميعاً مع الفنان محمد الشعار أغنية “البحر بيضحك ليه وانا نازله اتدلى حامله الألل”.
فجأة خرج د.سامر عن المزاج داعياً الرواد إلى المشاركة في مظاهرة اسقاط النظام الطائفي في 6 آذار، صاباً جام غضبه على أيام 8 و14 آذار و على الطبقة السياسية كلها، بما فيها طبعاً أصحاب السوابق من كل الجنح و الإتجاهات.
وإذ انزعج البعض من إلقاء بيان سياسي “هام” في لقاء هام ولكن غير سياسي، تابع آخرون رائعة الثنائي شيخ إمام – زين العابدين فؤاد “تجمعوا العشاق بسجن القلعة، تجمعوا العشاق في الزنزانة”.
ومع أني ممن يعتبرون انفسهم لا بأس “معلوماتياً”، خصوصاً أنني نظرت لأهمية الرياضيات وتأثير علم الأرقام في الثورة الرقمية والتي تبدو وكأنها سوبر ستار مرحلة ما بعد الحداثة وربما ما بعد العولمة، فإنني لطالما حاولت تفادي الدخول الى مواقع الفيسبوك والتويتر، خصوصاً أنني بالكاد أستطيع متابعة بريدي الإلكتروني وعشرات الرسائل والنشرات “واليوميات”، فضلاً عن لذة قراءة جريدتي اليومية وبعض الإسبوعيات الطرابلسية ومتابعة عملي في الجامعة ونشاطاتي المختلفة، إلا أنني ومنذ بضعة شهور تسللت إلى الفيسبوك لضرورات التواصل متفادياً ما أمكن الإنغماس كثيرا في هذا العالم، خصوصاً أنني غير معني “بالثرثرات” الإجتماعية التي تجذب الشباب بما فيهم أولادي وطلابي وشباب بوزار.
في هذا المساء كنت مهتماً بهذه المواقع، خصوصاً أنه وصلني منها عشرات التعليقات والدعوات والحوارات(أو الدردشات) والتي بمعظمها تحاكي مثيلاتها في مصر وتونس وغيرهما من البلدان العربية ولكن بالنكهة اللبنانية المصبوغة بألوان شتى والعاكسة لغنى وتنوع واندفاع أصحابها، وتتمحور معظمها حول الحركة الشبابية لإسقاط النظام الطائفي اللبناني.
وإذا يغمرني الإعتزاز بالحماس عند هؤلاء الشباب وقد كرروا مظاهرتهم في 6 آذار بمشاركة بضعة آلاف، إلا أنك تتساءل حول حجم التعميم الحاصل بينهم في مسألة إدانة الطبقة السياسية برمتها مما يبدو وكأنه إدانة للسياسة بشكل عام، خصوصاً أن مظاهرتهم الثانية، ترافقت مع مسيرة نسائية من موقع جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه إلى ساحة الحرية وتقدمها نساء بارزات بينهن الشهيدة الحية مي شدياق والتي خضعت كما هو معروف لعشرات العمليات الجراحية بعد محاولة إلغاء دورها إرهابيا.
لقد كان الشباب على حق حين انتقدوا تسلل مجموعات سياسية معينة أرادت ركوب موجتهم، خصوصاً أنهم من ضفة سياسية لطالما رفعت شعار إلغاء الطائفية السياسية رغم أنها مدججة بالمذهبية حتى الأسنان و شعارات ضد الغلاء، مع أنها عطلت فرصاً كثيرة، كان يمكن أن تشكل قوة دفع استثمارية كبيرة للبلد، كما رفعت شعارات حول الديمقراطية وتأييد حريات الشعوب، مع أنها تتفاخر بالتحالف وربما التبعية لأكثر الأنظمة استبداداً وشمولية وبعضها ما زال يعيش خارج العصر على.
كنت أتمنى أن أكون بين هؤلاء الشباب، خصوصاً أن أهدافهم وشعاراتهم وحماسهم تشكل جاذباً لأمثالي ممن اعتبروا أن المواطنة الفعلية لا يمكن أن تنشأ إلا في رحاب نظام علماني ديمقراطي يرى أن الدين لله والوطن للجميع ولطالما انتميت لفئات اعتبرت دائماً أن الديمقراطية بمعناها الشامل هي أمل لا شفاء منه.
