تشيرُ الوتيرةُ المتصاعدة والمتسارعة للتطورات التي تشهدها تركيا، إلى أنَّ القضية الكوردية ستتحولُ عاجلاً أم آجلاً إلى إحدى الذكريات هناك، بعدَ حربٍ باهظةَ الثمن جنَتْ على الكورد والأتراك معاً مادياً ومعنوياً، وحوَّلت تركيا وكوردستان الشمالية إلى شجرتين ميتتين، ليُصبحَ بُكاءُ الأمهات الثكالى فيهما أوسعَ من الخارطتتين.
نَمَتْ خلالَ عقود منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة في 1923 ، حدودٌ نفسية وسياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية بين مكونين أساسيين للجمهورية، واتسعتْ بينهما الهوَّات ووديانُ اللا فهم المتبادل. أُغلقت الدولة أمامَ الكورد وهويتهم ولغتهم وتطلعاتهم، واحترق على سفوح جبالها وفي شوارعها وأزقتها العدلُ المُبتغى والمساواة والمواطنة الدستورية الحقَّة، وصارت الطائرات والدبابات والمدرعات والبارود والجنرالات يتسلقون كتف تركيا، ويحاولون مراراً وأدَ كوردستان حيَّة، بتوصيفٍ آخر، لمْ يكُ للكورد إلا الريح، وهم الذين تعلموا المسيرَ على حدّ الشفرة والموت عليه، فمهمتهم كانت من المستحيلات أو تكاد، ومحاولتهم قهرَ تركيا، كانت أشبه بالانقلاب على مجمع آلهةٍ صاخب ومدجج بوسائل الرعب، ولكن في عمليةِ انقلابٍ نفسية وتاريخية على الخوف الوخيم والممنوع ومنظومة التابوهات التي تسيدت أفق تركيا وكوردستان، أينعَ في تركيا القاحلة وكوردستان القاحلة فتيةٌ آمنوا بالتغيير والمستقبل المفارق المرئي في مرايا أرواحهم، التي كانت تؤمن أيضاً بأن الشمس لا يمكنها البزوغ من قبعات الجنرالات المتعاقبين على رأس المؤسسة العسكرية، وأنْ لا يمكنُ للحلِّ أن يخرج في ظل تلكم الظروف من أدراج الحكومات التركية المتعاقبة، فلم يتعرف الكورد في كوردستان الشمالية على حكومة تريد إمساك العصا السحرية وبعث تركيا جديدة وكوردستان وهما رميم.
إذن، انطلقَ حزب العمال الكوردستاني في حقبة استثنائية من عمر القضية الكوردية في كوردستان الشمالية، حيثُ الخرابُ العام الوبيل الذي أصاب الدورة الدموية الكوردية، ليتحولَ شعبٌ كاملٌ إلى درفات النسيان، ويتراكم غيابه، وتتحولَ مناطقه إلى أرضٍ يباب تبكي قرى مهجورة وقبور جماعية ومختفين قسرياً وجثثاً وفقراء، وقدْ استطاعَ الحزبُ في حالةٍ ملحمية، وخلال سنوات من انطلاقته، أنْ يصبحَ لاعباً كوردياً وحيداً في مواجهة الحكومات التركية المتعاقبة، ليرغمَ مؤسسات الدولة التركية تدريجياً على الانخراط في مرحلة الاعتراف بوجود قضية كوردية في البلاد، فوتَ عقودٍ من إنكارها الدؤوب لوجود قومية كوردية تعيشُ على أرضها التاريخية، وتأتي المبادرة الأخيرة لحركة التحرر الكوردستانية بإرسالها مبعوثي سلام إلى تركيا في 19 أكتوبر 2009 محطة حراكية نوعية أخرى، سيما وأنَّ الهدف هو إرادة حركة التحرر في إزالة طبقة الجليد السياسي وتكلس المواقف الرسمية التركية، على أسِّ تدشينِ مرحلة اعتيادية السلام كبديلٍ لاعتيادية العنف في تركيا، وهو ما عرَّى عيانياً الخطاب السلمي لحكومة أردوغان، وكشفَ أبعدَ من ذلك تردد الحكومة وارتباكها أمام المشهد السيميوتيقي على معبر الخابور ولاحقاً في آمد.
ولكنْ هلْ توقفت طبيعة تشكل الدولة التركية، وأصبح خطابها ومواقف مؤسساتها وممارستها لوظائفها مُغايراً للدولة التي كانت تصادر الاختلاف في الداخل، وتلقي كاملَ بيضها في سلة التغربن والتأمرك، حتى لو اقتضى ذلك تحويلَ نصف البلاد إلى ثكنة عسكرية، وما يترتب على ذلك من عنف وتهجير وإخلاء قسري للقرى وإطلاق حملات التتريك وإطلاق يد الجهات الارتزاقية الموجهة من قبل مؤسسات الدولة وفي طليعتها الاستخبارات والجيش، وقطع الوشائج التاريخية مع دولِ جوارها، والارتهان لمنطق العداوة وإقصاء دول محيطها الجغرافي عن سلم الأولويات، إذْ تعمدُ الدولة التركية اليومَ إلى فتح المزيد من الدروب التي كانت فيما مضى غير سالكة ؟.
