ما يحمي لبنان ليس صواريخ “المقاومة” ولا مشاركة “المقاومة” في الحرب على الشعب السوري بناء على طلب من ايران. لا يحمي لبنان الكلام الذي صدر قبل ايّام عن الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله” عن انّ “العدو الإسرائيلي يجب ان يعرف انّه اذا شنّ حربا على سوريا او على لبنان، فليس من المعلوم ان يبقى القتال لبنانيا ـ إسرائيليا، او سوريا إسرائيليا”، مضيفا ان “هذا لا يعني اني أقول انّ هناك دولا قد تدخل بشكل مباشر، ولكن قد تفتح الأجواء لعشرات الآلاف، بل مئات آلاف المجاهدين والمقاتلين من كلّ انحاء العالم العربي والإسلامي ليكونوا شركاء في هذه المعركة، من العراق واليمن وايران وأفغانستان وباكستان”.
لماذا هذا الكلام الذي ليس ما يبرّره غير الرغبة في تفادي التعاطي مع الواقع. يقول الواقع ان جنوب لبنان يعيش منذ العام 2006، أي منذ احد عشر عاما الّا ستة اسابيع بالتمام والكمال، في ظلّ القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الامن التابع للأمم المتحدة وذلك في ظروف لم يعش مثلها منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم.
ثمّة حاجة لدى “حزب الله” وغيره الى التصالح مع الحقيقة والواقع ومع ما يطالب به اهل جنوب لبنان الذين ذاقوا الويلات منذ زجّ لبنان بنفسه في معركة خاسرة كان في استطاعته تفاديها. عوقب لبنان بفرض اتفاق القاهرة عليه كونه لم يشارك في حرب 1967، أي لم يكن طرفا في الهزيمة ولا شريكا في التنظير لها!
ليس بالكلام عن نيات إسرائيل، يمكن تغطية ان ايران لم تفعل شيئا من اجل القدس منذ اعلان آية الله الخميني عن هذا اليوم في تمّوز ـ يوليو من العام 1979. لم تحصل منذ ذلك التاريخ غير متاجرة بالقدس ومزايدات لا هدف منها سوى احراج العرب ولا شيء آخر غير ذلك.
في ظل اكثر الحكومات يمينية وتطرفا منذ قيامها، تعرف اسرائيل تماما ماذا تريد. اكثر من ذلك، انّها تمارس سياسة تصب في خلق امر واقع جديد على ارض فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني. تريد بكل بساطة تكريس احتلالها لجزء من الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. ما هي الخطوات التي أقدمت عليها ايران من اجل منعها من تنفيذ هذه السياسة التي ادّت الى زرع ما يزيد على 650 الف مستوطن في انحاء مختلفة من الضفة الغربية. القدس مطوقة من كلّ حدب وصوب بالمستوطنين. هناك أربعون مستوطنة في أراض قريبة من نابلس، كبرى مدن الضفّة الغربية. وحدهم اهل القدس الصامدون يدافعون عنها بدعم من العرب الصادقين، في مقدّمهم الملك عبدالله الثاني، وقبله الملك حسين، رحمه الله. اكثر من ذلك، انّ اسرائيل تعرف تماما ان “حزب الله” الغارق في وحول الحرب على الشعب السوري انّما يطلق الشعارات الفضفاضة والكلام الكبير لتغطية سياسة لم تؤد، اقلّه الى الآن، سوى الى منع مؤسسات الدولة اللبنانية من استعادة عافيتها. لم تعترض إسرائيل يوما على كلّ ما من شأنه بقاء جبهة جنوب لبنان مفتوحة ما دام ذلك يسمح لها بتبادل الخدمات مع النظامين السوري والايراني في ضوء حاجة كلّ منهما الى هذه الجبهة التي اقفلها القرار 1701 لاسباب اكثر من معروفة. من بين هذه الأسباب ان قواعد اللعبة التي كان متفقا في شأنها مع حافظ الاسد تغيّرت. تغيّرت هذه القواعد بمجرد ان ايران استخدمت في حرب صيف 2006 صواريخ قصفت بها مدنا وبلدات إسرائيلية، كما لم توفّر مدنا وبلدات عربية ما زال أهلها يتحدون إسرائيل من داخل حدود 1948.
