يمثل مؤتمر فتح والمرحلة القريبة التي ستليه الامل الاهم لانتشال الحركة من جمودها وتراجعها وتفككها ويمثل بنفس الوقت الامل لخروج القضية الفلسطينية من مأزقها الراهن. ويسجل لفتح انها فجرت الكفاح المسلح الفلسطيني عام ١٩٦٥ وانها انتقلت من ارض الى اخرى ومن الاردن الى لبنان بحثا عن طريق للعودة والتحرير. نجحت تلك الحركة في التحول لصرخة جيل عربي وفلسطيني ولبناني اراد ان يعيد فلسطين ويحرر الارض ويحقق العدل. ان اهم ما ميز فتح التي نشأت في زمن تميز بسيطرة الاحزاب العربية القومية انها لم تتحول لحزب. ففكرة الحركة بقيت محركا لهذا التنظيم بصفته يمثل تآلفا بين عدة تيارات وشخصيات واراء ينضوي في تيار عريض من اهم شعاراته فلسطين اولا. ان بقاء فتح حركة وليس حزبا اعطاها الكثير من المرونة في ظل وجود قيادة تاريخية تميزت هي الاخرى بالمقدرة على الابقاء على الهدف، فبين عرفات وابوجهاد وابواياد وابوالسعيد وابو مازن وابواللطف وهاني الحسن وغيرهم حققت فتح تأثيرها الاقليمي والعربي والفلسطيني.
لكن عصف الازمان وتداول الايام ادى الى جمود فتح وتراجعها. لقد اختبرت فتح مرحلة تطويق ودفاع صعب منذ انتقالها الى لبنان بعد احداث الاردن عام ١٩٧٠-١٩٧١. اصبحت الارض تتحرك باستمرار تحت اقدام فتح. لكن الامر ازداد صعوبة مع بدء الحرب الاهلية اللبنانية عام ١٩٧٥ ثم مع حرب اسرائيل الكبرى عام ١٩٨٢ واحتلالها للبنان وسط عشرات الالوف من القتلى والجرحى، بعد ذلك مرت الحركة بمصاعب واضحة في معارك الانشقاق مع ”فتح الانتفاضة“ بقيادة ابوموسى وابوصالح وابوخالد العملة عام ١٩٨٣ ثم معارك المخيمات بقيادة الشهيد علي ابوطوق ١٩٨٦وصولا الى الانتفاضة الاولى ١٩٨٧. في نهاية المطاف في الثمانينات فقدت فتح قاعدتها الامنة في لبنان مما وضعها في مهب الريح وجعلها تقع تحت تأثير دول عربية محيطة بأكثر مما تحتمل القضية الفلسطينية.
مع الانتفاضة الاولى بدت فتح وكأنها في الطريق الى اعادة رسم صورتها وترتيب صعودها، لكنها ارتكبت خطأ استراتيجي(سببه الى حد خروجها من بيروت ١٩٨٢ ووجودها في عدة دول بلا قاعدة تنطلق منها) في حرب ١٩٩٠ ابان الغزو العراقي للكويت، وقد دفعت خاصة على الصعيد الخليجي ودفع معها الشعب الفلسطيني من جراء هذا الخطأ الكثير. كل هذا اثر سلبا في قوة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) ومقدرتها على الامساك بخيوط الوضع السياسي الفلسطيني.
ومع ذلك استمرت حركة فتح في العمل والتأثير وهي التي تمتلك ألف روح بسبب ارتباطها العضوي بقضية عادلة هي من اكثر القضايا عدلا في التاريخ الحديث. لقد شكلت اتفاقات اوسلو عام ١٩٩٤ بداية جديدة للحركة واعطت تلك الاتفاقات الانطباع بأن عودة فتح الخارج الى الداخل المحتل سوف يعيد للحركة الفلسطينية القاعدة الامنة التي فقدتها في لبنان وجنوبه.
