اخيرا، قبلت “حماس” تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية. بغض النظر
عن فعالية هذه الحكومة الوفاقية التي يرئسها الدكتور رامي الحمدالله، يبقى أنّها تظل أفضل من لا شيء، أي أفضل من بقاء الإنقسام الفلسطيني على حاله.
تأخّر تشكيل حكومة من هذا النوع ما يزيد على سبع سنوات. لا تقتصر الخسائر فقط على التأخر في تشكيل حكومة جامعة. التأخير في حدّ ذاته شكّل مشكلة كبيرة الفلسطينيين. لكنّ هناك مشكلة أخرى تكمن في أنّهم أضاعوا فرصة أن يكون رئيس الوزراء شخص اسمه الدكتور سلام فيّاض كان وجوده على رأس الحكومة، التي جعلت الضفّة الغربية أرضا غير طاردة لأهلها، أفضل ما حصل للفلسطينيين منذ توقيع اتفاق اوسلو في العام ١٩٩٣.
في النهاية، يكفي أن اتفاق اوسلو بحسناته الكثيرة وسيئاته الكثيرة، اعاد ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، إلى أرض فلسطين التي دفن فيها، حتّى يتبيّن أنّ الإتّفاق انجاز بحد ذاته. من كان يتصوّر أن “أبو عمّار” سيعود إلى فلسطين يوما؟
هل في استطاعة الفلسطينيين استرجاع الوقت الضائع والتعويض عمّا فاتهم بسبب رهان “حماس” على مشروع غير قابل للتحقيق؟ يقوم هذا المشروع على المزايدات والشعارات فضلا عن نشر البؤس بهدف تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني بدل مقاومة المشروع الإسرائيلي الهادف إلى قطع الطريق على حلّ الدولتين؟
لا بدّ من الإعتراف بأنّ قرار الإدارة الأميركية بالتعاطي مع الحكومة الفلسطينية التي باركت “حماس” تشكيلها، تطوّر مهمّ. أقدمت واشنطن على هذه الخطوة، على الرغم من الموقف الإسرائيلي المعترض على الحكومة والتهديدات الصريحة التي وجّهها بنيامين نتانياهو الى رئيس السلطة الوطنية السيّد محمود عبّاس (أبو مازن).
أكثر من ذلك، هناك موقف شجاع إتّخذه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي أعلن دعمه للحكومة الفلسطينية. بدا موقف بان اشارة واضحة إلى اعتراضه على الموقف الأسرائيلي الذي لا تفسير له سوى الرغبة في العرقلة وايجاد مبرّر لتفادي الدخول في مفاوضات سلام جدّية، بديلا من التفاوض من أجل التفاوض ليس إلّا…في الوقت الذي تبذل فيه اسرائيل جهود ضخمة من أجل ابتلاع أكبر مساحة ممكنة من الضفّة الغربية والقدس الشرقية عن طريق الإستيطان.
من حسن الحظ أن الحكومة الفلسطينية الجديدة حصرت مهمّتها بالإعداد لإنتخابات رئاسية واشتراعية يفترض أن يكون موعدهما قبل نهاية السنة الجارية، أي أنّها حكومة لتمرير الوقت في انتظار تجديد المجلس التشريعي واعادة انتخاب “أبو مازن” رئيسا. ولذلك، ليس ما يمكن توقّعه من هذه الحكومة التي يعكس تشكيلها في نهاية المطاف الأزمة العميقة التي تمرّ بها حركة “حماس”، الجناح الفلسطيني لتنظيم الأخوان المسلمين.
