(3)
الحماية من التعذيب
يقصد بالتعذيب أي عمل ينتج عنه ألم أو عناء شديد جسدياً أو معنوياً يتم إلحاقه عمداً بشخص ما بفعل أحد الموظفين العموميين، أو بتحريض منه لأغراض مثل الحصول من هذا الشخص أو من شخص آخر على معلومات أو اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه أنّه ارتكبه أو تخويفه أو تخويف أشخاص آخرين.
ويشكل التعذيب تفاقماً للمعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة للكرامة”1″.
ومما يؤسف له الواقع الذي يشير إلى ممارسة التعذيب والمعاملة المهينة في غالبية بلدان العالم بما فيها تلك الدول التي تتشدق بحماية حقوق الإنسان. ويزداد الأسف أكثر مع واقع البلدان العربية جميعها ـ الذي يؤكد أن العلاقة بين السلطة والمواطن تقوم على الخوف والإكراه. وأن ممارسة التعذيب والمعاملة المهينة للكرامة الإنسانية تكاد أن تكون طقساً يومياً في مخافر الشرطة وأقبية البوليس ـ وأسلوباً شائعاً ـ للحصول على اعترافات بارتكاب الجرائم ـ أو انتقاماً من الخصوم.
وأيّاً كانت الدوافع والأسباب، فإنها لا يمكن أن تبرر التعذيب والمعاملة المهينة للكرامة الإنسانية. لأن المجتمع ممثلاً بالسلطة المعنية في الكشف عن الجريمة ومعاقبة الفاعل، لا يمكن أن يرد على الجريمة بجريمة. والسلطة العامة التي ارتضاها الناس، أو أذعنوا لها إنّما ارتضوها لكي تحمي حياتهم وأملاكهم وتصون كرامتهم، ومن ثمّ فإن ممارسة التعذيب والمعاملة المهينة من قبل موظفي هذه السلطة يشكل إساءة لها واستهتاراً بها، إضافة لكونه إهانة للكرامة الفردية التي لا يحسّ الإنسان بالمواطنة بدونها.
* * *
ومن خلال التجارب المؤلمة التي عرفتها المجتمعات البشرية وأدركت مخاطرها، وعاشت نتائجها، توصل المجتمع الدولي إلى الاتفاق على حدود دنيا مقبولة لا يجوز التنازل عنها، أو خرقها مهما كانت الظروف. وتعهدت الدول جميعها بالالتزام بهذه الحدود.
وقد عبر عن هذا الالتزام ميثاق الأمم المتحدة في الفقرة / ج / من مادته الخامسة والخمسين التي تتحدث عن غايات وأهداف المنظمة بالقول :
” تحقيق احترام البشر جميعاً بصورة فعالة، وتأمين الحريات الأساسية للجميع بدون النظر إلى العرق والجنس واللغة أو الدين “.
ونصت المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :
” لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة “.
وبالمعنى ذاته جاء نص المادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية :
” لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة….”.
وشكلت الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة للكرامة. التي أقرّتها الأمم المتحدة في 10 كانون الأول 1984 ـ وبدأ نفاذها في 27/6/1987. شكلت ميثاقاً دولياً، تعهدت بموجبه الدول التي صادقت عليها ليس بمنع ممارسة التعذيب فقط، بل ومعاقبة مرتكبيه والانتصاف لحقوق ضحاياه.
ومن خلال نصوص هذه الاتفاقية يتأكد بدون لبس ولا إبهام أن التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة للكرامة ـ تشكل خرقاً لمقاصد الأمم المتحدة وانتهاكاً لقيم المجتمعات البشرية. ولا يمكن السماح بممارسة هذه الأساليب في أي ظرف ـ بما في ذلك الظروف الاستثنائية وحالات الطوارئ ـ سواء أعلنت بشكل مشروع أو غير مشروع، وتضمن كل دولة طرف في الاتفاقية أن تكون جميع أعمال التعذيب جرائم تستوجب العقاب في تشريعها الجزائي آخذة في الاعتبار طبيعتها الخطرة من جهة، و من جهة ثانية لا يجوز لأية دولة أن تطرد أي شخص أو تسلّمه إلى دولة أخرى إذا توافرت لديها أسباب حقيقية تدعو للاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرض للتعذيب.
وينبغي التذكير هنا : أن الجمهورية العربية السورية صادقت على اتفاقية مناهضة التعذيب بالمرسوم التشريعي رقم / 39 / تاريخ 1 / 7 / 2004. وبصرف النظر عن التحفظات التي أعلنتها فإن التصديق يعني : إنّ هذه الاتفاقية إضافة لنصوص ميثاق الأمم المتحدة ونصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من التشريع الوطني. بل أصبح أي نص تشريعي مخالف لها بحكم الملغى. وصار من واجب الدولة أن تجعل تشريعاتها الداخلية متوافقة مع أحكام هذه المواثيق والإعلانات الدولية.
وقبل التصديق على العهود والاتفاقيات المذكورة كان دستور الجمهورية العربية السورية قد نص في الفقرة الثالثة من المادة / 28 / منه على:
” لا يجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة مهينة ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك “.
وطبيعي أن نجد تحديد التجريم والعقاب وأصول الملاحقة ـ والمحاكمة في التشريع الجزائي بقسميه الموضوعي ـ قانون العقوبات. والإجرائي ـ قانون أصول المحاكمات الجزائية ـ بشكل أساس.
ومن خلال قانون العقوبات، يتبيّن لنا أن نصوصه قد استبعدت عقوبات الجلد والتكبيل بالأصفاد وبتر أعضاء الجسد. وإن كانت قد أبقت على عقوبة الأشغال الشاقة التي تشكل عناءً جسدياً، ولكنّها لا يجوز أن تترافق مع ما يؤذي كرامة وشرف المحكوم عليه.