انفتاحٌ على الخارج.. انغلاقٌ في الداخل
ما نعلمه، أنَّ هنالك تغييراً من نوع ما وإن في حده الأدنى أصابَ الدولة التركية يحوِّلها رويداً.. رويداً من واقعها المتعين السابق، حيثُ المفاهيم الفوقية المهمشة لقوى المجتمع وأطيافه، إلى واقعٍ آخر يُدركُ إلى حدٍّ ما الخرابَ الشامل في الداخل، الذي أُسِّسَ على قاعدة عدم الاعتراف بمكونات النسيج الوطني، التي أصبحتْ وخلالَ عقودٍ من عمر الجمهورية التركية ذاتاً مغايرة، ناهيكم عن الالتفات مؤخراً إلى الجسور المُنهارة مع الخارج، وتحديداً منه الجوار، وإطلاق عملية ترميم لها، تجري على قدم وساق وتكلل بالنجاح، إلى حدِّ أنَّ صحفاً غربية تعد الانفتاح التركي على بلدان في الشرق الأوسط والقوقاز بمثابة توجهٍ تركي إلى الشرق وإدارة ظهرٍ للغرب.
تشهدُ تركيا منذ أشهر تطوراتٍ متباينة، وكانت المقاربة الرسمية من القضية الكوردية وضرورة الانفتاح عليها، الذي وردَ في العديد من مواقف أركان الدولة تلميحاً أو تصريحاً، وبعض الخطوات الخجولة التي ألقيتْ في هذا الصدد، باعثاً على تجدد الآمال وتنفس الديمقراطيين الأتراك والمواطنين الكورد لهواءٍ جديد، توقعوا منه تغييراً شاملاً، يُبعدُ تركيا ومكوناتها عن حقبة رمادية بطعم البارود، وتضعُ النقاط على الحروف مجدداً، عبرَ تخلص الحكومة من الإرث اللاءاتي الثقيل تجاه الكورد وقضيتهم، فلا يمكنُ لحكومةٍ المُضيُّ قدماً في ترتيب جوارها الجغرافي وإحداث حالة فروقية في وضعها ودورها كدولة طموحة ساعية إلى التبلور في الشرق الأوسط كمحور ومركز، فيما يحتاجُ البيتُ الداخلي إلى ترميم وإصلاح، يُحدثُ قطيعة نهائية مع الماضي ونمط العقل الماضوي المزدهر على أنقاض قوميات وإثنيات، عبر إنكار وجودها وإغداق المزيد من الموت والصهر القومي عليها.
ولكن الحكومة التركية نجحت خلال الأشهر المعدودة السابقة من تصفير المشكلات مع دول جوارها ( منها مشكلات مزمنة )، واستعاضت عنها باتفاقيات تعاون استراتيجية لم تك متوقعة حتى الأمس القريب : اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع العراق، وسورية، وسلة اتفاقيات مع إيران، واتفاقية تاريخية في زيورخ مع أرمينية، وهو ما يمكنُّ عدُّه نجاحاً منقطع النظير للمنظر الاستراتيجي التركي ووزير الخارجية الحالي أحمد داوود أوغلو، الذي رسمَ رؤية جديدة لحكومة حزب العدالة والتنمية، تضمنها كتابه المعنون بـ ” العمق الاستراتيجي : مكانة تركيا الدولية ” الذي صدر في 2001 ، أي قبل سنةٍ من وصول الحزب إلى سدة الحكم بنتيجة انتخابات 2002 البرلمانية، ويشيرُ ” محمد نور الدين ” في افتتاحيته لمجلة ” شؤون الأوسط ” في عددها 116 – خريف 2004 إلى أسسٍ خمسٍ للسياسة الخارجية التركية الجديدة يحددها داوود أوغلو لأنقرة، وهي : ” الموازنة بين تعزيز الحريات في الداخل ومواجهة الأخطار الأمنية، وتصفير المشكلات مع دول الجوار الجغرافي لتركيا، وسياسة خارجية متعددة الأبعاد مرتبطة بموقع تركيا على تقاطع طرق القوى والمناطق الحيوية في العالم، وتطوير أسلوب ديبلوماسي جديد في السياسة الخارجية ينقل تركيا من وضعية الدولة / الجسر إلى الدولة / المركز، والانتقال إلى ديبلوماسية منتظمة ومتواصلة مع دول العالم”.
وإذا كانت الحكومة التركية نجحت إلى حد بعيد في تجسيد العديد من تلكم الأسس على أرض الواقع كما أشرنا أعلاه، فإنها لم تستطع تصفير مشاكلها الداخلية وفي طليعتها القضية الكوردية، التي بقيت رهن التصريحات الصحفية، لتدخل مجدداً في نفق اللا حلِّ منذ أواخر شهر أغسطس 2009 وإلى الآن، بل ارتدت عن الحلِّ، وانتكست العملية السلمية المتحدث عنها من أركان الدولة التركية، ويشكل ذلك دلالة على غياب إرادة سياسية لدى الدولة التركية لحل القضية، وهي إرادةٌ يبدو من سياق التطورات الأخيرة أنها مُراهنةٌ أكثر على حلِّها من خلال التنسيق مع دول الجوار : سوريا والعراق وإيران، وعبر إنهاء حزب العمال الكوردستاني، ومحاولة الإنهاء هذه تبدو في ضوء وقائع العامين الأخيرين بين الحزب والدولة التركية مستحيلاً كالمستحيل الآخر : انتصارُ الحزب عسكرياً على تركيا.