لا يمكن للحكومة الفلسطينية التي لا طعم ولا لون لها اخفاء حال الإفلاس التي تعاني منها “حماس” التي تسعى حاليا إلى اعادة التقاط أنفاسها. تفعل “حماس” ذلك عن طريق تصوير سنوات حكمها لقطاع غزّة، وهو حكم لم توضع نهاية له بعد، بأنّها مليئة بالإنجازات. هل تحويل غزّة إلى سجن كبير انجاز بحدّ ذاته؟
من يتمعّن في ممارسات “حماس” في غزة منذ الإنقلاب الدموي الذي نفّذته في منتصف العام ٢٠٠٧، يكتشف أنّ الحركة أمعنت في تخريب القطاع. عملت كلّ ما تستطيع من أجل تبرير استمرار الحصار الإسرائيلي لفلسطينيي غزّة. لا تزال هناك منازل فلسطينية مدمّرة منذ الحرب التي شنتها اسرائيل على غزّة اواخر العام ٢٠٠٨ واوائل العام ٢٠٠٩. لا يزال هناك فليطينيون يعيشون ويامون في العراء منذ نفّذت اسرائيل عدوانها على غزّة بعدما اعتقدت “حماس” ومن لفّ لفّها أنّها ستحرّر فلسطين، كل فلسطين بواسطة صواريخ مضحكة ـ مبكية كانت تطلق من القطاع في اتجاه قرى وبلدات اسرائيلية.
نسيت “حماس” أن اسرائيل انسحبت من كلّ غزّة صيف العام ٢٠٠٥ من أجل الإمساك بطريقة أفضل بالضفة الغربية. نسيت “حماس” أنّه كان هناك مطار دولي في غزّة استخدمه ياسر عرفات وكبار المسؤولين الفلسطينيين للسفر منه كما استخدمه المواطنون الفلسطينيون العاديون طوال فترة. نسيت أنّه كانت هناك عملية منظمة لإنتقال الفلسطينيين من غزّة إلى مصر أو من مصر إلى غزّة. نسيت أنّه كانت هناك معابر مفتوحة وأنّه كان في الإمكان حتّى الإنتقال إلى الضفة من القطاع أو من القطاع إلى الضفّة.
هذا غيض من فيض الأضرار التي تسبّبت بها “حماس” والتي خرّبت المجتمع الغزّاوي، بما في ذلك التعليم، ولم تستعد وعيها إلّا بعدما انكشف دورها في دعم الإرهاب في سيناء. وقد اعتبرت مصر هذا الدعم خطّا أحمر في مرحلة ما بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في الثلاثين من حزيران ـ يونيو من العام الماضي.
يمكن كتابة مجلّدات عن انجازات “حماس” التي تدّعي أنّها “مقاومة”، فيما لا تريد الإعتراف بأنّ الخدمات التي قدّمتها للإحتلال الإسرائيلي من النوع الذي لم يكن بنيامين نتانياهو يحلم به يوما. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان الإسرائيليون بلغوا مطلع العام ٢٠٠٩ المستشفى الذي لجأ إليه قادة “حماس” للإختباء في إحد أقسامه… ثم ابتعدوا عنه!
لم يكن لدى “حماس” أي مشروع سياسي أو اقتصادي أو إجتماعي على علاقة بما هو حضاري في هذا العالم. كان لديها مشروع واحد يصبّ في نشر البؤس وتعميمه كي يسهل عليها السيطرة على الشعب الفلسطيني المقيم في القطاع.
لو كان بين قياديي “حماس” من يمتلك حدّا أدنى من الجرأة، لكان أوّل ما فعله، حتّى قبل تشكيل الحكومة الوفاقية، الإعتذر علنا من الشعب الفلسطيني. لو كان يوجد بالفعل مثل هذا القيادي، لما كان رهان لدى “حماس” على عامل الوقت من أجل أن ينسى الفلسطينيون المآسي التي تسبّب بها الإخوان المسلمون حيثما حلّوا…
في النهاية، أن يعرف القيادي كيف يخسر في السياسة، أهمّ بكثير من أن يعرف كيف يربح. من يعرف كيف يخسر، قد يعود ويربح يوما. ولكن يبدو أن قياديي “حماس” لا يعرفون لا كيف يخسرون ولا كيف يربحون. إنّهم يتكلون على سذاجة الشعب الفلسطيني وذاكرته االقصيرة هل الشعب الفلسطيني ساذج، إلى هذا الحدّ، وهل ذاكرته قصيرة؟