ترى ماذا سيقول هؤلاء الشباب المتظاهرين عن معاناة مي شدياق وآلام زوجات زين الشباب سمير القصير وبيار الجميل ووالدة وسام عيد، وهل سيتذكرون مشهد نايلة التويني وهي مرمية على جثمان والدها الشهيد الذي أبت كرامته عليه إلا أن يسقط شهيداً بعد أن عيروه بأنه يخاف من الموت فاستدرجوه.
طبعاً هؤلاء ليسوا الشهداء الوحيدون، فهناك شهداء المقاومة بوطنييها وإسلامييها وهناك شهداء الحرب الأهلية بمقاتليها ومدنييها وهناك شهداء الحروب الإسرائيلية على لبنان والحروب الغير اسرائيلية، حتى لكأن البلد اصبح كله شهيداً .
ولكن هؤلاء وآخرون معهم اغتيلوا لأنهم أصحاب آراء سياسية مختلفة، اغتيلوا في سياق تفكيك انتفاضة 14 آذار التي استقطبت أكثر من ربع اللبنانين إلى ساحة الحرية في سابقة لم تحصل في أي مكان ثم أعادتها في الذكرى السادسة، ما يطرح أمام حركة شباب ضد النظام الطائفي سؤالين أساسيين:
أولاً: ما هو موقف هذه الحركة من الإغتيال السياسي الذي يرفع عملية كم الأفواه إلى مستوى تمزيقها مما لا يمنع الآخر فقط من التعبير بل يمنعه من النطق و الحياة أيضا.
ثانياً: واستطراداً ما هو موقفهم من العدالة عموماً، والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان تحديداً، خصوصاً أنه، في تعميم التشهير بالطبقة السياسية نوع من الإلغاء، وبلبلة مسألة الجريمة والعقاب الملازمة لأي نظام مدني ديمقراطي.
إن النظام الطائفي في لبنان، ليس معزولاً عن نسيج المجتمع وبناه المتكونة عبر مراحل تأسيسه المختلفة. وإذا كانت القوى الإقليمية والدولية بما فيه القوى الصهيونية والجار الشقيق والقوة الإيرانية المتطلعة لدور اقليمي كبير، فضلا عن النجم التركي المتألق صعوداً مع صعود حزب العدالة، دون أن ننسى قوى أخرى عربية وغربية عموماً، وأمريكا وفرنسا والسعودية خصوصاً، إذا كانت هذه القوى تتعاطى أو تتلاعب بطريقة وبأخرى بالإنقسامات اللبنانية المذهبية، ما يجعل البلد ساحة مفتوحة، إلا أن ذلك لا يجعل من الواقع الطائفي المتجذر مؤامرة صهيونية وغربية، كما يردد كثيرون، بما فيهم يساريون بارزون، و نخشى أن يظن “شباب غير طائفي” أنها قصة مؤامرة ينفذها ويعتاش عليها بضعة زعماء يعاونهم حاشية وميليشيات وأجهزة (متناتشة) ما يضعهم فوق البشر تماماً كمبارك وبن علي ومعمر وبقية الحكام والملوك والسلاطين. ذلك أن في هكذا تصور يسهل اعتقاد أن حركتهم قد تتوسع لتكون موازية للحركات الشبابية الثورية التي أطاحت بنظامي مبارك وبن علي وتتطاحن مع القاتل المهرج قذاف الدم معمر والتي ستمتد لتصل إلى كل مكان يسوده الإستبداد والشمولية والظلامية وقد امتدت فعلا.
وإذا كان من تشابه في بعض الملامح كعبادة الفرد والشخصانية، وإذا كان من تأكيد لمساوئ النظام الطائفي سواء على “الضفة المقاومة” أو على ضفة “السيادة”، إلا أن قادة الطوائف هم زعماء فعليون لطوائفهم وأكثريتهم وصلت بانتخابات نزيهة وديمقراطية اقتراعاً واحتشاداً، ما يضع الشباب أمام مآزق جدية في توسيع حركتهم التي لن يزيدها وجود بعض المخضرمين “العلمانيين” إلا إرتباكاً، ذلك أن بعض هؤلاء لطالما أيد أو غض النظر عن ممارسة الطغاة وأشباه الطغاة في أكثر من مكان، وبعضهم يضع القاتل والضحية في سلة واحدة دون أن يرف له جفن.