محددات وتداعيات الانفتاح الرسمي التركي على الكورد..
لا يمكن فهم التطورات الأخيرة بمعزلٍ عن تاريخانيتها، سيما خلال الأعوام الماضية، فما نعلمه أن الدولة التركية بعد اختطافها لزعيم حزب العمال الكوردستاني ” عبد الله أوجلان ” من العاصمة الكينية نيروبي في فبراير 1999 أعتبرت ذلك خاتمة المطاف لحزب العمال الكوردستاني والقضية الكوردية في تركيا، وكأن لا طيورَ بعد السماء الأخيرة، وقد عاودَ الحزب أنشطته العسكرية في 2005، بعد ست سنوات من إعادة الانتشار خارج الحدود الدولية لتركيا، ما أظهرَ الرهانات التركية بمثابتها خاسرة، وقد شكلت عودة الحزب إلى مسرح العمليات العسكرية مجدداً قلقاً للدولة التركية، ما جعلها تعمدُ في أكتوبر 2007 إلى التصويت في البرلمان على تفويض الجيش التركي بملاحقة مقاتلي حزب العمال الكوردستاني خارج الحدود التركية، وتحديداً في إقليم كوردستان العراق، وكان للجنرالات الأتراك المتقاعدين رأياً آخر في ذلك، فالقاسمُ المشتركُ بين 24 جنرالاً تركياً متقاعداً – استطلعتْ صحيفة مللييت التركية آرائهم في أكتوبر 2007 حول جدوى العمل العسكري ضد العمال الكوردستاني, عشية التحضيرات التركية لاجتياح إقليم كوردستان الفيدرالي, لملاحقة مقاتلي الحزب كان التالي : لا جدوى من العمل العسكري. رغمها اخترقت خمسونَ طائرة حربية تركية الأجواء العراقية في الشمال في منتصف شهر فبراير 2008، بعد تعبئةٍ عسكرية هائلة، وتعبئة إعلامية للرأي العام التركي لأشهر, لتقصف قرى في محيط جبل قنديل, نقطة تمركز بعض قيادات ومقاتلي حزب العمال الكوردستاني, وتوقع قتلى وجرحى بين المدنيين الكورد في إقليم كوردستان العراق, فيما كانت تصريحات ” أردوغان ” المتضمنةِ مبادرةَ حلًّ للأزمة مع العمال الكوردستاني, تتمحورُ حول إصدار قانون عفوٍ, يكونُ مكملاً لقانون الندم الموجود سابقاً, لا تزالُ تتفاعل في الإعلام التركي، وقد عبر الجيش التركي بعد القصف الجوي التمهيدي الحدود الدولية بين العراق وتركيا, في هجوم على معاقل حزب العمال الكردستاني, في المناطق الجبلية الوعرة بكردستان العراق, استغرقت مدة أسبوع, فشل خلالها الجيش التركي في تحقيق مخططه العسكري وانسحبَ بشكلٍ مفاجىء, ما اعتبره حزب العمال الكردستاني انتصاراً له, بعد مقاومة بطولية في مناطق “الزاب”.
جاءت الضربات الجوية والعملية العسكرية البرية لتقلبَ الطاولةَ على رؤوس المتفائلين والمستبشرين خيراً من تصريحات رأس الوزارة التركية رجب طيب أردوغان حينها, كما أنَّ الضربات الجوية تلك, والعمليات العسكرية البرية في كوردستان العراق التي أعقبتها, كانت بمثابة ردٍّ تركي على مشروع الحل السياسي الذي طرحه حزب العمال الكوردستاني قبل بدء تركيا أعمالها العسكرية, وتضمنَ جملة حلولٍ لإنهاء العنف الدائر, تتلخصُ في:
استعداد الحزب لوقف إطلاق نار مشروط بعفو عام تركي عن مقاتليه, والإفراج عن جميع قيادييه في السجون التركية, وقبول مشاركتهم في الحياة السياسية التركية.
سحب القوات التركية من كوردستان تركيا.
الاعتراف بالهوِّية الكوردية واللغة الكوردية.
حلُّ ميليشيات ” حراس القرى ” العميلة للدولة والموّجهة ضد حزب العمال الكوردستاني.
اعتماد التنمية البشرية في مناطق كوردستان تركيا, وتوسيع صلاحيات الإدارات المحلية فيها.
تحديد جدول زمني للسلام، يتم الاتفاق عليه بين الطرفين, يشهد تخلياً تدريجياً من العمال الكوردستاني عن السلاح.
عودة الجيش التركي بخفي “زاب”، والنقلة النوعية لأداء الحزب العسكري خلال معارك الزاب في فبراير 2008 وعدد من العمليات السابقة واللاحقة لها (آك توتون، وداغليجا), أسهم في تصاعد شعبية الحزب, وتحوله إلى بؤرةٍ أساس في المشهد السياسي التركي أكثر من ذي قبل، مهَّدَ الأرضية بالتالي للحكومة التركية للبحث عن حلولٍ أخرى سلمية، وإن كانت بالنسبة إليها بطعم العلقم، وهو ما يقوله الكاتب والمحلل السياسي التركي ” علي بيرم أوغلو ” في مقالٍ له بصحيفة ” يني شفق ” التركية يوم 25 يوليو 2009.