لكن حركة فتح واجهت مأزقا كبيرا في فهمها للاتفاق وانشاء سلطة فلسطينية تحت قيادتها. لم يعد المطلوب من فتح بعد عودتها لغزة والضفة الغربية بعد عام ١٩٩٤ ادامة الكفاح المسلح، بل ادامة القضية الفلسطينية وحماية الارض والسكان والقدس من خلال بناء دولة وانجاز مفاوضات ناجحة والتحول الى السلطة الوطنية الاولى التي ينشأها الشعب الفلسطيني منذ نكبته عام ١٩٤٨. هنا وجدت فتح صعوبة في التأقلم من واقع انها حركة شتات فلسطيني وحركة كفاح مسلح نشأت خارج فلسطين الى حركة لبناء دولة وانظمة وقوانين وانتخابات وفوق كل شيئ سلطة عادلة رحيمة وانسانية مع شعبها. لم يكن من السهل تحول المقاتلين في الجبال والكهوف الى بناة اجهزة حكومية ومؤسسات دولة.
ومع بدايات نشوء السلطة بعد ١٩٩٤ في الضفة وغزة بدأ الفساد يلف قطاعات من الحركة، وبدأ بعض من المقاتلين والقادة العسكريين الفتحاويين الذين خاضوا عشرات الحروب والمعارك يشعروا بأن السلطة هي جائزتهم على كل ما قاموا بعمله في السابق بغض النظر عن كفاءتهم وقدراتهم. بدأ القادم من الخارج يتصرف على انه حرر الارض واستحق المكافأة الشخصية متجاوزا حقيقة ان الارض لم يكن لتتحرر لولا نضال سكان الارض المحتلة وصمودهم الانساني والكفاحي. جاءت مع فتح الخارج مشاعر من العليائية والجمود وتقاسم الغنائم مما دفع بها الى خسارة دورها وموقعها الروحي والانساني. لقد صب كل هذا لصالح حماس التي تقدمت المواقع بصفتها حركة اكثر تداخلا مع المجتمع الذي نشأت به في غزة والضفة الغربية.
لهذا بالتحديد يمثل مؤتمر فتح والممارسات التي ستليه اخر امل لبناء رؤية جديدة ولتجديد القيادة ولتحسين الواقع. فأمام النضال الفلسطيني مهمة تحرير ارض وتحقيق الحقوق و انشاء دولة ومؤسسات وكيان، فبلا دولة لن يكون هناك حاضن للمسألة الفلسطينية ولا للحقوق التاريخية. امام فتح مسـؤولية عدم التفريط بامكانية انجاح بناء سلطة وطنية عقلانية ديمقراطية حديثة. بلا دولة لن يكون ممكنا بناء واقع جديد للفلسطينيين ومخاطبة قضاياهم في الداخل والخارج، خاصة وان حماس ورؤيتها لا تمثل طريقا للشعب الفلسطيني. وبلا دولة حديثة وعصرية وتنموية وحقوقية وانسانية ترعى التعليم والثقافة والنهضة والحقوق لن يكون هناك مستقبل للشعب الفلسطيني. يجب ان يتذكر كل من يحرص على القضية الفلسطينية بأنها في نهاية اليوم تواجه دولة صهيونية حديثة مدنية ديمقراطية (لليهود) قوية تريد الارض كلها وتسعى لاستغلال كل نقطة ضعف وكل تآكل في الوضع الفلسطيني.
ان الدولة الحديثة الديمقراطية العادلة ضرورة لديمومة القضية الفلسطينية، وفتح هي التيار الكبير والوحيد الذي يمتلك المقومات السياسية للدخول بهذا المشروع واشراك جميع الاخرين(حماس والشعبية والديمقراطية….) معه. بلا فتح ستتراجع فكرة الدولة الفلسطينية برمتها وسيزداد الوضع بؤسا في ظل الاستيطان والتهجير والاقتلاع.
يبقى السؤال: هل تعي فتح موقعها في هذا التاريخ والواقع؟ هل تعرف فتح كم من مسؤولية تقع عليها؟ هل تعي فتح ان فشلها سيتحول فشلا للقضية التي قاتل من اجلها واستشهد من اجلها عشرات الالوف من العرب والفلسطينيين واللبنانيين والاردنيين والعراقيين والمصريين والخليجيين ؟ هل تعي فتح اين تقف وعلى اي ارض تقف وفي مواجهة من؟ ان المهمة كبيرة، ولكن قبل البدء في التصدي لها: على فتح ان تتحول وعليها ان تتجدد.
حركة فتح وحجم المسؤولية!
و لن تتجدد