إذن نحن أمام ثقافة الطوائف، (حتى أن بعض قوى اليسار أصبحت كأنها طوائف) وقد تعززت لتتحول إلى ثقافة المذاهب التي تؤدي إلى محاصصات وتناتشات رديئة وصلت في السنوات الأخيرة إلى القضايا الكبيرة، فأصبحنا أمام طائفة سيادية وطائفة مقاومة وطائفة اقتصادية مما وضع مفهوم الدولة الموحدة في خطر، فأصبحنا أمام دولة ضعيفة ومستضعفة وطوائف قوية ومتناتشة.
وهذا يوصلنا إلى السؤال التالي:
إذا كانت ثقافتنا الإجتماعية وبنانا القانونية تستند على هذا الواقع، فهل نستطيع تجاوزه إلى واقع آخر مع وجود غلبة طائفة على أخرى، والحال الآن أنه يوجد طائفة(أو فئة) مسلحة تفرض شروطها السياسية، كما تهدد بفعل ارتباطاتها الخارجية المعلنة بجر البلد إلى حرب تدميرية، خصوصاً أن لبنان يجاور عدواً عنصريا متربصاً لا يرتاح إلى نجاح فكرة البلد المتنوع.
إن قهر الغلبة يشكل ممراً إجبارياً لتغيير جدي في عقلية الطائفتين الأساسيتين المتسربلتين بالقلق والخوف، قلق إسلامي من علمنة ربما تؤدي للخروج عن الشريعة وخسارة الهوية الضائعة أصلا وخوف مسيحي من الذوبان إذا ألغيت الطائفية السياسية.
إذن إننا أمام مشكلة هوية، لذا علينا أن نتقدم بإتجاه فكرة المواطنة التي لا تستقيم مع الغلبة الطائفية وإضعاف مؤسسات الدولة، ما يعني أن ثقافة المواطنة تتطلب دعم الدولة بمواجهة الدويلة، ومع تقدم ثقافة المواطنة تتراجع ثقافة الفساد والحماية الطائفية والفئوية المعطلة لطاقة القطاع العام والحابسة لكثير من المبادرات الخاصة، خصوصاً مع ازدياد التوتر والإحتقان نتيجة الغلبة الطائفية والمترافقة مع جر البلد إلى محور اقليمي معين، ليس مناقضاً فقط لمصالح اللبنانيين، بل لمصالح محيطهم العربي الأوسع، ولنا أن نتذكر في هذا السياق كلمة محسن ابراهيم في أربعين الشهيد جورج حاوي، وهما رمزان علمانيان من رموز مقاومة النظام الطائفي اللبناني.
قال ابراهيم: لقد بالغنا بتحميل لبنان في القضية الفلسطينية أكثر مما يحتمل واستسهلنا ركوب مركب الحرب الأهلية الخشن ظناً منا، أننا بذلك نقصر الطريق نحو برنامج الحركة الوطنية كمقدمة لنظام علماني ديمقراطي.
فهل يستطيع الشباب اللاطائفي أن يتجاهل قضايا المؤسسات والعدالة والدولة والغلبة الطائفية المستندة على السلاح الفئوي والذي يستطيع تغيير نتائج الإنتخابات ولو بطريقة دستورية. وإذا كنا ممن انتقد وما زال ينتقد أداء قيادة 14 آذار، علما أننا لم نراهن عليها أصلاً بالنسبة لبناء لبنان علماني ديمقراطي باعتبارها جزءاً من التركيبة الطائفية، إلا أن الإغتيالات طالت قادتها والتفجيرات طالت سلطتها والإعتصامات (المانعة للإستثمار و الحياة) طالت خططهها الإقتصادية والإنمائية بما فيها باريس 3، وصولاً لـ 7 أيار البغيض وتداعياته المذهبية الخطيرة، خصوصاً في تذكية الإنقسامات السنية الشيعية، ولم تنفع كل التنازلات والتسويات التي رغب البعض في الداخل والخارج إنجازها والتي شكلت من أجلها حكومة جامعة لم يسمح لها أن تحكم أو تجمع، تحت وطأة التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، بل جرى قهرها وقهر رئيس البلاد خلافاً للتعهدات، لمجرد أن رئيسها وحلفاءه حافظوا على حد أدنى من الكرامة والصمود والتمسك ببعض الثوابت الأساسية. وقد بدا قهرها في سياق الإنقسامات السياسية الخطيرة وكأنه قهر لطائفة معينة والأخطر أنه أتى في سياق تعزيز ربط البلد بمحور إقليمي معين، ما يهدد بمزيد من الإنكشاف أمام شتى الأخطار في مرحلة المخاض الكبير وتداعيات الثورات والإنتفاضات في المنطقة.
