ليس من دون أساس سارع فريق 8 آذار إلى اعتبار الحكومة الجديدة بتشكيلتها وأسمائها ورموزها حكومة انتصاره، بينما ساد وجوم حتى القوى التي كانت منضوية سابقاً إلى تحالف 14 آذار، وبعضها مشارك في الحكومة، كمن ركب قطاراً مسرعاً في اتجاه واحد لم يعد يمكنه النزول منه.
يفسر متابعون للتطورات التي كانت آخر حلقاتها إعلان حكومة الرئيس سعد الحريري في الساعات الأخيرة من عطلة نهاية الأسبوع الماضي، بأنها نوع من سبق محلي وإقليمي إلى ترتيب الأوضاع قبل تسلم الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب مهماته في 20 كانون الثاني المقبل، من حلب إلى عموم سوريا والعراق وصولاً إلى بيروت. كل شيء يجري على عجل بما في ذلك حكومة وحدة وطنية في لبنان سرعان ما تبين فور إعلانها أنها حكومة غلبة فريق على فريق بإعلانٍ نصرٍ مدوٍ من طرف، وشعور عام بإحباط مكتوم أو خيبة على الأقل في قواعد طرف آخر موجود في الحكومة . خيبة عززتها أسماء وزراء كان اعتبرها أنصار “14 آذار” سابقاً من رموز عهدٍ مضى، وسبق عودتها إلى التداول اعتقاد بأن توسيع تشكيلة الحكومة من 24 إلى 30 فرصة لتصحيح التوازن المفقود فيها. والحال أنها كانت فرصة لزيادة الاختلال، وشاعت على الفور مقولة إنها حكومة “حزب الله” لوجود 17 وزيراً فيها محسوبين على الحزب، وبعض المراقبين يقول 18 بل 19 . وفي أقل الأحوال يمتلك الحزب فيها أكثر من النصف لاتخاذ القرارات العادية وأكثر من الثلث وحده لوقف أي قرار لا يريد إمراره، في حين يحتاج الآخرون إلى تفاهمات في ما بينهم على “القطعة” من أجل التصدي لقرارات لا يوافقون عليها، وذلك نظراً إلى تناقض التحالفات التي عقدها كل منهم مع آخرين في كل اتجاه. معادلة يمكن اختصارها بأن 8 آذار بقيت في الحكومة، و14 آذار لم يبق منها من يخبّر عنها.
ولعل تغييب حزب الكتائب عن الحكومة، التي وُصفت بأنها حكومة “وحدة وطنية” أو “وفاق وطني” – وكذلك تغييب قوى وشخصيات ظلت هي أيضاً متمسكة بمبادئ لـ”ثورة الأرز” استشهدت في سبيلها خيرة القيادات والشخصيات الوطنية – يعطي فكرة أوضح عن الغاية والطريقة التي أديرت بها عملية تظهير الحكومة الأولى للعهد. ففي المنطلق تلمس متابعون ملامح سيناريو لإبعاد “تيار المردة” عن الحكومة من خلال فرض وزارة الثقافة عليه وبالوزير نفسه، على أمل أن يؤدي انفعال النائب سليمان فرنجية عند تلقيه هذا العرض إلى إعلانه رفض المشاركة. لكن نائب زغرتا تنبه ومعه حلفاؤه في “8 آذار” وأصروا من خلال الرئيس نبيه بري على نيله وزارة خدمات أساسية على أبواب انتخابات نيابية يحشد لها الجميع قواهم. وهكذا كان.
الخطة نفسها طُبقت بعد ذلك مع الكتائب. حُجبت عنها التشكيلة الكاملة، وعُرضت عليها قبل ساعتين من إعلان الحكومة وزارة دولة لم يكن في إمكانها القبول بها. وحتى لو قبلت – افتراضاً- فإنها كانت حتماً سوف ترفض لاحقاً أن تكون في حكومة، سِمتها اللاتوازن والخلل الفاضحين لمصلحة “حزب الله” وفريقه. ثم أن بعض فريق 8 آذار الذي توقف عند استبعاد الكتائب لم يطرح ضرورة مشاركتها إلا من باب السعي إلى إغراق حصة “القوات اللبنانية” الوزارية، وليس حباً بالكتائب أو تشبثاً بمنطق قيام حكومة “وحدة وطنية” يفترض أن تضم الجميع. تحققت غاية هؤلاء من خلال رفع حصة رئيس الجمهورية في الحقائب والوزارات، ومعها حصة تيار رئيس الحكومة.
إلا أن هذا السلوك ممّن رفعوا شعار المصالحات في طوائفهم تنطبق عليه مقولة “رُبّ ضارة نافعة”. فها هو رئيس الكتائب النائب سامي الجميّل يعطي إشارة البداية لمعارضة ديموقراطية إيجابية وبنّاءة لطالما افتقدها النظام اللبناني، واضعاً حزبه في خدمة القوى والشخصيات التغييرية والـ14 آذارية التي لا تزال متمسكة بمبادئ “ثورة الأرز” وقيمها. والأرجح أن الحكومة بفعل المتناقضات والخلافات الجوهرية بين أطرافها وضآلة الموازنات لن تكون قادرة على إنجاز ما يتجاوز قانون جديد للانتخابات. قانون يخشى معارضو “حزب الله” وتوجهاته أن يأتي على شاكلة الانتخابات الرئاسية وتأليف الحكومة، فتُقرّ النسبية الكاملة المعروفة نتائجها سلفاً في ظل سطوة السلاح والتصويت المذهبي الجماعي في ميل والتنافس الديموقراطي في ميل.
يخشى مَن يحذرون من هذا الاحتمال القوي، أن الانتخابات وفق قانون النسبية الكاملة سوف تُغيّر وجه جمهورية لبنان، وأنها أخطر حتى من تغيير الدستور. وقد لا تتوقف مفاعيلها عند تشريع ظاهرة وجود جيشين ودولتين على أرض واحدة، تديرهما إرادة واحدة وإصبع واحدة.
elie.hajj@annahar.com.lb