اوقف القرار 1701 العمليات العسكرية ووضع حدّا لمزيد من الخراب اللبناني ولتهجير لاهل الجنوب من مدنهم وقراهم. انهى القرار وضعا كان قائما. تغيّرت قواعد اللعبة. الجميع يعرفون ذلك. الجميع يعرفون انّ إسرائيل كان يمكن ان تلحق مزيدا من الخراب والدمار بلبنان لو استمرت حرب صيف 2006. لذلك سعى المجتمع الدولي الى اسدال الستارة على الحرب حماية للبنان وما بقي منه وللبنانيين.
ما يفترض ان يدركه الأمين العام لـ”حزب الله” في نهاية المطاف ان الخدمة الوحيدة التي يمكن ان يؤدّيها للبنانيين وللبنان لا تكون بالتهديد بفتح الأجواء اللبنانية للايرانيين والعراقيين والافغان والباكستانيين واليمنيين الذين تكفيهم مصائب بلده. الخدمة الوحيدة تكون باغلاق الأجواء اللبنانية في وجه كلّ من يريد استخدام لبنان “ساحة”، بما في ذلك بعض قيادات “حماس” التي يعتقد انّها انتقلت من الدوحة الى بيروت. هل صار “حزب الله” الطرف الذي يتحكّم بالاجواء اللبنانية، يفتحها ويغلقها امام من يشاء… بعدما اعتبر ان لا قيمة للحدود اللبنانية ـ السورية وان الرابط المذهبي يتجاوز كلّ ما عداه في العلاقات بين دول المنطقة، بما في ذلك العلاقات بين بلدين مثل سوريا والعراق؟
كان لبنان ضحية كلّ الحروب التي خاضها “حزب الله” مع إسرائيل منذ تسعينات القرن الماضي. في كلّ مرّة كانت تنتهي معركة، كان الحزب يرفع شارة النصر. في اعقاب كلّ معركة، كان الحزب يرتدّ على الداخل اللبناني لتحقيق مزيد من الانتصارات على اللبنانيين. كان يعمل في كلّ مرّة على قضم جزء مما بقي من هيبة الدولة اللبنانية ومؤسساتها بحجة انّه “مقاومة”. لم يقاوم، في واقع الحال، سوى كلّ المحاولات التي استهدفت إعادة الحياة الى الدولة اللبنانية.
مرّة أخرى، لا يحمي لبنان في هذه المرحلة سوى القرار 1701 الذي وافق “حزب الله” على كلّ كلمة فيه قبل صدوره في آب ـ أغسطس من العام 2006. من يريد توفير أي خدمة من ايّ نوع للبنان يبدأ بالابتعاد عن الكلام غير الواقعي الذي يستغلّ “يوم القدس” من اجل مهاجمة المملكة العربية السعودية والدول العربية الخليجية التي يعمل فيها لبنانيون. ما يريده اللبنانيون هو العودة الى الدولة التي يجدون فيها المنقذ الوحيد لهم من بقاء بلدهم “ساحة” لتبادل الرسائل بين ايران وإسرائيل.
لم ينعم اهل الجنوب اللبناني بالهدوء الذي ينعمون به الّا بفضل القرار 1701. هناك ظروف قادت الى ولادة القرار. لماذا المكابرة ورفض الاعتراف بذلك ورفض الاعتراف في الوقت نفسه بان لبنان في غنى عن إيرانيين وعراقيين وباكستانيين وافغان يدافعون عنه. ما رأي اهل الجنوب باستحضار “لواء الفاطميون” الافغاني الى ارضهم؟ الن يذكرهم ذلك بالجنسيات المتنوعة الذي اتى بها الفلسطينيون في مرحلة ما الى الجنوب؟
امّا اليمنيون فتكفيهم مصائبهم، في مقدّمها انتشار وباء الكوليرا. الأكيد ان فلسطين آخر همومهم، خصوصا في هذه الايّام. لم تعد فلسطين موجودة في اليمن سوى في خطابات عبد الملك الحوثي الذي يفترض فيه ان يعرف ان انصاف اهل صنعاء ورفع يد ميليشياته عنهم اهمّ بكثير من شعارات تحرير فلسطين والقدس. ليس بالشعارات يحيا اهل اليمن ويستعيدون الامل في استعادة الحياة الطبيعية في يوم من الايّام. ليس بالشعارات تعود القدس. الشعارات هي الطريق الأقصر للانتصار على لبنان بدل الانتصار في يوم من الايّام على إسرائيل.