رحل الرئيس التونسي ومعه سقط نظام الاستبداد والاستحواذ على الثروة، ويوم صدر قرار حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم كان الخبر تم حل حزب ابن علي، وهذه الشخصنة التي تعبّر عن واقع الحال الذي كان، تعني أن الحزب العتيد هو ابن علي، وأن ابن علي هو الحزب. وعليه، فرحيل زين العابدين يعني أن الحزب قد رحل، فقالوا ماقالوا في خبرهم. ومثله أيضاً رحل الرئيس مبارك، ومن بعدهم سيمضي من أعمى الفساد والاستبداد بصائرهم وأبصارهم، ويوم تأتيهم ساعتهم وهي قريبة قريبة، فلن يجدوا ناصراً ولا معيناً لهم. وما أمر تونس وأم الدنيا عنّا ببعيد.
في ثورة الصبّار التونسية وانتفاضة شباب التحرير المصرية كانت الاحتجاجات واضحة تجاه رئيس مستبد فاسد على رأس حزب حاكم محنّط، يستند إلى قواعد استبدادية وقوانين طوارئية، ومحاكم أمنية وعسكرية استثنائية وسجون مليئة، وإلى عائلة وقرابات ونافذين من شفيطة نهّابين مسنودين، بحيث لاتفوتهم شركة إلا ولهم فيها علاقة، ولا مصنع مهم إلا ولهم فيه حصة، ولا مواصلات واتصالات إلا ولهم فيها شأن وشأن، ولا إعلان ولا دعاية إلا وتصب في شركاتهم ومنتجاتهم، ولا استثمار إلا وهم فيه شركاء وإن لم يساهموا فيه بمال، ولاصفقة إلا ولهم فيها ضبط وربط، ولاخصخصة لشأن حكومي إلا تؤول إليهم، ولا عقار ولا أرض من الأملاك العامة تباع إلا وهم مشتروها. بقدرة قادر هم ممتدون كأخطبوط في كل مصالح الوطن ومقدّراته، فقدرتهم بلا حدود، وواصلون ومحظييون ونشاطاتهم وأعمالهم في كافة أنحاء الدولة مدعومة من النظام بلا قيود، فلا شيء يُدفع أو يُقبض أو يباع أو يشترى تحت غيمات الوطن إلا ولهم فيه نصيب مفروض، وكان أمراً مقضياً. وفي الانتفاضتين نفسيهما أيضاً، كانت المطالبات أشد وضوحاً – لكل ذي بصر وبصيرة – بالرحيل والتنحي للرئيس، وحل حزبه وإلغاء إعلان حالة الطواريء، وإطلاق سراح معتقلي الرأي والسياسة، وتوقيف المحاكمات الأمنية والعسكرية للمدنيين، وحل مجالس قيل أنها تمثل الشعب وهي قائمة على التزوير، وملاحقة لصوص المال العام وبلّاعيه، وإطلاق إصلاحات دستورية تعيد للدولة هيبتها ومدنيتها. سمعنا كثيراً عن الاحتجاجات والمطالبات وتابعناها بتفاصيلها، وإنما لم نسمع أن ماكان هو بسبب علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل أو بسبب كامب ديفيد، وإنما وحده الإعلام السوري الرسمي تعامل بتجاهل تام مع أحداث الانتفاضة التونسية حتى على صعيد الخبر الإعلامي فضلاً عن التحليل والاستفادة، وكأن لاشيء حاصل في تونس الخضراء.
