في ردّه على المفكر الايراني عبدالكريم سروش بعد البيان الذي احتج فيه على نقد الدين، يطرح الباحث الإيراني مهدي خلجي نقطة في غاية الأهمية، تتمثّل في اعتباره أن المسلمين حساسون بشكل مفرط تجاه أي نقد يوجّه للدين، وبالذات النقد الساخر، وحين مقارنتهم في ذلك مع أتباع الديانات الأخرى فإنهم يتجاوزونهم إلى مدى بعيد.
يعتقد خلجي بأن أحد أسباب ذلك هو الحنين المتطرف إلى الماضي، السياسي والاجتماعي، الذي عاش الدين في ظله بوصفه أنموذج مثالي يتمنى المسلمون عودته في الوقت الحاضر. إذاً، كيف يمكن قبول نقد وسخرية هذا المشروع المثالي، المنطلق من أوامر سماوية والمؤدي إلى نتائج أخروية غيبية؟ يبدو أن تلك الحساسية لها علاقة وثيقة بالمثالية السماوية وبنقدها. وعليه تستمر احتمالات اللجوء إلى العنف والإقصاء لمنع النقد أو لوقفه عند حدّه الطبيعي ان صح التعبير.
وحينما تسود أمام الإنسان العادي في عالم اليوم، العالم الحديث، نماذج حياة متنوعة، من سياسية واجتماعية وفكرية ودينية وغيرها، فيختار وبصورة عفوية وغير علمية ما يريد منها، وينتقد ما يعتقد بأنه لابد من نقدها ورفضها، إذاً كيف يمكن أن يشترط البعض، كسروش، بأن تكون وسيلة النقد الوحيدة للدين وللفهم الديني، هي “النقد العلمي”؟.
سروش بنفسه خاض صراعا طويلا مع رجال الدين التقليديين حول نقطة “النقد العلمي” للدين. لقد طلبوا منه أن يمتنع عن إلقاء محاضراته الصريحة والمؤثرة في الأماكن العامة التي يحضرها الانسان العادي والمتخصص. سعوا لإجباره على طرح “نقده” في المدارس الدينية (الحوزات) فقط، وذلك ليستمع إلى ردّ أصحاب الشأن الديني من دون إشراك عامة الناس في ذلك. وفي الواقع لم يكن همّ رجال الدين الاستماع إلى نقد سروش، والرد على ما يطرحه من شكوك وشبهات، بقدر ما كان همّهم هو عرقلة وصول ما يقوله إلى الشارع العام، ومنعه من نقد فهمهم الديني أمام العامة، وذلك لكي لا تتأثر سلطتهم الدينية ولا تضيع وصايتهم على الشأن العام.
بالتالي، كيف يمكن لسروش أن يستخدم ضد الناس العاديين نفس العصا التي استخدمها رجال الدين ضده؟ كيف يرفض نقد العامة وشكوكهم، في حين هو عانى من محاولات رجال الدين لمحاربة نقده وخنق آرائه وإلغاء شكوكه وإقصاء شخصه عن الحياة العامة؟ الأدهى أن الكثير من رجال الدين لم يصنفوا آراء سروش في إطار “النقد العلمي”، فيما البعض اعتبروا بأنه يتلاعب بالكلمات والجمل، وبأن ما يقوله قد ردّده الكثيرون قبله وبالتالي لا يساوي ذلك شيئا قياسا بما قيل. غير أن السؤال الذي لابد أن يطرح هنا هو: متى اعتبر رجال الدين بأن من ينتقد فهمهم الديني، ويهاجم سلوكهم، بل من ينتقد النص الديني، يمارس النقد بصورة “علميّة”؟ فسروش يتّهم ناقدي الدين ممن يعيشون في خارج ايران بأن سلوكهم لا يستند إلى أي ذهنية علمية، في حين أن نفس هذا الاتهام وجّهه له رجال الدين. بل وسائل اعلام ايرانية اتهمته مرات ومرات بأنه يخشى مناظرة رجال الدين حول هذه النقطة.
لذا يوجه خلجي تساؤلين هنا يتعلقان بمبرر “النقد العلمي” فيقول: من قال بأنّه لابد للإنسان أن يكون مطّلعا على مختلف القراءات العلمية والفكرية وأن يكون ضالعا في نقد الدين وبصورة “علمية” لكي يعلن بأنه لاديني أو ملحد، في حين أن الإنسان الذي أصبح مؤمنا من خلال دين آبائه وأجداده لا يحتاج إلى كل ذلك لإعلان إيمانه؟ ويتساءل أيضا: لماذا يعترف مفكرو الإصلاح الديني (كسروش) بوجود متدينين من الناس العاديين في المجتمع، لكنهم لا يعترفون بوجود لادينيين أو ملحدين من الناس العاديين؟
إن السؤالين يكشفان عن المسافة الكبيرة التي تفصل أصحاب التوجه الديني، بما في ذلك المفكرون الإصلاحيون، عن المنطقة التي يتم من خلالها الاعتراف بالآخر غير الديني بالسماح له بنقد الدين ونقد النص الديني ونقد الفهم الديني، بنفس الطريقة – بما فيها النقد الساخر – التي يمارسها المتديّن ويهاجم من خلالها العلمانية واللادينية والإلحاد. فاللاديني حينما ينتقد الدين فهو لا يقدّس نقده. بينما المؤمن حينما ينتقد اللادينية، حتى لو اعتمد على السخرية، فإنه يقدّس هذا النقد، ونرى أمثلة على ذلك في النص الديني. إذاً، هي مواجهة بين طريقة الحياة المقدسة وتلك غير المقدسة. وبالتالي فإن حرية النقد – أو بالأحرى حرية التعبير – لا تتحدد بالحرية القائمة على “النقد العلمي”، بل لابد أن تشتمل على مختلف الصور، من سخرية عامة وسخرية فنية كالكاريكاتير والأعمال الكوميدية.
ويجب أن نعترف بأن نقد الدين ما كان ليكون بهذه الصورة، الساخرة، إلا بعد أن تحوّل الدين إلى “سلطة” تسعى للهيمنة على شؤون الحياة والتدخل في تفاصيلها بصورة وصائية وإقصائية، حتى أصبح نقد السلطة الدينية يُعتبر نقدا للدين نفسه، وبات التضييق على الناقدين وسجنهم دفاعا عن الدين، في حين هو ليس إلا دفاعا عن نفوذ السلطة الدينية ومصالحها.
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com
إقرأ أيضاً:
حساسية مفرطة من النقدفاخر السلطان يحاول جاهداً ان يضع نفسه في أي قائمة تندرج تحت مسمى الادباء او النقاد او اي مسمى آخر يمت للثقافة بصلة ، ولكن كل جهوده تبوء بالفشل … ( الذريع ) لأنه لايمتلك ( بيزك ) العلم المادة العلمية والادوات التي يستطيع بها تحليل وتأصيل البحث ، وعدم امتلاكه هذه الادوات العلمية تشعره بالاحباط والتخبط عند البحث في اي موضوع ، ولذلك نجد التلون والتجاذب والتعقيد والتعلق بحبال الهواء لينجد نفسه من الانزلاق ولكن بدون جدوى ! ربما تستطيع الحصول بالمال على البضائع ولكن ( هيهات هيهات ) ان تحصل على العلم بالمال ؟ عندما… قراءة المزيد ..