في انقلابٍ على وقائع الاجتياح الفاشل لإقليم كوردستان العراق لإنهاء حركة التحرر الكوردستانية عسكرياً وعلى النهج التركي السابق في التعامل مع الحركة إياها، بدأت نُذرُ موقفٍ تركي آخر مُغاير تلوح في الأفق، ففي 10 مارس 2009 أطلق الرئيس التركي عبد الله غول قُبيلَ توجهه في زيارة دولة إلى إيران, جملته الساحرة المُقتضبة ” أشياءٌ جميلةٌ ستحدث ” المتعلقة بالملف الكوردي، ومضى في 9 مايو إبان عودته من العاصمة التشيكية براغ إلى حدِّ القول أن المسألة الكوردية هي “المسألة رقم واحد التي تواجه تركيا, وينبغي حلها, هنالك فرصة لحلها, وينبغي عدم تفويتها”, ونقلت صحيفة ” حرييت ” التركية عنه, أثناء زيارته إلى دمشق, في منتصف شهر مايو, أنه تطرَّقَ مُجدداً إلى المسألة الكوردية, وأن تركيا تتجه إلى حلها, ويبدو أن غول في تصريحاته بمطار ” أسنبوا ” قبل التحليق إلى دمشق يوم الجمعة 15 أيار لم يشأ الإفراج عن حزمة الحل المتعلقة بـ ” الفرصة ” المفترض “عدم تفويتها”, مختاراً عوضاً عن ذلك الإفراج عنها بالتقسيط الممل, فهو أثنى على النقاشات الحية الدائرة في تركيا حول حل المسألة (الكوردية), موضحاً في معرض الردّ على أسئلة أحد الصحفيين، أن عزم الحكومة على إعادة أسماء القرى الكوردية السابقة إلى التداول هو دلالةُ ” النية الحسنة “على طريق الحل في تركيا (المجتمع المنفتح بتعبيره)، وكانت آخرُ مواقف” غولْ ” حول القضية الكوردية في تركيا, دعوته أثناء زيارته الأخيرة إلى قرغيزيا في 27 مايو الأحزاب الممثلة في البرلمان التركي إلى ضرورة المساهمة في حل القضية, باعتبارها ” قضية الجميع “.
خلال ذلك أعلنت حركة التحرر الكوردستانية تجميد عملياتها بمناسبة عيد النوروز القومي، ولانتظارِ ما ستسفر عنه الانتخابات المحلية التركية التي انطلقت في 29 مارس 2009 وشهدت فوز حزب المجتمع الديمقراطي الممثل للكورد في البرلمان التركي بـ رئاسة 98 بلدية في مدن وبلدات كوردستان الشمالية ( كوردستان تركيا )، ليتحول إلى حزبٍ أول في مناطق كوردستان تركيا، وإلى حزب رابع في تركيا بعد العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية اليميني، وأعطى ذلك دفعاً للأجواء الإيجابية والأحاديث الدائرة حول السلام في تركيا وكوردستان، فحركة التحرر الكوردستانية اختبرت من خلال العملية الانتخابية مدى قوتها وحضورها الجماهيري في الساحة السياسية التركية، وأثبتت أنها الطرفُ المقابل في كل تفاوضٍ محتمل مع الحكومة التركية، وهي أمورٌ شكلت خلفية لإعلان الحركة إيقاف أنشطتها العسكرية الهجومية في 13 أبريل، مكتفية بـ ” حق الدفاع المشروع عن النفس “، وهي الهدنة التي انتهت في 1 يونيو، وتم تجديدها من قبل الحركة لعددٍ من المرات لاحقاً.
ولم يكن لجوء حركة التحرر الكوردستانية إلى الهدنة الأحادية وتمديدها لعدد من المرات منذ 13 أبريل 2009 وليدَ ضعفٍ أو إنكسار في الإرادة السياسية للحركة، بل يتأتى نتيجة قراءة واعية وعقلانية للتطورات الدولية والإقليمية، أيضاً لإيمان الحركة بأن كل حرب أو أعمال عنفية إنما تكون وسيلة لأجل غاية، إذن ليسَ هنالك امتثالٌ من حركة التحرر الكوردستانية لمقولة ” هيراقليطس ” القائلة بأن ” الحربَ هي أمُّ كل الأشياء ” هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحكومة التركية اختارت الانخراط في العملية السلمية امتعاضاً من فشل المؤسسة العسكرية التركية، فحين تراهنُ أية حكومة على العسكر، وتضعُ كل بيضها في سلة الجنرالات، وحين يخيب الجنرالات الآمال المعلقة عليهم، ولا يستطيعون البرّ بوعودهم حول تصفية حركة تحرر أو قمع ثورة، فهذا يعني أن الحكومة التركية أو أية حكومة أخرى ستحاول البحثَ عن بدائل أخرى وحلول أخرى ومخارج أخرى لحلِّ المعضلة أو الأزمة التي تواجهها، ما دامت استنفذت الفرص والنجاح في رهانات ثبت بالأدلة القاطعة أنها غير مجدية، وأسوقُ دليلاً آخرَ على عدم ضعف حركة التحرر الكوردستانية، من إحصائية أخيرة لوكالة أنباء فرات ANF تشير إلى التحاق ما مجموعه 271 شاباً وشابة بصفوف قوات حماية الشعب في خلال شهري يوليو وأغسطس، إذن فإن جنوح الحركة إلى السلم هو موقفٌ سياسي ليسَ إلا.