ومن بعد ماامتدت الشرارة إلى أم الدنيا وقد ظنّ من ظنّ أن مصر هامدة، وفاته أنها نيل الخصب والنماء، فاهتزت بالحياة أرضها، وارتجفت بالكرامات جماداتها، ورأى العالم قلعة العرب وقد زُلزلت زلزالَها، وفجّر قمع السنين والفساد بركانها، وأثار التجويع والإفقار والغلاء غضبها، واستلهمت من أرواح الشهداء حرائر ومناضلين قدسها وعزمها، وأضاءت بدمائهم حاراتها وطرقها، ودفعت إلى الشوارع والساحات شيبها وشبابها، قبطَها ومسلَمها، وحشدت بالصبايا والشباب شوارعها، وأضاءت بدماء الشهداء ساحة التحرير ميدانها، وقالت الإنس والجنّ مالها، وتفاءل العرب وتوقعوا انتشارها، وحده النظام السوري نفى امتدادها إلى سوريا أو حتى تكرارها، رغم أن كل مسبّبات الانتفاضتين التونسية والمصرية مستكمَلة أركانها، بل أدهى وأمرّ مما عند الآخرين ومستوفية شروطَها وأشراطها، بزعم أن للنظام السوري تميّزه، بعدم إقامة علاقات مع إسرائيل. ووحده التلفزيون السوري اعتبر ماحصل أنه سقوط لنظام كامب ديفيد. ونحن هنا لسنا في موطن المجادلة عن الاتفاقية أو العلاقات من عدمها، وإنما حقيقةً لم نسمع أحداً من المتظاهرين والثائرين تونسياً كان أم مصرياً أشار إلى هذه المسألة بل لم يتم تداولها إعلامياً البتة. وكأن السوري نظاماً وتلفزيوناً قلّب الحدث ولم ير فيه حصراً سوى سببية العلاقات الإسرائيلية المباشرة أو غير المباشرة مع تونس ومصر وكامب ديفيد أيضاً، أي أن الانتفاضة كانت لتقويض كامب ديفيد والعلاقات المترتبة عليها ليس إلا. وهو استخلاص سوري كيماوي معقّد تحولت فيه مطالبات شباب التحرير الثائرين بفعل تفاعلات كيمائية سورية إلى تقويض نظام كامب ديفيد، وهي نتيجة يعني أن العرب غير معنيين باستبداد وامتهان كرامات، وفساد وسرقة ثروات، رغم كل ماقيل في الانتفاضتين من مطالبات، أو أنه مواعظ يراد بها تبكيت النظام المصري الراحل تحديداً بأنه لولا تلك العلاقات لكان في حصن حصين من مواطنيه المحتجّين والمطالبين، ولعاش الدهر كله في أمن المقاومة وأمان الممانعة مهما فعل من فواحش الفساد وارتكب من موبقات الاستبداد ونهب الثروات، والمشهود من الواقع السوري شاهد وإثبات.
إن ماشهده الناس وماتابعوه على الفضائيات وفي كل وسائل الإعلام أن احتجاجات الجماهير التونسية والمصرية ومطالبها كانت مرتبطة كلياً بإصلاح الداخل الفاسد والمستبد من عشرات السنين مما لاعلاقة له موضوعاً بشأن العلاقة الإسرائيلية من عدمها، وهو الداخل نفسه الذي تعاني منه الجماهير السورية، في وقت يتكلم فيه من يتكلم عن استقرار متوهم أشبه مايكون باستقرار المقابر وجمود مافيها، وهو في كلامه هذا يماثل المصري والتونسي الذي كان يتكلم عن استقرار بلاده قبل أيام وأسابيع، غير أنه أضاف إليها خلاصة خض الحدث عنده ليصرفنا جملة وتفصيلاً عن مزدوجة الفساد والاستبداد التي كانت الباعث الحقيقي والمحرك لانتفاضة تونس وأم الدنيا.
إن الانتفاضات التي تفجّرت، فاقتلعت عتاولة وجرفت فاسدين، عواملها معروفة، ولاينفع معها تزويغ أو تجاهل. فقطار التغيير انطلق، وصافراته تملأ الآفاق، وهو اليوم هنا وغداً هناك، والدور قادم على الجميع مالم يلحقوا أنفسهم اتعاظاً فيرمون من مركبهم اليوم طوعاً من سوف يرمونه عمّا قريب كرهاً، ويحيلون إلى المحاسبة والقضاء لصوص المال العام ونهابيه قبل فوات الأوان، ويعملون على إصلاح حقيقي ينقذهم هم أنفسهم أولاً قبل الأوطان.
نحن لسنا تونس، قالها النظام المصري ومن معه منذ أسابيع ثلاثة، وقد جاءت ساعة الحساب والكل شاهد، واليوم يقول آخرون نحن لسنا تونس ولسنا مصر ، ولكن من يقنع من بأن ساعة الحساب آتية لا ريب فيها، ويقولون: متى هو..؟
قل: عسى أن يكون قريباً. فهل من مدّكر..!!؟
* كاتب سوري