**
رفسنجاني: “نحن قادرون على التحكّم بدورة الوقود النووي ولسنا بحاجة لأكثر.. جيراننا سيستخلصون المغزى بأنفسهم”
هل اختارت إيران “الحلّ الياباني” لمشكلتها النووية مع الولايات المتحدة (وإسرائيل)؟ ويعني هذا الحلّ إمتلاك قدرات إنتاج سلاح نووي، أو قسم كبير منها، والإمتناع عن تحويل هذه القدرات إلى قنبلة ذرية حقيقية قد تتسبّب بضربة أميركية أو أميركية-إسرائيلية تطيح بالنظام الإيراني. وهل هذا هو المغزى الحقيقي للتقرير الصادر عن أجهزة الإستخبارات الأميركية مجتمعة؟
أكثر من ذلك، هل مثل هذا “الحل الياباني” متداول بين الأميركيين والإيرانيين منذ العام 2003، وهل كان إنتخاب أحمدي نجاد المفاجئ العنصر الذي عطّل تقارباً أميركيا-إيرانياً كان قد ابتدأ في عهد الرئيس خاتمي؟ وهل يمكن أن تؤشّر إستقالة لاريجاني، واستقالات أعداد من المسؤولين الآخرين في الأسابيع الأخيرة، إلى تعديل في سياسات إيران بعيداً عن سياسات أحمدي نجاد الإستفزازية؟ وهل ستكون الإنتخابات النيابية في إيران، بعد 3 أشهر، مناسبةً للعودة إلى إطار تفاوضي مع الأميركيين؟
لقد راجت في منطقة الخليج في الأشهر الأخيرة تكهّنات و”تحليلات” كثيرة حول الضربة الأميركية المحتّمة لإيران (حرصنا في “الشفّاف” على عدم الترويج لها). وأعطى محلّلون سعوديون تقديرات زمنية للضربة العسكرية. لكن مصادر يمكن الإعتماد على موثوقيتها في باريس وواشنطن كانت، في نفس الفترة، تجزم بأن أميركا لا ترغب في حرب جديدة في المنطقة، وأنها تفضّل حلولاً بديلة ربما بمساعدة روسيا والصين.. وأوروبا نفسها! وإذا صحّت هذه التقديرات المتحفظة على موضوع الحرب، فإن هدف الضغوط الأميركية والأوروبية القوية على إيران في الأشهر الأخيرة كان تسريع التحوّل في السياسات الإيرانية (أي العودة إلى سياسات ما قبل 2003) وليس التمهيد لضربة عسكرية. هذا مع أن الضربة العسكرية تظل خياراً أخيراً إذا نجح أحمدي نجاد وحلفاؤه في وضع أيديهم على السلطة الإيرانية كلها. (من جهة أخرى، هل تتعمّد الولايات المتحدة تخويف الخليجيين لأسباب سياسية، وأيضاً لإقناعهم بمزيد من مشتريات السلاح في صفقات تصل أرقامها إلى مستويات خيالية…؟).
وفي هذا الإطار، فإن تقرير الإستخبارات الأميركية الأخير حول إيران يتّسم بأهمية خاصة. وكذلك التعليقات الأميركية على هذا التقرير، وخصوصاً مقال “الواشنطن بوست” الأخير.
تقرير الواشنطن بوست (منشور على صفحة “الشفّاف” الإنكليزية) ، الذي تنشر جريدة “الشرق الأوسط” ترجمة غير كاملة له اليوم الأحد (لقراءة الترجمة غير الكاملة) يتضمّن الفقرتين التاليتين اللتين قد تكونان أهم ما في المقال:
” الواقع أنه كانت هنالك إشارات لمن يرغبون فعلاً في رؤيتها. فمن جهة، لم يشتمل الكومبيوتر النقّال على أية رسوم تعود إلى ما بعد فبراير 2003، حسب أقوال مسؤولين أميركيين اطلعوا على محتوياته. وأثناء مأدبة عشاء أقيمت لمجموعة خبراء أميركيين في العام 2005، أعلن هاشمي رفسنجاني وحسن روحاني بكل وضوع أن إيران أوقفت برنامج أبحاث الأسلحة النووية لأن إيران تشعر أنها ليست بحاجة إلى القنبلة فعلاً، فيكفيها أن تظهر للعالم أنها قادرة على إنتاجها.