في الأثناء أجرى الكاتب الصحفي التركي الشهير ” حسن جمال ” لقاءً مع ” مراد قره يلان ” أحد قادة حركة التحرر الكوردستانية في مناطق قنديل، وهو اللقاءُ الذي نشر في صحيفة ” مللييت ” التركية في شهر أبريل، وأعقبه جدلٌ واسع حول فرص اقتراب تركيا من السلام، وقد بدت تركيا سياسياً وإعلامياً مأخوذةً بتصريحات ” مراد قره يلان ” المُحرِّضة على ارتكاب السلام في كوردستان وتركيا, وإسكات أصوات البنادق، وقد قال ” قره يلان ” للصحفي ” حسن جمال ” : ” قبل الانتخابات مررنا بالشتاء الأكثر هدوءاً منذ 25 سنة, وهذا يعني أن الجيش متى ما أراد يستطيع الانتظار “، وكان يشير بذلك – في قراءة حسن جمال – إلى إمكان ولادة سلام بين الحركة والحكومة التركية.
لم تك تصريحات ” قره يلان ” خاتمة المطاف السلمي من الطرف الكوردي، فقد صدرتْ مقترحات أخرى حول حلِّ القضية الكوردية في تركيا سلمياً وديمقراطياً عن مؤتمر المجتمع الديمقراطي, الذي انعقدَ في مدينة آمد ( ديار بكر ) بمشاركة نحو 800 شخصيةٍ سياسية وحقوقية وثقافية ومندوبينَ مُختارينَ مُمثلينَ للعديد من المدن والبلدات الكوردية في كوردستان الشمالية, وختمَ أعماله بتاريخ 14 يونيو بقراءة توصياته من قبل النائب السابق “خطيب دجلة” في حديقة “كوشو يولو”، وهي توصياتٌ تصبُّ كلها في خانة النزوع إلى السلام، وأكد عليه الشعب الكوردي لاحقاً في 1 سبتمبر إبان الاحتفالات بيوم السلام في آمد (ديار بكر) وغيرها من المدن الكوردية.
في المقابل، حافظت الأوساط الرسمية التركية على تصريحاتها السلمية الحذرة، ولم تخطو الحكومة بجدية نحو السلام، إذا ما استثنينا المشاورات التي أجراها وزير الداخلية ” بشير آتالاي ” بتكليفٍ من رئيس الحكومة ” رجب طيب أردوغان “، وهي المشاورات التي اقتصرت على أحزابٍ ومؤسساتٍ ومنظماتٍ وجمعياتٍ في الطرف التركي، فيما أجرى رئيس الحكومة ” أردوغان ” لقاءً مع ” أحمد ترك ” رئيس حزب المجتمع الديمقراطي، ولكن بصفته رئيساً لحزب العدالة والتنمية وليس بصفته رئيساً للحكومة، فيما تناوبَ قطبا المعارضة في البرلمان ” دنيز بايكال ” رئيس حزب الشعب الجمهوري و” دولت باخجلي ” رئيس حزب الحركة القومية اليميني على إطلاق مواقف متشنجة، أوردها الكاتب ” فكرت بلا ” رئيس تحرير صحيفة “مللييت” في مقاله المنشور بتاريخ 13 مايو 2009.
فيما أعربَ رئيس أركان الجيش التركي الجنرال “إلكر باشبوغ” خلال زيارته لواشنطن في شهر مايو عن رفضه لأي انخراط تركي في السلام، وأثبت مجدداً أنه من أشد المُناصرينَ الغُلاةِ للحلول العسكرية في التعاملِ مع مشاكل وقضايا وأزمات تركيا, والقضيةُ الكورديةُ في صدارتها، وقد جاء ذلك في الحوار الذي أجراه الصحفي ” متهان دمير ” والذي نشر في صحيفة ” حرييت ” بتاريخ 4 يونيو 2009، وقد أكدَّت المؤسسة العسكرية التركية على موقفها الرافض من العملية السلمية المتحدث عنها في بيان نشرته على موقعها الالكتروني بتاريخ 25 أغسطس 2009 بشكل أكثر وضوحاً، وقد رتَّبَ فيه الجنرال “إلكر باشبوغ” آراء المؤسسة العسكرية من حلِّ الحكومة المزمع للقضية الكوردية في النقاط التالية :
عدم الإضرار لأيِّ سببٍ كان بشكل الدولة – الأمة، والدولة الموحدة الحالي.
تحترم المؤسسة العسكرية الفروقَ الثقافية في البلاد، ولكنها ترفض تسييسها، ولا تقبلُ بإدراجها في الدستور.
عدم السماح بفتح الطريق لأية علاقة مع حزب العمال الكوردستاني وأنصاره للانخراط في أية فعالية في البلاد.
ينبغي عدم نظر أوساط ناشطة في البلاد – مستفيدة مما أتاحته الساحة الديمقراطية لهم – بإيجابية وانفتاح إلى تنظيم يصادر الحق في الحياة، ويشير باشبوغ هنا إلى حزب المجتمع الديمقراطي الممثل للكورد في البرلمان التركي.
وتؤمن المؤسسة العسكرية بأن حرية مناقشة أيما موضوع سيعرض وجود الدولة للخطر، وتؤمن بضرورة عدم تضمين مواضيع في النقاشات، من شأنها حشر الدولة في القطبية والتفكك والصراعات.