ومثلما استبعدت هذه العقوبات، فقد نصت على تجريم ضروب الشدة التي تمارس رغبة في الحصول على إقرار عن جريمة أوعلى معلومات بشأنها. وهذا ما قررته المادة / 391 / من قانون العقوبات :
” 1- من سام شخصاً ضروباً من الشدة لا يجيزها القانون رغبة منه في الحصول على إقرار عن جريمة أو على معلومات بشأنها عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات.
2- وإذا أفضت أعمال العنف عليه إلى مرض أو جراح كان أدنى العقاب الحبس سنة “.
ويفهم من ضروب الشدة في معرض هذه المادة كافة الأشكال التي تترك ألماً في جسد أو نفس الإنسان. ومن ثم فإن ـ الفلقة والصفع ـ والصعق بالتيار الكهربائي، والجلد والسب والشتم وعبارات التحقير….وغيرها هي أفعال مجرمة لا يجيز القانون ممارستها. سواء وقعت على المشتبه به أو على آخرين بقصد الحصول على اعتراف…. أو معلومات.
وهنا يطرح سؤال : هل يشكل التوقيف لفترات طويلة ـ والوضع في الزنازن المنفردة، وسماع أصوات التعذيب والصراخ ضروباً من الشدة ؟؟
نزعم أن هذه الأشكال كلها ـ تشكل تعذيباً وضروباً من الشدة وأفعالاً جرمية معاقباً عليها. وسواء وقعت هذه الأفعال ـ أثناء أعمال الاستدلال والملاحقة أم خلال المحاكمة. ولا يمكن التذرع بالأوامر الصادرة من السلطات الأعلى للإفلات من العقاب. ومن ثم فإنه من واجب القضاة وأعضاء النيابة العامة والمحامين أن يكونوا يقظين بصورة خاصة لأي علامة من علامات التعذيب الذي قد يمارس أثناء التوقيف أو القبض. واعتبار الدليل المستحصل عليه نتيجة التعذيب دليلا باطلا ينبغي هدره.
وبهذا الخصوص. فقد حددت المادة / 104 / من قانون أصول المحاكمات الجزائية المدة الفاصلة بين القبض على الشخص المشتبه به أو المطلوب وبين تقديمه إلى السلطة القضائية المختصة بأربع وعشرين ساعة يتوجب خلالها على النيابة العامة أن تحيل المقبوض عليه إلى قاضي التحقيق أو قاضي الصلح ـ حسب الحال ـ وإلا قررت تركه.
وإذا قرر القاضي المختص توقيف الشخص.وجب توقيفه في محال التوقيف المنظمة قانوناً. وبناءً عليه, فقد نصت المادة / 421 / من قانون أصول المحاكمات الجزائية :
” تنظم السجون ومحال التوقيف بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء “.
ونصت المادة / 424 / منه :
” على كل من علم بتوقيف أحد الناس في أمكنة غير التي أعدتها الحكومة للحبس والتوقيف أن يخبر بذلك النائب العام أو معاونه أو قاضي التحقيق أو قاضي الصلح “.
1- وعندما يبلغ الموظفون المذكورون مثل هذا الخبر عليهم أن يتوجهوا في الحال إلى المحل الحاصل فيه التوقيف وأن يطلقوا سراح من كان موقوفاً بصورة غير قانونية.
2- وإذا تبيّن لهم سبب قانوني موجب للتوقيف أرسلوا الموقوف في الحال إلى النائب العام أو قاضي الصلح العائد إليه الأمر.
3- وعليهم أن ينظموا محضراً بالواقع.
4- وإذا أهملوا العمل بما يتقدم عدوا شركاء في جريمة حجز الحرية الشخصية وجرت الملاحقة بحقهم بهذه الصفة.
* * *
مما لا شك فيه، إن الفرق كبير جداً بين صياغة نصوص قانونية وصياغة وثائق جيدة. وبين وضعها موضع التنفيذ مثلما هو الفرق كبير بين عبارات بليغة وبين بث الروح فيها على أرض الواقع.
رغم هذا الفرق نقول : إن الثقافة القانونية تقاس بمدى احترام قواعد قوانين الأصول. وتقاس هيبة السلطة بمدى احترامها المواثيق التي وقعت وصادقت عليها. لذلك فإن المطالبة بإلغاء كافة القوانين والمحاكم الاستثنائية التي تتعارض مع النصوص السابقة يشكل خطوة أولية وضرورية جداً لتحقيق الانسجام بين القول والفعل وبث الطمأنينة في النفوس، ونخص بالذكر في هذا المجال نص المادة / 16 / من المرسوم التشريعي رقم /14 / لعام 1969 التي تمنع تحريك الدعوى العامة بحق موظفي جهاز أمن الدولة الذين يرتكبون جرائم في معرض قيامهم بوظائفهم إلا إذا ادعى رئيس الجهاز.
ونزعم أخيراً إن النصوص بحد ذاتها تشكل قاعدة للوقوف في وجه كل انتهاكات الحريات العامة وحقوق الإنسان وحافزاً معنويا لتجاوز الخوف ورفض الاذعان الذي يحتاج إلى المعرفة والإرادة والتحرر من القابلية للتعسف والظلم والاستبداد. وأعتقد أن القابلية للاستبداد أخطر من الاستبداد نفسه.
* سوريا
مواضيع ذات صلة:
حماية الحريات العامة وحقوق الإنسان في التشريع الجزائي (1)
حماية الحريات العامة وحقوق الإنسان في التشريع الجزائي(2): مبدأ افتراض البراءة