ووفقاً لـ”جورج بيركوفيتش”، الذي يعمل في “معهد كارنيجي للسلام الدولي”، قال هاشمي رفسنجاني أثناء العشاء: “إسمع، نحن قادرون على تخصيب اليورانيوم وعلى التحكّم بدورة الوقود النووي، ولسنا بحاجة إلى أكثر من ذلك. إن جيراننا سيستخلصون المغزى المناسب بأنفسهم”.
في نفس السياق، أورد المعلّق الفرنسي “ألكسندر أدلير” في مقالٍ نشره أمس السبت في جريدة “الفيغارو” الفرنسية، أنه “قبل سنة من إنتخاب أحمدي نجاد تحدّثت مع مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى في “حلّ ياباني” بدا لي أنه أثار إهتماماً كبيراً لديهم: وكنت أقصد بكلامي أن اليابان تمتلك فعلاً كل عناصر السلاح النووي سوى أنها ترفض أن تقوم بتجميع هذه العناصر، إنطلاقاً من مبدأ أن مجرّد امتلاكها لهذه “القطع غير المجمّعة” يحمل قيمة ردعية قوية.
“وقد دهشت حينما قرأت، بعد 3 أسابيع، في جريدة “الإيكونوميست” أن “مسؤولين إيرانيين تحدّثوا عن حلّ وسط على الطريقة اليابانية..”. والحال، فإن هذا الوضع هو بالضبط ما يشير إليه محلّلو “السي آي أي” حينما يتحدثون عن فارق بين برنامج تصنيع القنبلة الذرية، الذي يعتقدون أنه توقّف منذ العام 2003، وبرنامج تصنيع الوقود النووي، الذي تستمر إيران فيه منذ أن أعلنت وقف تجميد تخصيب اليورانيوم في “ناتنز”. ولا يجهل أحد أنه إذا كانت إيران تتعمّد حالياً إنتاج يورانيوم تقل درجة خصوبته عن المطلوب لصنع قنبلة ذرية، فإن بوسعها في أية لحظة أن تزيد درجة التخصيب لإنتاج وقود عسكري.”
وحسب أدلير:
“إن هذا التمييز الأميركي بين “الممكن” و”الواقع” يمثل دعوة لإيران للإكتفاء بـ”الحل الياباني” الذي يقضي بالإمتناع عن تجميع القنبلة الذرية مع أن تجميعها ممكن من الناحية التقنية. بل أن الإشارة إلى تجميد تخصيب اليورانيوم قبل انتخاب أحمدي نجاد يمثّل إشارة من الولايات المتحدة إلى ما يمكن أن تكون عليه سياسة الإئتلاف الإصلاحي الذي يتزعّمه رفسنجاني وخاتمي في حال عودتهما إلى السلطة. أي أن وثيقة الإستخبارات الأميركية يمكن أن تمثّل دعوة علنية للتفاوض مع إيران.
“… إن الرئيس بوش هو الذي يتحدّث عبر هذا التقرير الصادر عن 16 جهاز إستخبارات أميركي. وإذا ما أخذنا بالإعتبار إحتمال هزيمة الأصوليين الإيرانيين في الإنتخابات النيابية المقرّرة في الربيع، وإمكانية التراجع النسبي للإرهاب السنّي في العراق، فسنكون أمام إستراتيجية أميركية جديدة.