ما جرى في تركيا حيال الانفتاح على القضية الكوردية ابتداءً من تصريحات الرئيس التركي ” غول ” في شهر مارس والمواقف اللاحقة، تمَّ وأدها في اجتماع مجلس الأمن القومي التركي الذي انعقد في الخميس 20 أغسطس 2009، رغمَ أنَّ الهواء السياسي الداخلي التركي في الفترة بين تصريح ” غول ” واجتماع المجلس الأمن القومي التركي لم يكُ مواتياً لحل القضية أو إلقاء خطوات ملفتة فيها، بل اتسمت الفترة، على العكس من ذلك، بالتصريحات المتحفظة والتردد والارتباك، فالحكومة التركية استخدمت على التوالي اصطلاحاتٍ متباينة في مقاربتها للقضية الكوردية ( المشكلة الكوردية في الخطاب الرسمي والإعلامي التركي )، إذْ بدأتْ باصطلاح ( حلّ المشكلة الكوردية )، ثم لجأت إلى اصطلاح ( الانفتاح على الكورد )، ثم ( الانفتاح الديمقراطي )، وأخيراً أطلقت على تحركات الحكومة في الملف الكوردي تسمية ( مشروع توحيد الأمة )، ولقاءات وزير الداخلية ” بشير آتالاي ” كانت لقاءات محصورةٍ بالطرف التركي فقط، فهوَ التقى عشرات الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات والجمعيات والنقابات التركية، ولم يلتقِ مطلقاً بأيّ إطارٍ يمثلُ المكون الكوردي، وأيضاً بأي إطار من مناطق كوردستان تركيا، وكأن المعنيين بالسلام في تركيا هم الأتراك فقط، وورشة العمل حول حل القضية الكوردية التي عقدت في أكاديمية الشرطة التركية خلت أيضاً من أي حضور لمثقفين أو كتاب كورد، كما يشير الصحفي ” روشن جاكر ” في مقال له عن الورشة، إذ لم تتم دعوة أي من الكتاب والمثقفين الكورد من قبل إدارة الأكاديمية.
تضخمت أجواء اللا حلِّ لاحقاً بعد اجتماع مجلس الأمن القومي المذكور كما سبق وأشرنا، وكان بيان رئاسة أركان الجيش الذي أشرنا أعلاه إلى مجموعة تحفظاته أحد العناوين البارزة على طريق اللا حلِّ، ولم يستخدم الوزير ” آتالاي ” في مؤتمره الصحفي يوم 31 أغسطس 2009، وهو يتحدثُ عن حلِّ القضية الكوردية ( المشكلة الكوردية )، كلماتٍ من قبيل : كوردي، أو كورد، أو كوردستان، وبعامة فإنّ وزير الداخلية راعى في ذلك مشاعر ووجهات نظر حزبي الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية وتحفظاتهم على مقاربة الحكومة، وقد أحبط الآمال الكوردية في الحل السلمي الديمقراطي لقضيتهم المزمنة، حين أكد على أوَّالية العلم الواحد، والدولة الواحدة، والشعب الواحد، والنشيد الوطني الواحد، ورفض إصدار عفو عام، وتأجيل متابعة التحرك الحكومي في الملف الكوردي إلى إشعارٍ آخر، وتبينَ لاحقاً أنَّ الملف سيُحملُ إلى البرلمان التركي للنقاشِ حوله، ونحنُ نكتبُ هذه السطور قررت الحكومة التركية مناقشةَ الملف في البرلمان التركي يوم 10 نوفمبر 2009، وقد تمخضَ عن الاجتماع المذكور مُصادرةُ الحكومة التركية لـ ” خارطة الطريق ” التي أعدَّها زعيم العمال الكوردستاني ” عبد الله أوجلان ” في سجن ” إمرالي “، رافضة الإفصاح عنها للرأي العام أو تسليمها لمحاميه وبالتالي للطرف الكوردي حتى ساعة كتابة هذه الأسطر، كما طلبَ رئيس الوزراء ” أردوغان ” في 13 سبتمبر 2009 من المؤسسة العسكرية مواصلة العمليات العسكرية ضد مقاتلي حزب العمال الكوردستاني، مطالباً الأصوات الداعية إلى إيقاف الجيش التركي عملياته بالصمت والسكوت، كما وأعلن خلال ذلك موقفه من العملية السلمية التي طرحتها حكومته، مبيناً أنها لعزل حزب العمال الكوردستاني، فيما طلبت المؤسسة العسكرية وفاقاً لذلك تجديد تفويضها بدخول إقليم كوردستان العراق لملاحقة الحزب، وهو التفويض الذي منح لها في أكتوبر 2007 للمرة الأولى في خلال السنوات القليلة الماضية، وقد جددها البرلمان التركي بناءً على اقتراح الحكومة في أكتوبر 2009 أيضاً.
وهيَ مُجملُ الأمور التي عدَّها ” أوجلان ” وقيادات حزب العمال الكوردستاني وقيادات حزب المجتمع الديمقراطي انسداداً سياسياً رسمياً تركياً حيال ملف السلام مع الطرف الكوردي وتراجعاً ملفتاً عنه.