ولم تكن كل هذه الممارسات تعبيراً عن صراعات شخصية وطائفية فقط، بل أتت في سياق إضعاف سيادة الوطن ووضع مصير البلد بيد قوى إقليمية، ما يدفع الشباب اللاطائفي للتفكير بأن المواطنة تحتاج إلى وطن سيد حر مستقل وهذا ما يجمعهم مع شباب ثورة الأرز الذين انتفضوا من أجل التخلص من نظام أمني سياسي، شكل كارثة على الديمقراطية وعمل على سياسة فرق تسد بين الطوائف والفئات والمناطق وحتى داخل كل فئة، ومع أن قادة النظام الأمني اللبناني السوري لطاما مننوا اللبنانيين بالأمن، فقد جرى خلاله تجاوزات وملاحقات واغتيالات وصولاً لجريمة العصر التي أودت بالحريري ورفاقه كما أدت إلى انتفاضة الحرية التي يجري الآن محاولات توجيه ضربات قاسية لها والعودة المقنعة إلى النظام الأمني. ثم ماذا يقول شماليون ضد الطائفية لعشرات الآلاف المتجمعين في معرض طرابلس ومحيطه ضد السلاح الفئوي والقتل والإغتيالات في أكبر حشد في تشهده المدينة بعد بضعة أيام على احتشاد مئات الألوف في ساحة الحرية في مشهد استعادة انتفاضة الأرز؟ هل فكروا بأبعد من شعار نحن نكره شهر آذار؟ هل كل هؤلاء طائفيون وهل يصبح شباب غير طائفي جديدة؟
من هنا فإننا ننظر للتحولات والثورات، في العالم العربي وصولاً لإيران باعتبارها تحمل سمات التحرر من الإستبداد على أنواعه وتتطلع إلى دمقرطة المجتمع والدخول في التحديث والحداثة وهذا سيؤدي إلى مزيد من توحيد المجتمع والتصدي لقضايا الإنماء والفساد والديمقراطية دون خوف وهواجس، ما سيؤثر إيجاباً على واقعنا الإجتماعي بعد أن أثرنا إيجاباً بهم لسنوات، خصوصاً أننا شكلنا جسراً لعبور أفكار الحداثة بعد تراجع الدور المصري نتيجه عوامل كثيرة لسنا بصددها الآن.
كما ستؤدي هذه الثورات، خصوصاً عند امتدادها وإن متأخرة إلى دول الجوار وإيران طبعاً، إلى تجفيف منابع السلاح الفئوى ومنابع المال أيضا، خصوصا المؤدي لتفريخ الحركات المتطرفة على أنواعها، ما يضعنا ربما للمرة الأولى أمام مواجهة متوازنة ومتكافئة لقضايانا الوطنية والعربية وبالطبع القضايا الإقتصادية والإجتماعية والبيئية والثقافية وقضايا المرأة التي لايمكن دخول العالم المنتج والمتقدم والحديث فعليا دون مساواتها الكاملة مع الرجل. حينها سنكون مجبرين على إنجاز تسويات في إطار الدولة ما يقربنا أكثر، وضمن ظروف داخلية وخارجية أكثر ملائمة، من مجابهة قضايا النظام الطائفي المعيق والمعاق بعد أن تشعر الطوائف جميعها بأمان أكبر في محيط عربي و إسلامي أكثر ديمقراطية وأكثر انفتاحا وتصالحا وتسامحا مع الآخر. لا أحد يظن أن هؤلاء الشباب هم من السذاجة بمكان حتى يعتقدون أنه بإلغاء الطائفية من النصوص تنتهي المشكلة، والإنتخابات البلدية والنقابية (الغير طائفية) خير دليل على ذلك، ولطالما سهرنا أياما وليالي في “تخييط” الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية بالإبر المذهبية والفئوية والمناطقية، مع أن أكثريتنا كانت علمانية حتى العظم.
أما كم سيستغرق ذلك من الوقت، فتلك نبوءة لا نقدر عليها، خصوصا أن سمة المرحلة القادمة هوالخروج وإن بألم من عالم التنبؤ والخرافة والتعصب والدخول وإن بتأن إلى عالم العقل والمعرفة والحوار، ما يجعلنا نسترجع كبير فلاسفتنا ابن رشد من جيراننا الأوروبيين بعد أن فقدناه عندهم طويلا.
khawaja_talal@hotmail.com
* طرابلس – لبنان