“فحوى هذه الإستراتيجية هي تخفيف حدّة التوتّر مع إيران، بصورة متعمّدة، بهدف مساعدة المعارضات المناوئة للأصوليين الإيرانيين، وهي تشمل قسماً كبيراً من المحافظين الأكثر إعتدالاً، على الفوز في الإنتخابات التي يتوقع أن تكون أكثر حرّية من الإنتخابات الرئاسية الأخيرة. هل قدّم رفسنجاني ضمانات سرّية لمحاوريه الأميركيين؟ تصعب الإجابة على هذا السؤال…”
المعلومات السابقة تبدو معقولة، مع حاجة إلى مزيد من التدقيق. لكنها، في أي حال، تنسجم مع ما ذكره نائب الرئيس الإيراني السابق، محمد علي أبطحي بعد استقالة لاريجاني: “خلال فترة رئاسة خاتمي كان لاريجاني الناقد الأهم لسياسة خاتمي، وخصوصا لإدارة روحاني للمجلس. وكان لاريجاني معروفا بنظريته التي تقول: نحن أعطينا الأوروبيين ماسة رائعة وتلقينا قطعة كراميل بالمقابل…”. فهل المقصود أن إيران وافقت على وقف برنامجها العسكري، ولكنها لم تحصل على التطبيع المطلوب وعلى وقف التهديدات الحربية ضدها؟ وهل تعني تهديدات أحمدي نجاد الإستفزازية المتواصلة بإبادة إسرائيل أنه يمثّل جناحاً من النظام يرغب في العودة إلى تصنيع القنبلة؟
هنا ينبغي ملاحظة أن الكثير من المتابعين للشؤون الإيرانية كانوا، في العام 2003، يتوقّعون فوز الرئيس رفسنجاني، وليس أحمدي نجاد، في معركة الرئاسة الأخيرة. أي أن فوز أحمدي نجاد ربما عرقل تقارباً أميركياً-إيرانياً كان، بعد، في مراحله الأولى، علماً أن إيران (حسب أقوال الرئيس خاتمي) سهّلت كثيراً الغزو الأميركي للعراق في العام 2003.
في السياق نفسه، فإن إتهامات أحمدي نجاد للإصلاحيين ولجماعة رفسنجاني بأنهم يخدمون مصالح خارجية (أو حتى إتهامه لموسويان بـ”التجسّس”- وقد برّأته المحكمة الإيرانية من هذه التهمة) تكتسب مغزى يتجاوز “فاشية” أحمدي نجاد. فالفارق قد لا يكون كبيراً جداً بين التفاوض الخفي بين بعض أجنحة النظام الإيراني (رفسنجاني مثلاً) حول البرنامج النووي، بما في ذلك إعطاء تطمينات حول وقف البرنامج العسكري، وبين ما يمكن أن يعتبره أحمدي نجاد “نقل معلومات” للأميركيين (أو للبريطانيين). ويدرك أحمدي نجاد أن نتائج الإنتخابات النيابية (خلال 3 أشهر) والرئاسية المقبلة ستحدّد ليس فقط توازن القوى داخل إيران، بل وسياساتها النووية والدولية كذلك.
في أي حال، إذا صحّ هذا التحليل، وإذا كان مؤشّراً إلى تقارب إيراني-أميركي، خصوصاً في حال فوز الإصلاحيين في الإنتخابات النيابية (وربما إنتخاب الرئيس السابق خاتمي لمنصب رئيس البرلمان)، فإن مثل هذا التطوّر سيؤثّر في علاقات إيران مع سوريا، وخصوصاً في علاقات إيران مع حزب الله “الباسداراني” في لبنان! فهل تصل التهدئة إلى درجة الإستغناء عن خدمات الحزب كلياً أو جزئياً؟ أم تكتفي إيران بتجميد “مشاغبات” حزب الله مؤقتاً (وتسمح للبنانيين بالتنفّس)؟
مصير حسن نصرالله وحزبه يرتبط بصورة وثيقة بتطوّر حظوظ أحمدي نجاد ضمن المؤسسة الإيرانية الحاكمة. وليس سرّاً إن حزب الله اللبناني يكنّ العداء للرئيس السابق خاتمي، وأن حظوظه، على غرار أحمدي نجاد نفسه، مرتبطة بحظوط الجناج الباسداراني من النظام الذي أفادت الأنباء الأخيرة بأنه ربما بدأ يصطدم حتى بالأجنحة المخابراتية المتشدّدة التي يمثّلها وزير الداخلية مثلا.