العمال الكوردستاني صاعداً حتى السلام…
وقدْ شكلت مجمل الأمور التي تقدم ذكرها عوامل نابذة أمام تبلور رؤية أو خطوة عملية في ملف السلام المطروح من قبل الحكومة التركية، ولم يكُ أمامَ الطرف الكوردي سوى اختبارُ نوايا الحكومة، وهذا ما كان حين وجّه ” أوجلان ” من سجن ” إمرالي ” في 9 أكتوبر خلال لقاءه الأسبوعي مع محاميه نداءً إلى حزبه، لإرسال مجموعتي سلام إلى تركيا، لفتح شرايين السياسة الرسمية التركية المسدودة، ليقرر حزب العمال الكوردستاني لاحقاً من معاقله في جبال قنديل تلبية النداء وإرسال ثلاثِ مجموعاتِ سلام إلى تركيا، من مخيم مخمور للاجئين، وجبال قنديل، وأوروبا.
وقد عبرت قافلةُ السلام الأولى المؤلفة من مجموعتين قادمتين من مخيم مخمور وجبال قنديل تضمان 34 شخصاً إلى تركيا من بوابة الخابور الحدودية بين العراق وتركيا في 19 أكتوبر 2009، وبعدَ انتظارٍ ماراتوني على المعبر الحدودي لحين الانتهاء من الإجراءات القانونية ( فعلٌ يذكرُ بمحنة أعضاء مجموعتين سلميتين توجهتا إلى تركيا في أكتوبر 1999 وأيضاً بناء على نداء لأوجلان ومبادرة من حزبه ليتم توقيفهم وإصدار أحكام قضائية تراوحت بين الثلاث سنوات ونصف وخمسَ عشرة سنة عليهم )، غادر أعضاء القافلة المركز العسكري على المعبر، ليتم استقبالهم من آلاف مؤلفةٍ من أبناء وبنات الشعب الكوردي الذين كانوا في الانتظار، يتقدمهم قياداتٌ وبرلمانيونَ من حزب المجتمع الديمقراطي، ويشهد الاحتفاء الكوردي بالسلام ورسل السلام الذروة في مدينة آمد ( ديار بكر )، وقد أعربَ رسلُ حزب العمال الكوردستاني للسلام على المعبر الحدودي وخلال مسيرِ موكبهم في العديد من مدن وبلدات كوردستان متوجهاً إلى عاصمة الشمال الكوردي آمد، عن نشدانهم للسلام وإيقاف نزيف الدم في تركيا وكوردستان، مُحمَّلينَ لذلك برسائلَ موجهة من العمال الكوردستاني إلى المؤسسات الرسمية للدولة.
ولكن مبادرة العمال الكوردستاني بقيتْ مُعلَّقة في الهواء، ويده الممدودة للسلام قوبلتْ بيدٍ تركية في الجيب، إذْ أنَّ تصريحات أركان الدولة التركية إزاء المبادرة ومشهد استقبال المجموعتين السلميتين كوردياً كانت مزيجاً من الامتعاض والاستنكار للاحتفاء الجماهيري الكوردي الصاخب بهم، فيما أصرت وسائل الإعلام التركية على استخدام مفردة ” الاستسلام ” في تغطيتها للحدث الكبير ( بتوصيف الكاتب أحمد آلتان ) على معبر الخابور، ورغم أنَّ أعضاء المجموعة السلمية كرروا مراراً أنهم قادمونَ إلى تركيا لدفع العملية السلمية المتجمدة، إلا أنَّ التعامل الرسمي والإعلامي التركي لم يختلف أيضاً، ويمكن عدُّ السلوك الرسمي التركي في تعاطيه مع قافلة السلام القادمة من معبر الخابور دلالة خوف من السلام، وتعرية لخطاب الحكومة التركية التي تكرر في المناسبات كافة، أن حزب العمال الكوردستاني تنظيم إرهابي لا يأبه بالسلام، ولكن اتضح بعد حدث معبر الخابور أن الحكومة التركية تريد عملية سلمية مطابقة لمواصفاتها وأجندتها، وربما كان لذلك دوره في إيعازها لسفارتها في ألمانيا بعدم منح تأشيرات لأعضاء قافلة السلام الثانية التابعة لحزب العمال الكوردستاني الذين كانوا يزمعون الانطلاق من مطار دوسلدورف متوجهين إلى مطار اسطنبول التركي.
قراءة في السلوك الرسمي والإعلامي التركي…
من خلال متابعتنا للإعلام التركي كموجه للرأي العام ومرآة للمجتمع التركي، نخلصُ إلى أن هنالك سيادة لثقافة وقيم متسمة بنظرة سكونية إلى الآخر، وهي بطيئة من حيث قابلية التحول والتبدل، وبالتالي الانفتاح على الآخر غير التركي، ينتج عنها علاقة عضوية بين الرأي العام التركي والمناخ السياسي السائد، نخلص إلى هذا من خلال القراءة التحليلية والتفسيرية لمثلث : الإعلام التركي، والروح القومجية، والرأي العام، يؤخر ذلك بشكل أو بآخر نمو وتبلور مفهومة المجتمع المدني ومؤسساته كعاملٍ حاسم في الداخل، ما سيشكل جوهر عملية التحول الديمقراطي في تركيا، إذ من المتعارف عليه أن صعود قوى المجتمع المدني الحاملة لقيم مختلفة عن تلك التي أشاعها الفهم الأحادي القائم في البلاد، من شأنه قيادة أو توجيه مرحلة التحول الشعبي والنخبوي ( النخب السياسية والثقافية ) باتجاه شكل مفارق من القيم، قائم على المواطنة والحرية والمساواة والتعددية، ولذلك تعد العلاقة القائمة بين النظام والمجتمع ذات دور حساس ومحوري في توجيه عملية التحول الديموقراطي، والملاحظ أن تركيا كدولة تفتقرُ إلى تلكم العلاقة التي من شأنها إحداث نقلة نوعية، إذ تبدو تعبيرات المجتمع المدني في تركيا اليوم ( أحزاب ونقابات ومنظمات ومؤسسات وصحافة ) مخترقة من تلكم المفاهيم الأحادية، ومفككة أو ضعيفة، ولا يمكنها والحالة هذه الضغط على النظام السياسي والذهنية السياسية والتوجهات السياسية في البلاد، رغم أنها قياساً إلى بلدان أخرى في الشرق الأوسط أكثر جدوى وفاعلية.
