الإسلاميون، الإسلام السياسي، الأصولية، الإخوان، الوهابيون، السلفية الجهادية، الجهاديون، السلفيون، القاعدة، النصرة، داعش، جيش الإسلام، أنصار الشريعة (سمِّهِم ما شئت). هذه كلها أغصان على شجرة واحدة. ستجد بين “الخبراء” على شاشة التلفزيون من يبيّن لك الفرق بين هذا الغصن وذاك.
بيد أن “الخبير” غالباً ما يغض النظر عن حقيقة أن الفرق بين هذا الغصن وذاك، لا ينفي قانون الأواني المستطرقة، الذي يحكم وجود هؤلاء، والعلاقات العضوية، والموضوعية، التي تبرر وضعهم في سلة واحدة.
كما ويفشل “الخبير”، المولع بالتفاصيل، في التركيز على حقيقة أن مجرد وجود هؤلاء يدل على وجود مرض في مكان ما. ليس صحيحاً أن القمع، والأنظمة الدكتاتورية، والتدهور الاقتصادي، يمكن أن يؤدي إلى ولادة كل هؤلاء.
فقد عاشت أميركا اللاتينية في ظل أنظمة دكتاتورية، وعانت من الفقر، وشن معارضون في دولها ومجتمعاتها حروب عصابات، وقتلوا جنوداً في الجيش ومدنيين، وفجروا قنابل في أماكن عامة. وهذا ما ردت عليه الدكتاتوريات بمزيد من القتل. ومع ذلك لم يحدث هناك ما حدث ويحدث في العالم العربي. ولتذهب باكستان وأفغانستان إلى الجحيم، فهؤلاء ليسوا منّا، ولم يكونوا جزءاً من تاريخ العالم العربي وهمومه منذ قرون.
وحتى إذا وضعنا الصراعات الداخلية جانباً وتكلمنا عن حروب التحرير. خاض الفيتناميون حرب تحرير مديدة، جابهوا أقوى آلة عسكرية في العصر الحديث، وألحقوا بها هزيمة مدوية، لا بالعمليات الانتحارية، وقطع الرؤوس على شاشة التلفزيون، والسيارات المفخخة، بل بحرب العصابات، وبالعنف الثوري، الذي يمثل نقضاً ونقيضاً دائماً للإرهاب الأعمى. الجزائريون، أيضاً، خاصوا حرب تحرير مجيدة ومديدة، لم يفجروا أنفسهم في شوارع باريس، ولا فخخوا سيارات في الميادين العامة.
ما يمكن وصفه بالمرض يكتسب قدراً إضافياً من الخطورة، وهي وجودية في جميع الأحوال، إذا أدركنا حقيقة أن لكل الجماعات التي ذكرناها جمهور، وقدرة على التجنيد، ودول حليفة، مباشرة ومداورة، في الإقليم، وموارد مالية، ومنابر إعلامية.
من المنطقي والمفهوم أن تتبنى جماعات مختلفة أيديولوجيات دينية، وأن تحاول الرد على الدولة القومية الحديثة، وهي علمانية في الجوهر، بضرورة العودة إلى قيم الدين والتقاليد. فعدد هؤلاء في ما يدعى بحزام الكتاب المقدّس في أميركا، أكثر من عدد الإسلاميين في العالم العربي. ومع ذلك لا عمليات انتحارية، وسيارات مفخخة، ولا قطع للرؤوس، ولا أنصار للشريعة.
ويُقال لك: ولكن الإسلاميين فِرَق ونِحَل، وليسوا كلهم من دعاة التطرف وممارسيه. ولكن هذا القول لا ينفي حقيقة أن الأقل تطرفاً يستفيد من الأكثر تطرفاً، وأن المعتدل قد يشهد انشقاقات متطرفة في يوم ما. ولا تعرف ما إذا كان الاعتدال مجرد خدعة حتى يأتي زمن التمكين، وحينها لكل حادث حديث.
وإليك الدليل: قال الغنوشي، قبل أيام، وهو إخواني عريق، في معرض نقده لتجربة الإخوان في حكم مصر، إن إخوان مصر تصرفوا بطريقة صبيانية، و”انشغلوا بأمور الدولة ليتمكنوا منها فابتعدوا عن الشعب فعزلهم”.
المهم أن أردوغان التركي، صاحب المشروع الإمبراطوري العثماني، حجب كلمة الغنوشي في الاجتماع الدولي للإخوان المسلمين في إسطنبول، ومنع بثها في وسائل الإعلام، لأن الأخير تكلّم عن “الصبيانية، والغرور، وقصور الأدوات، وانعدام الخبرة”.
وهذا ما يمكن لنا ترجمته بطريقة أخرى: “أنصار الشرعية والشريعة” في مصر، يريدون إعادة جماعة صبيانية، ومغرورة، وقاصرة، وعديمة الخبرة (بشهادة شاهد من أهلها هو الغنوشي) إلى الحكم. ألا يمكن، وبالمنطق، إيجاد صلة موضوعية بين “الصبيانية، والغرور، وقصور الأدوات، وانعدام الخبرة” والعمليات الإرهابية التي تعصف بمصر الآن.
الخلاصة: لا نعرف، حقاً، ما إذا كان الاعتدال مجرّد خدعة، وممارسة للتقية الأيديولوجية، في انتظار زمن التمكين. في الماضي، قبل ربيع الشعوب العربية، والانتخابات، كان يُرد على كلام كهذا بالقول: أعطوهم فرصة، وستروا بأنفسكم أن لا أساس في الواقع لكل هذه المخاوف والشكوك. لا بأس. نالوا الفرصة، ولكن “الشعب عزلهم”، وهذا ما شهد به شاهد منهم في إسطنبول، وما أغضب أردوغان. الشاهد أراد تبرير ميله إلى المساومة في تونس للحيلولة دون نهاية كنهاية الإخوان في مصر، والغاضب يرى في كلام كهذا ما يزعزع المشروع الإمبراطوري العثماني الجديد.
فلنفكر في خلاصة إضافية: ما يحدث في العالم العربي، وللعالم العربي، فريد وغير مسبوق: مجتمعات تنحلّ، ودول تتفكك. وفي كل مكان وهنت فيه سلطة الدولة ظهرت، كالفطر السام، جماعات وعصابات تقول للناس: إما نحكم بما شئنا، وكما شئنا، وإلا قتلناكم. وفي هذا المنطق ما هو أبعد من فكرة الظلم، والدكتاتورية، والتدهور الاقتصادي، وحتى إسرائيل (الشماعة التقليدية لكل شيء). ثمة ما هو أبعد.
بدأ فصل من فصول الحكاية مع ضياء الحق في باكستان، وأنور السادات في مصر، والجهاد الأفغاني، وتضخّم أرصدة السعوديين في البنوك، بعد حرب أكتوبر. وبدأ فصل مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وقطر وأردوغان، وفصل آخر مع ثورات الربيع العربي. هذه كله معروف. وهذا كله، معطوفاً على الظلم، والدكتاتورية، والفقر، لا يبرر، ولا يفسر، ما يحدث الآن. وحتى إذا فكرنا في العلاج سيحتاج الأمر إلى جيل أو جيلين، قبل تحقيق نتائج ملموسة وحاسمة، وتحصين العالم العربي من حروب داعش والغبراء
khaderhas1@hotmail.com