ومن معاينة ردود الفعل التركية ( مؤسسة الرئاسة، والحكومة، ومؤسسة المعارضة، والمؤسسة العسكرية، الصحافة، قسم كبير من الرأي العام التركي ) على مبادرة حركة التحرر الكوردستانية بإرسال وفد سلام من مخيم مخمور ومناطق قنديل إلى تركيا بناء على نداء من قائدها أوجلان، نلاحظ أن الذهنية القائمة وهي مزيج من الثقافة السائدة والقيم الموجهة، اتصفت بمواقف سلبية، تفاقمت في حالات منها إلى عنف وإقصاء ورفض، تمثل في رفض مظاهر الاحتفاء الكوردي برسل السلام القادمين إلى تركيا (الرئيس غول ورئيس الوزراء أردوغان)، واعتبارهم خونة (دولت باخجلي)، وشن الشباب القومجي المؤرقين بتحريضات زعيم حزب الحركة القومية اليميني المتطرف لهجوم على عدد من مقار حزب المجتمع الديمقراطي ممثل المكون الكوردي في البرلمان التركي، وتكلل كل ذلك باعتقال قيادات محلية في حزب المجتمع الديمقراطي، بعد تصريحات لوزير الداخلية “بشير آتالاي” الذي ألمح أيضاً في تصريحات أعقبت خطوة حركة التحرر الكوردستانية بأنهم سيكبحون انفتاحهم (المزعوم) إلى إشعار آخر، في انتظار عودة كل أعضاء حزب العمال الكوردستاني إلى تركيا، وهذا ينمُّ عن سوء فهمٍ تركي لمبادرة حركة التحرر الكوردستانية أولاً، ونوايا تركية سيئة ثانياً، وهي النوايا المبيتة التي أمست علنية إزاء إصرار أركان الدولة التركية على إنهاء وتصفية حركة التحرر الكوردستانية، مراهنين في ذلك على المناخ السياسي المستجد مع دول الجوار وفي مقدمها سوريا والعراق وإيران، والمفارقة في تصريح الوزير ” آتالاي ” المتعلق بوقف جهود ومساعي الانفتاح إلى أن يعود كامل أعضاء حزب العمال الكوردستاني إلى تركيا، أنه يري الحكومة التركية غير جادة ومتناقضة ويكشف عن توجهاتها الزائفة، فأي انتظار واهٍ هذا، وهم الذينَ يمنعون ويعرقلون جهود الطرف الكوردي في إرسال مجموعة سلام من أوروبا، أليس ذلك كفيلاً بإظهار عمق الامتعاض التركي من المبادرة الكوردية التي عرت الانفتاح المزعوم من الحكومة، وألقت بورقة التوت الأخيرة عن الحكومة ومؤسسات الدولة.
المؤسفُ في الحالة التركية، بعدَ تصريحاتٍ لرئيس الحكومة “أردوغان” حول إصرارهم على تطبيق المادة 221 من قانو مكافحة الإرهاب التركي على القادمين إلى تركيا، أن القوانينَ في عرفهم تتصفُ بالصدقية الكلية، والمواقف والمقاربات تنطلقُ من ثوابت كلية مفترضة، ما يؤدي إلى تضخم حالة من الجبرية السياسية وحيدة الاتجاه، وكأن في تركيا توتاليتارية من نوع آخر، هي مزيج من توافق ضمني بين المؤسسات الرئيسة ( الرئاسة، ورئاسة الوزراء، ورئاسة أركان الجيش، ومؤسسة المعارضة، ومؤسسة الاستخبارات )، وهذا المزيج بتعبير المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه ” مفهوم التاريخ ” يُنتجُ تأليه التاريخ، ويدعو إلى الرضوخ والانقياد، ويتحول بالتالي إلى تربة خصبة لكل أشكال الطغيان والتعصب، ولهذا المزيج / النسق التركي التاريخي تأثيره العياني السالب على البلاد، حيث تبدو وسائل الإعلام التركية وعبرها الرأي العام مُختطفين من قبل النسق، ولا يحظى الآخر والحالة هذه سوى بتهميشه وإقصائه، كون النسق المذكور لم يحتفي تاريخياً سوى بتدمير الآخر المختلف قومياً وإفنائه وتهجيره ومحو هويته الثقافية، ويشكل هذا دلالة إضافية على معادة الكثير من القوى في تركيا للديمقراطية معتقدياً، رغم أنها بالديمقراطية تصلُ إلى البرلمان، وبالديمقراطية تمارسُ حريتها في التعبير عن إلغاء الآخر وتهميشه وتخوينه.
mbismail2@hotmail.com